كان شيخاً عصرياً ومتحضراً قام بتعليم أبنائه من البنات إنچي وسامية وماجدة في الجامعة الأمريكيةبطنطا وترك لهن حرية ممارسة الرياضة ولعب التنس والعزف علي البيانو ..لم يؤمن بختان الإناث ولم يوافق علي أن يعرض أياً منهن لمثل تلك العملية غير الشرعية.. وكان دائماً يردد الآية الكريمة «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم».. كما سمح لأبنائه الذكور عطا وسمير ووحيد بالسفر إلي أوروبا لاستكمال تعليمهم ولم يجبر أحدًا منهم علي العمل في مجال قراءة القرآن لصعوبة هذا المجال وكان يقول لهم إن الحياة ليست دينًا فقط ولكنها مجتمع وتعايش ولابد أن يكون تعاملهم مع جميع فئات المجتمع مهندسين وأطباء وصحفيين وغيرهم ،فلا يجب أن يقتصر التعامل فيها علي علماء الأزهر فقط.. كما كان يهتم رحمه الله بأولاده ويذهب معهم إلي السينما في أوقات فراغه.. هذا الرجل المصري هو الشيخ مصطفي اسماعيل أو امبراطور القراء كما أطلق عليه. بداية الشيخ مصطفي إسماعيل كانت في قرية ميت غزال محافظة الغربية حيث ولد عام 1905 م من أسرة كان لها شأن في القرية ورغم أن والده كان مزارعاً إلا أنه اهتم به وألحقه في سن مبكرة بكتاب القرية لحفظ القرآن الكريم الذي أتم حفظه وعمره 12 عاماً. استمع إليه الشيخ محمد رفعت وتنبأ له بمستقبل باهر وذاعت شهرته في أنحاء محافظة الغربية والمحافظات المجاورة لها ونصحه أحد المقربين منه بضرورة الذهاب إلي القاهرة وبالفعل ذهب إلي هناك والتقي بأحد المشايخ الذي استمع إليه واستحسن قراءته وعذوبة صوته ثم قدمه في اليوم التالي ليقرأ في احتفال تغيب عنه الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي لمرضه وأعجب به الحاضرون وسمعه الملك فاروق وأعجب بصوته وأمر بتعيينه قارئاً للقصر الملكي علي الرغم من أنه لم يكن قد اعتمد بالإذاعة بعد. يعتبر الشيخ مصطفي إسماعيل مدرسة فريدة في التلاوة وكان الرئيس السادات يحب قراءاته حتي إنه كان يقلد طريقته في التلاوة أحياناً وقد اختاره ضمن الوفد الرسمي لدي زيارته للقدس وسافر معه علي طائرته الخاصة وقرأ القرآن في المسجد الأقصي بعد ذلك بدأت شهرة الشيخ تشق طريقها من خلال القراءات التي كان يؤديها في المساجد وغيرها وأصبح صاحب مدرسة لها أداؤها الخاص المميز وذاع صيته واعتمد في الإذاعة المصرية وكان قبل ذلك قد عين رسمياً قارئاً في القصر الملكي وسجل بصوته القرآن الكريم كاملاً مرتلاً وترك وراءه العديد من التسجيلات المجودة التي لا تزال إذاعات القرآن الكريم تذيعها علي العالم يومياً. ويقول ابنه المهندس عطا الذي عاش في ألمانيا ما يقارب العشرين عاماً وتزوج من ألمانية وأنجب منها بنتاً.. كانت أول شهرة لوالدي عندما تُوفَّي محمد القصبي باشا في اسطنبول وكان عضواً في مجلس الشيوخ وأحضروه في قطار مخصوص من الإسكندرية إلي طنطا وذهب والدي - رحمه الله - للقراءة في العزاء وكان هناك جميع أعيان مصر حتي الأمير عمر طوسون وسعد زغلول والشيخ محمد رفعت والشيخ حسن صبح أحد مشاهير القراء آنذاك وطلبوا من والدي أن يقرأ وكان صغير السن عمره 17 عاماً وعندما قرأ أثار إعجاب الجميع وبدأت شهرته من ذلك الوقت ثم جاءت ذكري وفاة سعد زغلول عام 27 م في دمياط وطلبوه للقراءة وهناك عزمه صديق له علي الإفطار ورأي ابنته فتزوجها وهي والدتي وشاءت الظروف أن يقوم والدي بشراء سيارة بالمزاد من سيارات الملك فاروق