كلاهما ضحية.. «حبيبة» ضحية لحادث فقدت فيه أسرتها وقدرتها على السير بعد أن أصيبت بكسر فى العمود الفقرى فكتب عليها أن تعيش حياتها يتيمة ومعاقة.. و«على» ضحية إهمال المسئولين عن الدائرى الذى تحول إلى نموذج للفوضى فى القيادة، وعشوائية سائقى الميكروباص والركاب، وبلطجة قائدى النقل والمقطورة، وضحية إعلام حول قضيته لمحاكمة طبقية مبنية أساسا على معلومات لا أساس لها من الصحة. انحرافه على الطريق متجاوزا السرعة المسموح بها لم يترتب عليه خروجه عن المسار الصحيح ليقتل ويصيب 12 شخصاً ولكنه أيضا خرج عن مسار حياته ليتحول لمتهم مهدد بضياع مستقبله. اسمه بالكامل على عبدالحميد على بدوى، 18 سنة وتسعة شهور، طالب بالفرقة الثانية بكلية إدارة أعمال بأكاديمية «المستقبل بالعبور» وليس طالبا بالجامعة الأمريكية كما تردد فى معظم وسائل الإعلام.. نشأ وتربى فى منطقة إمبابة فى شارع الأقصر الشهير. الأب يعمل تاجر خردة والأم ربة منزل، له أخ أكبر منه اسمه تامر وأخ أصغر بثمانية أعوام اسمه محمد وهو الأوسط بين إخوته، وربما يكون هذا هو مفتاح شخصيته فالأوسط فى كثير من الأسر يكره موقعه بين إخوته.. حيث تفرط الأسرة فى تدليل الأكبر أول الفرحة ثم الأصغر آخر العنقود! وكما يؤكد أخصائيون نفسيون وتربويون أن ترتيب الطفل داخل الأسرة يؤثر على نفسيته، فالأكبر يأخذ السلطة والأصغر ينال التدليل، بينما يعانى الأوسط من عدم وجود أى تصنيف فى الأسرة فيشعر بالغيرة من الأكبر لتحمله المسئوليات وأخذ القرارات، والغيرة من الأصغر المدلل الذى يحظى بتلبية الاحتياجات كاملة. وبتصاعد مشاعر الغيرة والإحباط والنقص وعدم الإشباع العاطفى والقهر تظهر انحرافات فى سلوك الابن الأوسط فى محاولة للفت الأنظار إلى وجوده، منها فقدان الثقة بالذات وبالآخرين، الخجل، وبرودة الأعصاب والتردد وربما هذا ما أصاب «على» عندما حاول تجاوز السيارة النقل.. فحسب شهادة الشهود أنه حاول تجاوزها ثم تردد ثم اتخذ القرار متأخرا وانطلق مضاعفا سرعته ليستطيع تجاوزها لكن بعد فوات الأوان حيث كان سائق النقل قد انحرف إلى اليمين فعلا فاصطدم به وألقاه فوق جموع الواقفين ليسحلهم تحت سيارته قبل أن تستقر على سقفها أسفل الكوبرى. فى بعض الأحيان تأخذ محاولة الظهور شكلاً إيجابياً من خلال التميز الدراسى أو التفوق الرياضى للفت الأنظار، وهو ما حدث معه حيث عوض عدم تفوقه فى التعليم بالنجاح الرياضى لعب كرة القدم بفريق الناشئين تحت 18 سنة بنادى السكة الحديد وكان على موعد للتوقيع على عقد انتقاله لفريق كرة القدم للناشئين بنادى الشمس فى اليوم التالى للحادث؛ ولا أحد يدرى إن كان من حسن حظ «على» أم من سوء حظه أن ينجو من هذا الحادث. فى كل الأحوال هو لم يكن مخمورا فتحليل الدم الذى أجرى له بناء على طلب النيابة 3 مرات أثبت أن دمه خال من أى مواد مخدرة أو كحوليات أو حتى نيكوتين فهو لا يشرب حتى السجائر حفاظا على لياقته كلاعب.. وبحسب كلام أخيه الأكبر تامر أنه لم يكن ذاهبا للقاء فنانة فى شارع الهرم أو لقضاء سهرة كما نشرت بعض الصحف وإنما كان ذاهبا للتدريب على ركوب الخيل فى مزرعة والد زوجة أخيه الأكبر بالمريوطية.. خرج مسرعا وفرحا بعد أن وجه له حمو أخيه الدعوة لركوب الخيل فى مزرعته، خطف مفاتيح سيارته وقبل