د . محمد كمال يكتب : التحديات التى فرضتها حادثة الأسكندرية يفرض علينا الحدث الإرهابى الذى وقع فى كنيسة القديسين بالإسكندرية عددا من التحديات، ولكنه يطرح أيضا مجموعة من الفرص التى يمكن أن تنقلنا إلى مرحلة جديدة فى التعامل مع ملف المواطنة فى مصر. وقد استطاع الشعب المصرى اجتياز التحدى الأول الذى فرضه هذا الحدث، ومن خلال إدانة كل أطراف الجماعة الوطنية لهذه الجريمة الإرهابية، وعبر المواطن العادى عن مشاعر صادقة وحقيقية من الحزن والغضب لفقدان هذه الأرواح المصرية البريئة. ومثلت هذه المواقف والمشاعر لحظة توحد بين أبناء الشعب المصرى بغض النظر عن الدين أو النوع أو المستوى الاقتصادى أو الاجتماعى، أى أنها مثلت تجسيدا واقعيا لمفهوم المواطنة. ومن ثم فإن هذه اللحظة تمثل فرصة نادرة للتعامل بشكل مختلف مع ملف المواطنة، انطلاقا من مشاعر التوحد التى عبر بها كل مصرى، وبهدف أن تتحول هذه اللحظة من التوحد والاندماج إلى حالة دائمة. ويتطلب هذا الأمر التعامل مع الأولويات التالية : أولا : من المهم مساندة أجهزة الأمن والعدالة فى جهدها لمعرفة من شارك فى تنفيذ وتخطيط هذا العمل الإرهابى، وتقديمهم للعدالة الناجزة والسريعة، وتطبيق أحكام القانون الحاسمة والرادعة عليهم. وبالرغم من أننا نتعامل هنا مع جريمة إرهابية واضحة الملامح يتضمن القانون عقوبات رادعة للمتورطين فيها، إلا أننا قد نحتاج إلى مراجعة الإطار القانونى المرتبط بالجرائم الأخرى ذات البعد الطائفى، خاصة تلك المتعلقة بازدراء الأديان أو التحريض على أبناء طائفة معينة، وهو ما أصبح يطلق عليه فى العالم اسم جرائم الكراهية HATE CRIMS سواء بتفعيل العقوبات الحالية الموجودة فى القانون، أو تغليظ هذه العقوبات، وقد وضعت معظم دول العالم بما فيها أكثرها ليبرالية حدودا واضحة بين حرية التعبير، وبث ثقافة الكراهية والتحريض ضد أبناء دين معين أو طائفة محددة. ثانيا : تفرض علينا الأحداث الأخيرة ضرورة الإسراع فى استكمال قواعد الدولة المدنية، وبحيث تصبح المؤسسات المدنية فى هذه الدولة هى الإطار الأساسى لتجميع مطالب المواطنين والتعبير عنها، وليس المؤسسات الدينية سواء المتمثلة فى الكنيسة أو المسجد أو رموز هاتين المؤسستين، ويتطلب الأمر رؤية جديدة لدور الأحزاب فى الحياة السياسية، وكيفية تمكينها لتجميع مطالب المواطنين والتعبير عنها. ويقع على عاتق الأحزاب - بما فيها حزب الأغلبية - اجتذاب القيادات الطبيعية خاصة من شباب المسيحيين للعمل السياسى من داخل هذه الأحزاب، وزيادة تمثيلهم فى البرلمان، وتتيح النظم الانتخابية المختلفة - بما فيها النظام الفردى - أساليبا ديمقراطية لضمان تنوع التمثيل البرلمانى. ومن المهم دراسة هذه الأساليب والنظر فى تطبيقها. ثالثا : هناك حاجة للتعامل السريع مع القضايا العالقة منذ عدة سنوات وعلى رأسها موضوع بناء الكنائس وقانون الأحوال الشخصية للمسيحيين. وبالنسبة لموضوع بناء الكنائس، وبالرغم من التطور الذى حدث فى السنوات الماضية سواء بالنسبة لتسهيل إجراءات ترميمها أو العدد الكبير الذى تم بناؤه من الكنائس، فإن الأمر لايزال يمثل إحدى القضايا المهمة فى ملف المواطنة. والواقع أن الحزب الوطنى قد قام خلال الشهور الماضية - وقبل حادثة الإسكندرية - بمراجعة القواعد القانونية المنظمة لبناء الكنائس، وطرح مجموعة من الأفكار لتطوير هذه القواعد، وبحيث يكون أسلوب الترخيص لبناء الكنائس وترميمها شبيها بذلك المتعلق بالمساجد، وتحقيق العدالة فى هذا الشأن استنادا لقواعد ومعايير واضحة. وحان الوقت لأن تجد هذه الأفكار طريقها للتنفيذ. ونفس الشىء ينطبق على القانون الموحد للأحوال