وعندما أحضرها كان لدينا خروف في المنزل رأي خياله في الزجاج فقام بنطحه وكسر باب السيارة فأخذها والدي وذهب بها إلي القاهرة ليقوم بإصلاحها وهناك في القاهرة وجد ما يسمي «برابطة تضامن القراء» فدخل يستفسر عنها ووجد الشيخ محمد الصيفي الذي سأله عن اسمه فقال له: اسمي مصطفي إسماعيل وأقرأ في طنطا فاتفق معه الشيخ الصيفي أن يحضر يوم الجمعة التالي لأن رابطة القراء سوف تحتفل بالمولد النبوي الشريف ليقرأ مكان الشيخ الشعشاعي لمرضه وعندما قرأ كان المستمعون يكادون يهتفون لأنه يقرأ بطريقته الخاصة وبعد عدة أيام جاءه ضابط في البلد وطلب منه الذهاب معه إلي محافظ الغربية الذي أرسله لقصر عابدين فكان رئيس الخاصة الملكية قد استمع إليه وطلبه بالاسم وطلب منه هو والفريق محمد خيرت باشا وزير الدفاع آنذاك أن يترك طنطا ويظل موجودًا بالقاهرة وبالفعل اتصل بفندق شبرد الذي تم حرقه عام 52 وحجز له جناحًا خاصًا ظل مقيماً به ما يقارب الثمانية أعوام علي حساب الخاصة الملكية. وتم التعاقد معه للقراءة في الذكري السنوية لوفاة الملك أحمد فؤاد وقرأ هناك أمام أحمد ماهر باشا ومصطفي النحاس والمندوب السامي البريطاني الذي ما إن سمعوه حتي تعاقدوا معه أن يقرأ في قصر رأس التين بالإسكندرية في شهر رمضان والتلاوة ستكون يومياً ومن هنا جاءت الشهرة للشيخ مصطفي إسماعيل وظل علي هذا المنوال إلي أن قامت الثورة وجاء محمد نجيب ليختاره أن يكون هو القارئ الذي يفتتح حفلاته ثم جاء جمال عبد الناصر وكان الشيخ مصطفي إسماعيل هو الذي يقوم بافتتاح حفلاته أيضاً وختامها وكذلك أنور السادات الذي اختاره ليكون هو الشيخ المعمم الوحيد الذي يسافر معه إلي القدس في طائرته الخاصة وأنا كنت في ألمانيا في ذلك الوقت. متي سافرت إلي ألمانيا ولماذا.. وهل وافق الوالد علي سفرك؟ أنا سافرت ألمانيا وكان عندي عشرون عاماً والوالد كان مصرحًا لي بالسفر فقد كنت بطلاً من أبطال مصر في ألعاب القوي وكنت أدرس الحقوق في مصر وسافرت ألمانيا للاشتراك في بطولة العالم للجامعات في ألعاب القوي وهناك تقابلت مع صديق من طنطا يدرس الطب في ألمانيا وسألته عن المجموع الذي حصل عليه لكي يستطيع به دراسة الطب في ألمانيا فقال لي لا يوجد شيء اسمه مجاميع في ألمانيا فذهبت إلي والدي الشيخ مصطفي إسماعيل وطلبت منه أن أدرس الطب في ألمانيا ووافق وفعلاً درست الطب ووصلت للمرحلة الدراسية الأخيرة ولم أستكمل دراستي حتي أحصل علي الشهادة. وما الظروف التي جعلتك تترك كلية الطب في السنة النهائية؟ - كنت قد ذهبت إلي حفلة تنكرية في ألمانيا ولبست فيها من فوق أسموكن والجزء الآخر شورت تنس وكوتشي وجاء مصور قام بتصويري وأرسل الصورة إلي إحدي المجلات التي قامت بنشرها وبجواري والدي الشيخ مصطفي إسماعيل وهو قصير وقالت: الطلبة الذين يمثلون مصر في ألمانيا باعوا ملابسهم مع أنها كانت حفلة تنكرية فغضب والدي ورفض إرسال أموال لي فأصبحت مديوناً وتركت الدراسة واتجهت إلي العمل حتي عندما أرسل والدي مبلغ 5 آلاف مارك لسداد ديوني رفض مدير البعثات هذا المبلغ الكبير فاضطررت إلي العمل وتعرفت علي زوجتي التي كانت تبحث هي الأخري عن عمل وتزوجنا وكان من الصعب أن أعود مرة أخري للدراسة. هل وافق والدك الشيخ مصطفي إسماعيل علي زواجك من ألمانية؟ - نعم وجاء إلي ألمانيا وقال لي الله سبحانه وتعالي يقول «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» وكان يعامل زجتي الألمانية مثل ابنته وقد أسلمت علي يديه قبل أن تحضر إلي مصر لتشهر إسلامها رسمياً علي يد وكيل الأزهر وأصبح اسمها أمينة إسماعيل بعد أن كان اسمها بولريكا. هل تحتفظ بتراث والدك الشيخ مصطفي إسماعيل وأعماله؟ - أنا كنت أرسلت خطاباً إلي الرئيس السادات قلت فيه إن والدي يقرأ القرآن منذ ستين عاماً وإذاعياً منذ ثلاثين عاماً وبلغ من العمر 71 عاماً والمجلس الأعلي للشئون الإسلامية يحتفظ لوالدي بالقرآن مرتلاً ومجوداً وسجل هذا عام 1970 بعدما بلغ من العمر الكثير في استوديو مغلق لتسجيل الاسطوانات وعندما أبحث عن تراث والدي لا أجد في الإذاعة شيئا من تسجيلاته العظيمة من الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وكان صوت والدي وقتها في الذروة ولما ذهبت إلي دار الإذاعة المصرية سمعت أن بعض المختصين بالشئون الدينية استولوا علي هذه التسجيلات بطرق غير مشروعة من مكتبة الإذاعة المصرية وباعوها للعراق وسوريا ولشركات طبع الاسطوانات في المغرب وتذاع هذه التسجيلات يوميا في شهر رمضان في هذه البلاد ولما كنت في مصر وذهبت إلي محطة الإذاعة أسأل عن تراث والدي كان رد المختص هناك بأن هذه التسجيلات العظيمة قد مسحت ولا أحد يعلم من هو الذي أمر بمسحها ولو كان أهل النمسا والألمان قد فرطوا في مكتبة موتسارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي ما كان عند العالم شيء يسمي بالموسيقي الكلاسيكية الآن. هل تخشي علي طريقة والدك من الاندثار؟ - نعم والسبب في ذلك لجنة اختبار القراء في الإذاعة المصرية فكل من يقدم نفسه متأثرا بتلاوة الشيخ مصطفي إسماعيل يسقط في الامتحان ويتم استبعاده بحجة أن عندهم الأصل . لكن كل من يقرأ القرآن اليوم من موريتانيا غربا إلي أندونيسيا جنوبا وأزوباكستان شرقا يقلدون الشيخ مصطفي إسماعيل فهو المقريء الوحيد الذي جمع المقامات الشرقية التي استخدمها في إظهار معاني كتاب الله وكان يقرأ بالمقامات بالفطرة وقد قالت رتيبة الحفني له والله ياشيخ مصطفي أنت معهد موسيقي كامل لوحدك وقالت أم كلثوم عندما سألوها عنه أنه مدرسة فقد كان يتميز بالمساحة الصوتية القوية الكبيرة. هل تتذكر مواقف من حياة الشيخ مصطفي إسماعيل؟ - نعم أتذكر موقفًا طريفًا عندما حضر إلي ألمانيا في زيارة لي وفي المطار التف حوله الأطفال معتقدين أنه (بابا نويل) لأنه كان يرتدي العمة والكاكولا فوالدي تعجب وظن أنهم يستقبلونه ونظر إلي وقال هل أبلغهم أحد أني سأحضر إلي ألمانيا فضحكت وقلت له هم يلتفون حولك ليتفرجوا عليك لأن شكلك غريب بالنسبة لهم. وموقف آخر عندما كنت أجلس معه في ألمانيا ومعنا عمدة البلدة هناك ونتحدث وأنا أقوم بالترجمة فقال لي والدي قل للخواجة كذا فقلت له هو ليس خواجة لأنه ابن البلد أما أنت فغريب فقال لي إذن قل له الخواجة الشيخ مصطفي إسماعيل يقول لك كذا، وأطلق علي نفسه هناك لقب الخواجة الشيخ مصطفي إسماعيل. والشيخ مصطفي إسماعيل - رحمه الله - لديه ستة أولاد وستة عشر حفيدا وكان يهوي ممارسة الرياضة وقد تلقي العديد من الدعوات والطلبات من دول عربية وإسلامية للقراءة فيها وسافر إلي العديد من دول العالم للقراءة فيها وفي عام 1978 وأثناء سفر الشيخ إلي مدينة الإسكندرية للقراءة في بعض المناسبات كان الشيخ علي موعد آخر إذ وافته المنية عن عمر يناهز الثمانية والستين عاما.