أخاه ليشكره على إتاحة الفرصة لتجربة الانطلاق على ظهر حصان بسرعة، السرعة التى تميز بها فى العدو على أرض الملعب كلاعب والسرعة التى كان يريد أن يجربها فى ركوب الخيل.. والسرعة التى لم يستطع السيطرة عليها فى السيارة فسلبت حريته بدلا من أن تمنحه الشعور بالانطلاق. السيارة التى كان يقودها (بسرعة) ماركة 316) (B.M.W موديل نهاية التسعينيات - وليست آخر موديل - سعرها لا يتجاوز 100 ألف جنيه والسيارة باسم أخيه تامر وليست سيارته الخاصة لأنه ضعيف فى القيادة بحسب ما ورد على لسانه فى تحقيقات النيابة كان يقود فى البداية على سرعة 90 ولكن عندما حاول تجاوز النقل وجد سائقها يغلق الطريق عليه، فقفز بسرعته إلى 150 كيلو مترا ولكن السيارة النقل صدمته بقوة من الجانب الأيسر فأطاحت به كما يطيح مضرب تنس بكرة فى الهواء. الحادث كله لم يستغرق ثوانى ولكن بالتأكيد مرت عليه كأنها دهر بأكمله وهو يطير بالسيارة فى الهواء وتهوى به فوق 20 شخصاً وأصوات صراخهم من الخوف ثم من الألم وهم يسحلون أسفل السيارة ومعها حتى الحاجز الأسمنتى قبل أن تصمت أصوات 12 منهم إلى الأبد وتستقر به السيارة خارج الطريق ويفقد الوعى.. بالتأكيد مهما كان مندفعا برعونة الشباب ومهما كان صغيرا لا يعرف معنى المسئولية فهو كإنسان كان فى غيبوبته يتعذب مما جنت يداه حتى استيقظ راجيا ربه أن يكون كل ذلك حلماً لكنه وجد نفسه فى المستشفى محاطا بالعساكر وذراعه مقيدة إلى قضبان السرير بكلابش من الحديد.. أدرك أنه لم يكن يحلم بل هو كابوس حقيقى لن يعود إلى المنزل لأمه المريضة التى أخفوا عنها حتى الآن حقيقة ما حدث وأوهموها أنه أصيب فى حادث، إنه فى المستشفى لأن ساقه مكسورة ولكنه بخير.. لن يذهب إلى نادى الشمس فى الصباح ليوقع عقد انتقاله لفريق الناشئين.. لن يذهب لكليته ليتابع دراسته.. والأصعب من كل هذا لن يستطيع أن ينام بقية حياته دون أن يسمع أصوات صراخ الاثنتى عشرة ضحية داخل عقله. لم يظل فريسة لضميره كثيرا فقد جاء إخوته وأصدقاؤه وأقاربه سريعا ليحيطوه بالمزيد من الرعاية والتدليل فقاموا بتوصية القائمين على حراسته ونقله من وإلى محبسه على الاهتمام به وإبعاده عن المساجين حتى لا يتعرض للإهانة وجاء أصدقاؤه لحضور جلسة التجديد معه والتفوا حوله للتخفيف عنه ومنع أى شخص من الاقتراب منه. وأمام مدير نيابة حوادث شمال الجيزة وقف (على) ليعترف بأنه استخرج الرخصة منذ 6 أشهر وأنه ضعيف فى القيادة وجاء تقرير هيئة الطرق والكبارى ليؤكد أن آثار فرامل سيارته كانت على مسافة ستين مترا من مكان وقوف الضحايا وهو ما يعنى أنه كان يقود بسرعة 150 كيلو مترا فى الساعة.. وأكد التقرير أن المقطورة التى ذكر (على) أنها صدمته كانت أقصى اليسار وأنه حاول أن يتجاوزها من الجانب الأيمن للطريق (تجاوز خاطئ) فحدث ما حدث ولم يستطع التحكم فى عجلة القيادة. وبعد أن انتهت النيابة من سماع أقوال جميع المصابين، وانتقلت للمعاينة وبناء على أوامر النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، أحيل لمحاكمة عاجلة حيث يمثل اليوم أمام المحكمة فى أولى الجلسات بتهمة القتل والإصابة الخطأ. - البؤساء لا نقصد رواية فيكتور هوجو بل الأسرة التى راحت ضحية حادث بشتيل تاركة أصغر أفرادها تواجهه الحياة وحدها.. الأب