الشخصية للمسيحيين، حيث قامت وزارة العدل - خلال الشهور الماضية - بفتح حوار مع الطوائف المسيحية المختلفة للاتفاق حول نصوص هذا القانون، وقطعت شوطا طويلا فى هذا الصدد. ومن المهم البدء فى طرح أهم ملامح مشروع هذا القانون، تمهيدا للتقدم به للبرلمان. وقد يكون من المهم أيضا النظر فى عدد من المبادرات التشريعية التى اقترحها المجلس القومى لحقوق الإنسان، وخاصة تلك المتعلقة بمناهضة التمييز، وتحقيق تكافؤ الفرص، انطلاقا من مبدأ المواطنة. رابعا : لا يمكن إغفال دور المؤسسة التعليمية فى ملف المواطنة، وقد أجريت العديد من الدراسات التى أكدت أن مضمون بعض المناهج التعليمية يحمل مفاهيم تناهض وتتناقض مع مبدأ المواطنة، وقد قامت بعض المؤسسات ومنها الحزب الوطنى الديمقراطى والمجلس القومى لحقوق الإنسان ووزارة التربية والتعليم ببعض الجهد فى تطوير هذه المناهج، ولكننا نحتاج الآن إلى إنشاء لجنة قومية، تضم الأطياف الدينية والفكرية المختلفة بالإضافة إلى المتخصصين التربويين. وتكون مهمة هذه اللجنة مراجعة مضمون هذه المناهج ليس فقط بهدف تنقيتها، ولكن بهدف تطويرها، والتأكد من إدماج مفاهيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر فى هذه المناهج، ويمكن البدء فى هذا الصدد بمقررات التربية الوطنية، والدراسات الاجتماعية. كذلك من المهم إعداد برامج لتدريب المعلمين القائمين على تدريب هذه المناهج وترسيخ مفاهيم المواطنة لديهم أيضا. فلا يكفى تطوير المقرر إذا كان القائمون على تدريسه لا يؤمنون بمضمونه. خامسا : من المهم أيضا تكثيف الحوار مع الشباب بصفة عامة، والشباب القبطى بصفة خاصة. وقد أتيحت لى خلال السنوات الماضية أكثر من فرصة للحوار مع الشباب القبطى بدعوة من أسقفية الشباب بكاتدرائية العباسية، ووجدت لديهم حس وطنى عال، ولكنه مخلوط بمشاعر المرارة والغضب. والواقع أن الحوار مع هؤلاء الشباب هو أحد الأساليب لتحقيق التواصل معهم، وتوضيح الحقائق لهم، وامتصاص غضبهم. ولكن من المهم أيضا القضاء على ثقافة الانفصال، والعزلة، والتقوقع بين الشباب المسلم والمسيحى، وهى أصبحت ظاهرة متزايدة خاصة فى الجامعات، وضرورة العمل على دمج هؤلاء الشباب «مسلمين ومسيحيين» فى المؤسسات الشبابية القومية وتنظيم أنشطة مشتركة لهؤلاء الشباب، فمشاكل الشباب فى أغلبها متشابهة بغض النظر عن الدين، وسوف تتيح هذه الأنشطة المشتركة من معسكرات ورحلات وبرامج تثقيف مساحة واسعة للتعارف والتفاهم والتواصل المشترك. سادسا: بالرغم من الجهد الكبير فى التحديث الثقافى فى السنوات الماضية، إلا أن ثقافة العديد من المصريين أصبحت أكثر محافظة عما كانت عليه، ومازالت مفاهيم التمييز تشكل جانبا من رؤية بعض المصريين تجاه بعضهم البعض سواء كان التمييز على أساس النوع «الرجل والمرأة» أو على أساس الدين «مسلم ومسيحى». ويتطلب الأمر جهدا ضخما فى تطوير الخطاب الثقافى والدينى، والتأكيد على أن التنوع هو أحد مصادر قوة الثقافة المصرية، وقوة الدولة المصرية، وإبراز هذا التنوع فى الإنتاج الثقافى بأشكاله المختلفة خاصة الأعمال الدرامية. وقد يكون من المهم فى هذا الصدد أيضا الإسراع بإصدار قانون تنظيم البث، وما يتضمنه من قواعد تتعامل مع القنوات التى تقوم بالتحريض وبث الفتنة، ووضع الخطوط الفاصلة بين حرية التعبير وبث ثقافة الكراهية. لقد أكدت حادثة الإسكندرية صلابة الجبهة الداخلية المصرية، ولكنها أوضحت أيضا أن هناك العديد من القضايا العالقة فى ملف المواطنة، والتى حان الوقت للتعامل معها بكل صراحة وشفافية، وبما يحول لحظة التوحد والاندماج التى عاشتها الأمة المصرية فى الأيام الماضية إلى حالة دائمة.