أسخف سؤال طرح على الرأى العام فى السنوات الأخيرة هو: لماذا لا يثور المصريون؟ إذا كانت الثورة هى التغيير الشامل فالمصريون منذ نهاية القرن الثامن عشر، وقبل أن تدخل دول الغرب على الخط لتفرض رؤيتها، وهم فى تحول دائم بحثاً عن صيغة سياسية تناسبهم، ولأن التدخلات العالمية من تركيا ثم من أوروبا ثم من الولاياتالمتحدة وإسرائيل تضغط بقوة، فالتقدم باتجاه ما نريد يستغرق وقتاً طويلاً، ولو أن أسلوب التغيير يأخذ شكلاً عنيفاً لاستنزفنا وتفتت بلدنا فى هذه المسيرة الطويلة. وعندما صعد حسنى مبارك إلى سدة الحكم صعدنا معه، من هوة الخلافات التى شتتت شمل القوى الوطنية فى خريف الغضب الشهير، فكان أول شىء فعله أن أطلق سراح الرموز المعتقلة وأعلن أنه رئيس لكل المصريين لا ينحاز لفريق على حساب الآخر، رغم رئاسته للحزب الحاكم، وتجاوز بنا أبشع مأساة فى تاريخ الجمهورية، وهى مأساة اغتيال الرمز الدستورى الأعلى للبلاد وسط أركان الحكم وممثلى المجتمع الدولى فى يوم عيد النصر. وقد اختلفت بداية مبارك عن بداية الرئيسين اللذين سبقاه فى أمر مهم. صحيح أنه جاء مثلهما بعد أن وصل عهد سلفه إلى أدنى مستوى من الأداء أو فى لحظة تأزم النظام الذى كان يقوده سلفه، لكنه استهل عهده بالمصالحة الوطنية، هذا يختلف عما فعله السادات الذى لم يحكم قبضته على زمام الأمور إلا عندما تخلص من شركائه فى تركة عبدالناصر، كما يختلف عما فعله عبدالناصر الذى أنشأ محاكم الثورة ومارس سياسات التطهير والاستبعاد والعزل والمصادرة والتمصير والتأميم. لا يعنى هذا أن أحد هؤلاء الزعماء أصاب هنا وأخطأ الآخران، ولكن لكل زعيم ظروفه. فعبدالناصر هو مؤسس الجمهورية، والتأسيس قد يستدعى الهدم وتنظيف الأرضية وتمهيدها واستبعاد بعض عناصرها. والسادات كان مطالباً بمواصلة ما بدأه عبدالناصر فى مؤتمر الخرطوم من مصالحة مع النظم الخليجية وما بدأه مع أمريكا بقبول مبادرة روجرز وهو ما عارضه شركاؤه فى الحكم، وإذا كان لكل رئاسة ظروفها فكل رئاسة هى أيضاً بنت هذه الظروف، ومطبوعة بطابعها، وقد كانت المهمة الرئيسية للرئيس مبارك، كما أفهمها، هى الحفاظ على السلام مع إسرائيل ومع دول الخليج ومع القوى الغربية. لكن المهم أنه لم يبدأ بتطهير أو استبعاد على المستوى الداخلى، وعندما حاولت العصابات الأصولية المسلحة تمزيق السلام الداخلى واجهها بحزم انتهى باحتواء تظهر قيمته إذا قارناه بما انتهى إليه التمرد الأصولى فى أقطار مجاورة. إذن الثورة المصرية مستمرة، وبالأسلوب المصرى، لا بالأسلوب اللبنانى ولا العراقى ولا الفلسطينى ولا غيره، وكل رئيس للبلاد، من عباس حلمى إلى حسنى مبارك، قاد حركة مصرية لا تهدأ بحثًا عن صيغة سياسية مناسبة، رغم التدخلات الأجنبية الصريحة حينا والمستترة أحيانًا، وفى إطار الرئاسات الثلاث الأخيرة تميزت رئاسة مبارك بأنها بدأت بلم الشمل وبالمصالحة والتوفيق وليس بالفرز والاستبعاد والإقصاء، فهل يترك مبارك إسهامه التاريخى الأهم ليبعثره المراهقون الذين يمارسون السياسة من خلال المانشيتات والتصريحات الصحفية الساخنة؟ بالقطع لا. أنا واثق أن الرئيس سوف يجمع شتات القوى الوطنية اليوم، كما فعل فى الأمس البعيد، فى مؤتمر وطنى يرسمون فيه خريطة طريق تحت رعايته،هكذا يثور المصريون على أى وضع تتجاوزه الأحداث، بالطريقة المصرية المتحضرة وليس بأى طريقة أخرى.؟