ما أروع الفرق بين نوفمبر ويناير.. بين ليلة 18 نوفمبر الكئيبة.. وليلة 28 يناير البديعة.. عشنا جميعا وقتا مملوءا بالمشاعر والانبساط.. واستمتع المصريون بساعات غير مسبوقة كرويا.. بعد مباراة تاريخية وفوز ساحق.. اهتزت لها العواصم العربية إلا قليلا.. وسهرت الشوارع في مختلف البلدان إلا قليلا.. وتمتع الجميع بانتصار مهول لايمكن أن ينسي.. حتي لو كانت الكأس القارية معلقة بمباراة الغد مع غانا. لايمكن أن نتعالي علي مشاعر الناس ونحن منهم.. ولا يمكن أن نتجاوز الحدث وقد أسعدنا.. ولايجوز أن نتغافل عن تلك الملايين التي خرجت في مختلف بقاع مصر والعالم.. لكي تعبر عن فرحتها.. مشهد تاريخي.. مفعم بالعواطف الجياشة ويتجاوز المعاني الكروية.. ويؤكد أن من حقنا أن نرسخ لحظات السعادة حتي لو كانت ناتجة عن مباراة رياضية. ولم لا ؟.. ألم تكن مباراة أخري هي سبب الحزن.. أليست الكرة نشاطاً إنسانياً يمارسه الناس ويفرحون به ويتفاعلون معه في جميع أرجاء الأرض.. أليس ماجري عملا مبدعا ورائعا ومميزا.. أليست تلك المباراة وهذا النصر التاريخي قد بدلا المرارة التي شعرنا بها جميعا بعد ماجري في أم درمان يوم 18 نوفمبر الماضي.. وقد كانت الغصة باقية في حلوقنا.. والإحباط يطارد مشاعرنا. لقد أردت في البداية أن أكتب هنا مقالا عاطفيا.. مشبوبا بالمشاعر التي خالجتني وخالجت كل المصريين وكثيراً من العرب ليلة الخميس - الجمعة.. لكن الزمار قد يموت بينما أصابعه تلعب.. ففي صباح يوم الجمعة تكشفت لهذا المقال مجموعة من الحقائق السياسية والمعلوماتية التي دفعتني لأن أغير وجهتي قليلا.. في ضوء ماجري في أنجولا حيث كان التنافس الشريف يتمتع بفرصة مذهلة لكي يتجسد في أجواء عادلة. وفي ضوء تلك المعلومات لابد كمصري، وبالنيابة عن كل المواطنين أن أتقدم بالشكر إلي الرئيس الأنجولي (جوزيه إدوارد دوس سانتوس).. الذي يتميز بقدر هائل من الحكمة والحسم.. فأعطي إلي تلك البطولة الأفريقية قدرا هائلا موازيا من التميز والتأمين.. علي الرغم من الحادث الإرهابي الذي وقع قبل أن تبدأ البطولة.. وتعرض له منتخب توجو وأدي إلي مصرع اثنين من أفراد بعثته.. وهو نفسه الرئيس الذي أدرك خطورة الموقف بسبب شحن الأجواء التي تحيط بمباراة مصر والجزائر فتعامل معها بما ينبغي. الرئيس الأنجولي يستحق التقدير والاحترام.. وتنظيم الدولة الأنجولية للبطولة ينبغي أن يحظي بالوافر الواجب من الإشادة.. وإليكم الأسباب فيما يخص مباراة مصر والجزائر: -رفض الرئيس الأنجولي أن تقدم بلده تأشيرات جماعية لخمسة آلاف مشجع جزائري بناء علي طلب عاجل من الرئيس الجزائري بوتفليقة.. وقرر أن كل مشجع يحصل علي التأشيرة بشكل فردي.. مما أدي إلي فحص كل أوراق المسافرين من الجزائر.. وإغلاق الباب أمام أي فرصة لحشد من قد يتسببون في العنف وإثارة الشغب. -لابد أن أذكر أن الرئيس المصري حسني مبارك لم يجر أي اتصال ولم يتدخل من أجل أي تسهيل غير متبع في الإجراءات الأنجولية.. وظل حريصا علي مقومات صفته كرئيس دولة وليس رئيس رابطة مشجعين . - رفضت أنجولا أي رحلات جماعية مباشرة إلي مدينة (بنجيلا) حيث أقيمت مباراة