أحمد عبد الحى حسين 32 سنة عامل فى محل أحذية والأم هبة أحمد سيف النصر 28 سنة لا تعمل والأبناء فهد 5 سنوات وحبيبة عامان هى الوحيدة التى بقيت على قيد الحياة.. مجازا.. فلا حالتها الصحية بعد الحادث ولا وضعها الاجتماعى بعد أن فقدت أسرتها التى لم تكن تملك شيئا من حطام الدنيا يجعل وصفها بأنها على قيد الحياة معقولا. البداية.. كانت منذ 6 سنوات عندما التقى «أحمد» بفتاة يتيمة الأم.. تعيش مع والدها المسن والمعاق فى نفس الوقت، يتحرك على عكازين بصعوبة، ترعاه بعد أن تركهما أخوها فى يوم ولم يعد هربا من الفقر وتحمل مسئولية والده وأخته. وبالرغم من أنه لم يكن لأحمد مورد رزق ثابت وينتمى أيضا لأسرة تعيش تحت خط الفقر تتكون من إخوته الثلاثة وأمه وأبيه يسكنون معا فى غرفة بإحدى حارات عزبة المطار بإمبابة إلا أنه بشهامة «ولاد البلد» قرر أن يتزوج من هبة ليتحمل مسئوليتها ومسئولية والدها بعد أن تخلى عنهما أخوها.. وبالفعل تم الزواج ورغم قسوة الظروف إلا أنهم تحملوها ولم يستسلموا للظروف، وبعد عام من زواجهما رزقا بطفلهما الأول فهد وبعد ولادته بثلاث سنوات جاءت حبيبة للدنيا. لم يستطع أحمد توفير مسكن خاص لزوجته وأبنائه فعاشوا فى نفس الغرفة مع عائلته وظل يتنقل من عمل لآخر حتى استقر فى العامين الأخيرين كعامل فى محل أحذية بأرض اللواء وعلى مدار عامين تفانى فيهما فى العمل ولمس فيه صاحب العمل الأمانة والكفاءة واقترب منه فعرف بتفاصيل حياته البائسة، وبشهادة كل جيرانه ومن عرفه أن من يراه كان يظن أنه يملك أموال الدنيا من قناعته ورضاه وتعففه عن قبول مساعدة من أحد. قبل الحادث ب 15 يوما فوجئ بصاحب المحل يخبره أنه انتهى من بناء عمارة فى منطقة فيصل وأنه سوف يمنحه شقة غرفة وصالة قانون جديد بإيجار رمزى 200 جنيه شهريا.. عاد لزوجته وهو يكاد يطير من السعادة ليبشرها بأن الفرج قد جاء أخيرا وانتقلوا للعيش فيها فورا وفرشوها بما استطاعوا جمعه من أثاث بسيط ولكن والدته التى تجاوزت السبعين تقول إنه كان سعيدا هو وزوجته بها ولم يمنعه بعد المسافة عن زيارة والد زوجته القعيد وكان يؤكد عليها ألا تنشغل وتنسى والدها. فى اليوم المشئوم أيقظ زوجته قبل أن يذهب للعمل لتصطحب الأولاد وتذهب لوالدها لأنها لم تذهب له منذ 3 أيام واتفق معها أنه سيمر عليها ليصطحبهم ويعودوا معا لبيتهم وبالفعل بعد أن أنهى عمله توجه من أرض اللواء إلى منزل والد زوجته فى بشتيل وحمل هو الولد وحملت هى البنت وصعدا سلم كوبرى بشتيل ووقفوا فى انتظار سيارة أجرة ولكن لا تأتى الرياح بما تشتهى أنفس البسطاء.. فجأة اقتحمت سيارة مسرعة الموقف وأطاحت بالجميع وتحول المكان لبركة دماء.. لقى أحمد وزوجته هبة وابنه فهد مصرعهم فى الحال وشاء القدر أن تنجو حبيبة التى احتضنتها أمها بقوة وانحنت فوقها وحمتها بجسدها. حبيبة التى تبلغ من العمر عامين وبضعة شهور ترقد الآن بين الحياة والموت داخل قسم 8 الخاص بحروق الحوادث بمستشفى قصر العينى مصابة بارتجاج فى المخ وكسر فى الجمجمة والساقين والحوض بالإضافة إلى كسور متفرقة وكدمات فى جميع أنحاء الجسم. وإذا قدر لهذه الطفلة الحياة، فإنها ستعيش بشلل نصفى حسب تشخيص الأطباء، يتيمة معاقة بلا عائل، فالجد والجدة المسنان، وأعمامها الثلاثة عاطلون معدمون.