كانت زيارتى الأولى لأمريكا فى يوليو 1983 هبطت الطائرة فى مطار كيندى بنيويورك ووقفت أمام موظف الجوازات الذى سألنى مبتسما: هل أنت مصرية؟ أجبته: كما ترى فى جواز السفر، سلمنى الجواز وابتسامة عريضة تفترش وجهه: نحن نحبكم أيها المصريون. الزيارة كانت بدعوة من وزارة الصحة المصرية للمشاركة فى «سيمينار» حول تخطيط واستراتيجية الإعلام، ضمن وفد مكون من موظفى هيئة الاستعلامات ووزارة الصحة والصحفيين والمذيعين شددت الرحال إلى نيويورك ثم واشنطون ومنها إلى ولاية بافالو على الحدود الشمالية بين الولاياتالأمريكيةالمتحدة وكندا، تلك العبارة الجميلة سمعتها أكثر من مرة من أغلب المشاركين فى السيمينار من دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا ودول عربية أخرى، كان صدرى ينشرح اعتزازا وفخرا بمصريتى: وكل من يسمعنى أردد عبارة: أنا مصرية، يكاد يعرب عن حسده، ثم ما يلبث أن يعترف بأننا شعب مميز نستحق إعجاب العالم. كان الوفد المصرى مكونا من ست سيدات وأربعة رجال، بينهما مسيحيان . واجتمعنا فى الليلة الأولى وقررنا اختيار أحد المسيحيين رئيسا للمجموعة، ببساطة لأنه كان الأكبر سنا بيننا: ومازلت أذكر اسمه الأستاذ أمين، رغم مرور ما يقرب من عقدين، ولم يكن الأساتذة الذين يحاضروننا يخفون إعجابهم الشديد بالشعب المصرى، كذلك كان كل من تعاملنا معهم فى الفنادق والمقاهى والمتاجر يعبرون عن شدة إعجابهم بالشعب المصرى، أمضينا أسبوعين نناقش كيفية التخطيط للإعلام ووضع استراتيجية نسعى لتحقيقها، وفى نهاية الفترة أقيم حفل دولى ألقى فيها كل وفد محاضرة عن بلاده، واختارتنى المجموعة المصرية لإلقاء محاضرة عن مصر فضربت مثلا بتشكيل الوفد المصرى الذى لم يكن متعمدا ولكنه عبر بصدق عن الوضع فى بلادى: لا يوجد ما يمنع المرأة من أن تشكل أغلبية بين العاملين، أو أن يكون القبطى فى الصدارة . لم أتوقع يومها أن تتبدل الأوضاع تماما بعد أقل من عقدين، فتتراجع مكانة كل من المرأة والقبطى بعد سنوات قليلة . أين نحن اليوم من تلك الأيام ؟! كان المصرى والمصرية يتربعان بجدارة على عروش الطرب والموسيقى والتمثيل والإخراج والشعر والرواية والفنون التشكيلية منذ بداية القرن العشرين حتى الربع الأخير منه.. فجأة تغير حالنا وتبدل إلى النقيض. أصبح المصرى الذى كان بشوشا يشتهر بخفة ظله، كئيبا عابسا، وبعد أن كنا نرسل الضحكات ونؤلف النكات التى تشيع فى العالم العربى كله، صار البعض منا لا يحلون مشاكلهم إلا بارتكاب جريمة .. السرقة .. الاختلاس ..الرشوة.. قتل الأبرياء لأسباب واهية صارت من أخبارنا اليومية العادية .. جرائم مروعة يرتكبها المصريون وترتكب فى حقهم. ولنتأمل ما حدث فى الأسابيع القليلة الماضية؛ شاب مصرى يقتل طفلين وشيخين فى إحدى قرى لبنان فيقتله الأهالى بعد أن يعذبوه ويسحلوه ويصلبوه . وفى أمريكا يعتقل عالم ذرة مصرى منذ عامين على ذمة التحقيق فى تهمة اغتصابه لسبعة عشر طفلا، وفى اليونان يقتل رجل أعمال مصرى وتنزع أحشاؤه ويقطع جسده إلى ثلاثين قطعة، وفى الكويت يقتل أربعة سوريين شابا مصريا لأسباب مجهولة .. هذا على سبيل المثال وليس الحصر. ثم تأتى الطامة الكبرى بصدور قرار الفيفا الذى يعاقب المصريين ويبرئ الجزائريين، أما ثالثة الأثافى فهى ما فعلته بنا دول منبع النيل التى عقدت معاهدة فيما بينهم متجاهلين مصر والسودان. فما الذى شوه صورة المصرى وجعله عرضة للكراهية والتنكيل ؟ هل قُتل هؤلاء وعذبوا ونكل بهم لأنهم مصريون ؟ أم لأسباب أخرى لا نعرفها ؟ أنتظر على أحر من الجمر مؤتمر المثقفين الذى دعت إليه وزارة الثقافة، وأرجو ألا يلقى أحدهم بكرسى فى الكلوب ويحول المؤتمر إلى جنازة نشيع فيها المصرى إلى مثواه الأخير . اعتصامات المصريين التى انتشرت فى الأسابيع الماضية تستوجب وقفة من كل من يعنيه أمر مصر، هذا العدد الهائل من المظاليم الباحثين عن حل لمشاكلهم المعترضين على أحوالهم الذين نفدت قدرتهم على الاحتمال وملت حناجرهم من السكوت، أين كانوا منذ عشرات السنين ؟ النظام هو هو منذ عام 1980 ربما تغيرت بعض الوجوه، اختفت أو توارت بعض الشخصيات، لكن أبطال الرواية الأساسيين مازالوا موجودين على مسرح الحياة منذ ثلاثة عقود لم يتغيروا، ربما تزحزح بعضهم قليلا عن موقع احتله طويلا ثم رحل إلى موقع آخر لا يقل أهمية، ديكورات المسرح تغيرت والأضواء أصبحت مسلطة على أشخاص جدد والحوار اختلف قليلا، ولكن «عقدة الرواية» لم تحل. فما الذى جد علينا إذن لكى تطفو همومنا فوق سطح الحياة، وينشر غسيلنا القذر على حبال الفضائيات؟ ورغم تعاطفى التام مع المعتصمين، وإيمانى بأن كل مواطن مصرى من حقه أن يجأر بالشكوى ويسعى لإصلاح حاله متخذا كل الوسائل السلمية، فإن إحساسا داخليا يساورنى بوجود من يقفون وراء المعتصمين يحددون لهم الخطاوى ويلقنونهم الكلام ويدربونهم على التعبير والإلقاء، المشهد لم يسبق له مثيل فى تاريخنا القريب أو البعيد: رجال عرايا يكتبون على صدورهم عبارة «حسبى الله ونعم الوكيل» .. وآخرون بملابس رثة مزقوها عن عمد ليظهروا الحال المزرى الذى وصلوا إليه .. ونساء يحملن أبناءهن الرضع بينما يتعلق فى ذيل الجلباب أبناء آخرون .. الكل يئن بالشكوى .. يصرخ .. يناشد الرئيس .. يحاول أن يلفت نظر الكاميرات التى لا تغادر المكان .. شاب يضع حلة فوق رأسه ويدق بيديه على غطائها، ومجموعة تحمل نعشا ويسيرون كأنهم فى جنازة، والبعض تمددوا فى عرض الطريق أمام مجلس الشعب ليعوقوا أصحاب السيارات اللامبالين عن المرور، وهناك من أخذ يدق بآلة معدنية سور المجلس على النائمين بداخله ليسمعوا ويعوا .. ولكن نواب الشعب لم يتأثروا بكل هذه الإشارات والصرخات ولم يهرعوا لانتشال الغريق.. كانوا مشغولين بالتهام الحمام المحشى والوز المحمر وطواجن الأرز المعمر والفطير المشلتت وأسماك البلطى والبورى والاستاكوزا والجمبرى .. كان الله فى العون.. «هم حايقطعوا نفسيهم !!».. لم يلتهموها فى السر بل تركوها تمر بين المعتصمين لكى تفوح روائحها الذكية وتعمق إحساسهم بالفقر والجوع ..الجوع للكرامة والحرية والأمل فى حياة أفضل. بل إن الصرخات الملتاعة والشكاوى والحكايات المحزنة لم تصل إلى أسماع الأحزاب المصرية ولا لفتت تلك اللوحة الكئيبة التى لا تقل بشاعة عن لوحة «الجويرنيكا» لبيكاسو أنظار الأحزاب المصرية . لم نجد حزبا يساند المعتصمين أو يرسل مجموعة من شبابه ليشاركوهم الاعتصام ويشرحوا لهم حقوقهم، ولم نر رئيس حزب يقف بينهم ويخطب مطالبا الحكومة بحل مشاكلهم .. فقط الجماعة المحظورة هى التى تتحرك معظم الوقت من وراء ستار، وأحيانا فى العلن عن طريق بعض أعضائها . الكل ترك الملعب خاليا لكى تحرز فيه الجماعة المحظورة ما تشاء من أجوان ستحسب لها قطعا يوم الانتخابات القادمة. أين منظمات المجتمع المدنى، وهل حاولت إحداها أن تربت على كتف النساء البائسات وأطفالهن المساكين، أو تعوضهن بتقديم مطالبهن البسيطة .. قليلا من الغذاء والكساء وكثيرا من التعاطف وإبداء المشاعر الطيبة؟ أين الفنانون الذين يتقاضون الملايين فى عصر تراجع كل الفنون المصرية وأولها السينما والمسرح ..؟ أين رجال الأعمال ذوو المشاريع العملاقة التى تتكلف ملايين الجنيهات وتحصد المليارات ..؟ أين الوزراء المعنيون والمحافظون ؟ ما حدث على أعتاب مجلس الشعب فضيحة مدوية تستحق أن ننكس لها رءوسنا خجلا . وتأمل معى ما يعرض على الفضائيات وقارن بين مواطنى الدول الأخرى كاليونان وتايلاند .. الملابس المهلهلة والوجوه الكابية والبؤس الذى يكاد ينطق فى عيون النساء والأطفال من نصيب مصر .. حتى البوسترات المكتوب عليها مطالب تافهة وعبارات ركيكة بخطوط قبيحة تجدها هنا ..تهتف مع الشعب البائس: المصريون أهُم فقر وجهل وحال تغم.