مصر.. ومن ثم لم تتمكن فرق (الكسحة) الجزائرية التي كانت مسئولة عن عمليات الشغب في أم درمان في أن تجد لنفسها طريقا إلي الملعب.. فقط قبلت أنجولا رحلتين للطائرات المباشرة إلي بنجيلا.. مما أدي إلي وصول 400 مشجع جزائري مباشرة من الجزائر.. في حين سافر إليها 500 مشجع آخر عن طريق لواندا - العاصمة بعد أن استقلوا طائرات إضافية داخلية. - فرضت أنجولا تفتيشا ذاتيا علي كل المشجعين الذين وصلوا إلي بنجيلا لحضور المباراة.. تفتيش دقيق جدا.. بحيث تأكدت من عدم دخول أية أسلحة أو أدوات تستخدم في الأعمال العنيفة إلي ملعب المباراة. -عقد مدير أمن بنجيلا اجتماعا سابقاً علي المباراة مع ممثلي الفريقين والمشجعين، وأكد فيه علي أنه لن يتم التهاون بأي طريقة مع أي مشجع يمكن أن يسلك أسلوبا غير قانوني في التفاعل مع المباراة.. وأنه سوف يتم القبض علي أي مخالف ويسجن في بنجيلا ويحاكم فيها ولن يرحل إلي بلده. هذا المناخ الآمن الذي وفرته أنجولا بتعليمات مباشرة من الرئيس دوس سانتوس قد أدي إلي حمايتها من أي عوامل قد تفرض نفسها علي اللاعبين وحالتهم المعنوية وإنقاذهم من ترويع يخرج بهم من نطاق التنافس الشريف.. ومن ثم فإن التحية واجبة والتقدير حتمي والإشادة ضرورية بكل ماقامت به الدولة المنظمة التي أدارت بطولة ناجحة ومباراة عادلة. -- وليس الرئيس دوس سانتوس وحده هو الذي يجب أن نشيد به.. إن علينا كذلك أن نعطي كل الاعتبار للحكم البنيني كوفي كودجا الذي أدار هذه المباراة بكل اقتدار وشجاعة يحسد عليها.. ولكنها شجاعة يجب أن تتوافر في كل من يدير تنافساً شريفاً.. فقد طبق القانون حرفيا.. وسيطر علي مجريات الملعب.. وأعطي انطباعا من اللحظة الأولي بأنه لن يسمح بأي انفلات.. مما أدي إلي إرباك لاعبي الجزائر الذين اعتادوا علي هذا النوع من الترويع بلا حساب في المباريات.. ومن ثم فقد كانت العدالة متوافرة في ميدان اللعب.. في الداخل والخارج.. وكشف التنافس الشريف عن أصحاب القدرات الفنية الحقيقية. لقد فضح هذا الأداء التحكيمي المذهل وغير المسبوق والذي أدي إلي طرد ثلاثة من لاعبي الجزائر.. فضح العنف الذي تميز به الخضر دائما.. والابتزاز الرياضي الذي يمارسونه في مختلف التنافسات.. وكشفهم أمام العالم.. وأظهر حقيقة ما قاله المصريون دائما.. وكانت المشاهد واضحة جلية أمام كل الجماهير عبر كاميرات لاتكذب ولا تزيف.. وحتي لو كانت تعليقات الرياضيين الجزائريين والصحف الخضراء تدين الحكم وتعتبره سببا للهزيمة التاريخية علي أيدي المصريين.. فإن الكل في جميع أنحاء الأرض يدركون الحقيقة المرة.. وهي أن الجزائريين لم يكونوا يلعبون.. وقد افتضح أمرهم حين طبق القانون. نحن نشكر العدالة التي تميز بها كوفي كودجا.. وقد تنازل عن بعض حقه حين (نطحه) حارس مرمي الجزائر شاوشي في الشوط الأول عقب التلاعب الذي مارسه معه حسني عبدربه أثناء تسديد ضربة الجزاء.. واكتفي وقتها الحكم بإنذار شاوشي في حين كان يجب طرده.. ويبدو أنه لم يستوعب مجريات الأمور فارتكب خطأً جسيما جديدا قبل نهاية الماتش وطرد في المرة التالية. ولاشك أن الطريقة العنيفة التي أدي بها فريق الجزائر المباراة.. وهي لاتناقض أسلوبه المعتاد.. سوف تدفع الاتحاد الدولي لكرة القدم إلي اتخاذ مزيد من الإجراءات لضمان نزاهة اللعب وتطويق عنف اللاعبين في الميدان.. ولو لجأ هؤلاء اللاعبون الخضر إلي نفس الأسلوب في جنوب أفريقيا فإن الفضيحة سوف تكون مدوية. ومن المستحق أن نتقدم بالتقدير إلي عيسي حياتو رئيس الاتحاد الأفريقي الذي يدير هذه البطولة الرائعة.. فقد التزم بمعايير العدالة.. وبدا شفافا ونزيها.. خاصة خلال مباراتي مصر مع فريق بلده الكاميرون.. ومع فريق الجزائر.. باختيار حكمين عادلين.. وقد طرد أيضا الحكم الذي أدار مباراة مصر والكاميرون لاعبا من الكاميرون. إن إدارة عيسي حياتو للبطولة هي التي أسفرت عن حقيقة مذهلة.. وهي أن فريق مصر الذي لم تمكنه طريقة تنظيم تصفيات كأس العالم من أن يشارك في بطولة المونديال العالمي المقبلة قد هزم ثلاث فرق صعدت إلي تلك التصفيات.. وهي: نيجيريا والكاميرون والجزائر.. وفيما يبدو فإنه - بإذن الله- في طريقه للفوز علي الفريق الرابع في النهائي. -- هذا المناخ الشريف هو الذي ساعد المدير الفني المصري حسن شحاتة علي أن يدير مباراة تاريخية وإنتاج لعب رائع بفريق سوف تسجل أسماء لاعبيه بحروف من نور في تاريخ مصر والرياضة الأفريقية. لقد تمكن حسن شحاتة من أن يفرض علي لاعبيه ويدفعهم إلي قدر هائل من التركيز الشديد في المباراة من اللحظة الأولي.. بحيث تأكد أي متابع أنهم سوف يفوزون بها إذا ماواصلوا تلك الحالة التي بدأوا بها.. وهو ماكان.. وبخلاف الإخلاص والتفاني والقدرة الفنية واللياقة العالية التي تميز بها الفريق.. فإن هذا التركيز الشديد هو الذي كان العامل الأول في وصول المباراة من جانب مصر إلي ذلك المستوي المرعب وغير المسبوق من نواح عديدة. وعلي الرغم من كوني لست متخصصا في الرياضة.. إلا أن أي متابع لابد أنه قد احترم في حسن شحاتة أنه هو نفسه كان يتميز بتركيز مدهش في مجريات المباراة.. بحيث هبط فريقه إلي الملعب بخطة غير متوقعة.. تبدلت أولوياتها وأساليبها خلال الشوطين عدة مرات.. مما دفع رابح سعدان إلي الارتباك وأدي إلي كشف عجزه عن أن يجد حلولا من أي نوع لمواجهة الفريق المصري.. فلما فقد تركيزه وانعدمت قدرته وأصبح الفريق الذي يدربه بلا قيادة.. فإنه ترك اللاعبين لكي يكشفوا ما لديهم من مكنونات حقيقية.. تجسدت في العنف والضرب وكل مايخرج عن أساليب الرياضة الشريفة.. وكل ما أسفر عن أحداث أدت بهم إلي الحصول علي ثلاثة كروت حمراء. تحية واجبة إلي صناع السعادة.. إلي كل اللاعبين المصريين المشاركين في تلك البطولة.. والذين يتجهون إلي تحقيق إنجاز تاريخي.. يفرح البلد ويجعل الشعب ناعما بانتصارات رائعة.. ونحن ننتظر منهم في ليلة الغد مستوي لائقا بإنجازاتهم المتوالية.. وبما يتوج جهدهم المشكور.. يحيا منتخب مصر بكم.. وتحيا مصر بأبنائها . عبد الله كمال يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة علي موقعه الشخصي www.abkamal.net أو علي موقع المجلة : www.rosaonline.net/weekly أو علي المدونة علي العنوان التالي: http//:alsiasy.blogspot.com Email: [email protected]