على بعد 250 كيلو مترا شرق القاهرة وعلى سفح «جبل الجلالة» كما يطلقون عليه على ساحل البحر الأحمر يقبع فى سكون وخشوع «دير الأنبا أنطونيوس» أقدم دير فى العالم.. ويعود إلى القرن الثالث الميلادى داخل واحة خضراء هادئة يرفرف على أجوائها نسيم الإيمان، وتحيط بها تكعيبات العنب وأشجار النخيل التى تناطح قباب القلالى، وأجراس الكنائس الخمس تدق فى سيمفونية متناغمة يكاد يذوب صوتها وسط الجبال الشاهقة، فتضفى على المكان روحانية هائلة قلما تجدها فى أى بقعة من بقاع العالم. الدير يضج بالرهبان الذين تتجاوز أعدادهم المائة.. يخرجون ويدخلون من مساكنهم المجاورة التى لا تبعد سوي أمتار قليلة عن الدير حيث تتناثر مبانيه على مساحة 8 أفدنة تحيطها قباب القلالى والحصن ويلتف من حولها سور الدير المزين بجذوع أشجار النخيل والورود الحمراء والياسمين التى تنتشر على جانبى كنيستى الأنبا مرقص والأنبا أنطونيوس ذلك القديس الذى يعد أول من دعا للرهبنة ووضع قوانينها ليس فقط فى مصر وإنما فى العالم.. فحبه للطاعة جعله زاهداً فى الدنيا.. وإيمانه بأن الرهبنة هى فقر إرادى.. وطاعة وبتولية مع الشغل والصلاة والراحة دفع الكثيرين من الأقباط الذين تجاوزت أعدادهم الألوف للرهبنة على يديه. قصة هذا القديس أنطونيوس ببساطة أنه منذ ولادته فى 251 ميلادية فى قرية تدعى «كوما» قرب محافظة بنى سويف.. وهو هادئ محب للعزلة والانفراد والتقشف برغم ثراء والديه.. إلا أنه لم يفكر يوماً فى المال.. فكان زاهداً للحياة المرفهة.. وما أن أتم عامه الثامن عشر حتى فقد أبويه فأصبح لزاما عليه أن يعتنى بأخته الصغيرة ويدير حركة أملاكه.. غير أن الأفكار المقدسة كانت تتملك كل أفكاره.. وكثيراً ما كان يعجب بشهامة الآباء الرسل الذين تركوا كل شىء وتجندوا لخدمة الكلمة.. فباع كل أملاكه بعد أن سمع كلاماً للسيد المسيح يقول لأحد شباب اليهود الأغنياء: «إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع كل مالك وأعطه للفقراء وتعال اتبعنى» - وبالفعل أعطى لأخته نصيبها وتوجه بها إلى إحدى دور العذارى.. وباع كل أملاكه ووزعها على الفقراء حتى لم يبق شيئاً لنفسه.. وعاش بعد ذلك من كد يديه.. حيث كان يصنع الأقفاص ويقتات بثمنها.. وظل يروض نفسه حتى بلغ الخامسة والثلاثين من عمره وقرر البعد عن الناس للتعبد.. ولم تكن الأديرة معروفة وقتئذ بل كان الأتقياء الهائمون بحب العزلة يجتهدون بكل طاقاتهم فى الانفراد عن العالم والابتعاد عن معاشرة الناس فيتخذون لأنفسهم مغارات تبعد عن المدن والقرى، وسكن الصحراء حتي بنى هذا الدير فى أواخر القرن الثالث الميلادى وبدأ يتعبد فيه وكان ينقصه الكثير فأنشأ كنيسته الشهيرة داخل الدير والمعروفة باسم كنيسة «الأنبا أنطونيس» وأحاطها بالأسوار وبنى قلالي للرهبان حتى يسكنوا فيها ومن أتى منه بعده أنشأ كنيسة الأنبا مرقص ثم كنسية الرسل والعذراء. كانت حالة الدير قبل عملية الترميم التى استغرقت 9 سنوات كاملة بدأها المجلس الأعلى للآثار على مرحلتين كانت الأولى عام 2000 حيث بدأت بترميم كنائس الدير الخمس.. وهى كنيسة الأنبا انطونيوس وكنيسة الأنبا مرقص أنطونى وكنيسة العذراء والرسل، وكنيسة مارقوريوس أبوسيفين التى بعد أن تدهور حالها كانت تعانى قبل عملية الترميم كما ذكر تقرير مركز هندسة الآثار والبيئة بجامعة القاهرة - من تدهور كامل فى الأعمدة والأسقف المصنوعة من الخشب وجميع الرسومات الجدارية التى كانت محفورة على أسقف الكنيسة حتى الطرق المؤدية إليها تم هدمها نتيجة للتأثيرات الجوية فضلاً عن انتشار بعض الورش داخل حرم الدير وكان سقوط أعمدة كنيسة الأنبا مرقص هي القشة التى قصمت ظهر البعير بعد زلزال عام 1992 حيث هجرها الرهبان بعد تهالك الكنيسة وبدأ ترميمها بمعرفة مركز البحوث الأمريكى تحت إشراف المجلس الأعلى للآثار قبل أن يتبنى المجلس مشروع الترميم كاملاً حيث تضمنت المرحلة الأولى ترميم كل ما هو أثرى داخل الدير وشملت الميدا الأثرية «مائدة الطعام» والحصن وطاحونة الغلال وطاحونة الزيتون وعين المياه التى كان يعتمد عليه الرهبان بشكل أساسى فى الشرب، كما يقول لنا القمص «مكسيموس الأنطونى» مسئول مشروع الترميم بالدير واستشارى مشروعات ترميم وتوثيق التراث القبطى إن قداسة البابا شنودة زار الدير خمس مرات كان آخرها عام 1985 وطلب تقريرا كاملا عن حالة الدير ولكن المعاينة استغرقت عدة سنوات حيث شملت كل مساحة الدير بناء على توصية البابا وهى التى شملها التطوير فى المرحلة الثانية من بناء قلالى جديدة للرهبان بعد أن هجر معظمهم الدير الذى سقط معظم أعمدة جدرانه الداخلية وخاصة كنيسة الأنبا مرقص فى زلزال 1992 وهى التى أنشأها الأنبا مرقص الأنطونى الذى عاش زاهداً فى رحايا الكنيسة فى بداية القرن الرابع عشر الميلادى وحفر فيها بئر ماء ليسقى منه الأشجار ويشرب منه الآباء والشيوخ، أطلق عليه بعد وفاته «عين الشفاء» ومن القصص الشهيرة له أنه كان يتغذى على العشب والماء ولا يأكل سوى نوع واحد من الطعام، ومن كراماته أيضاً أنه فى إحدى المرات أصيب القديس مرقص أثناء عمله بضربة فأس على يده ومرض حتى شارف على الموت فوضع يده على صورة العذراء مريم فسمع صوتها تقول له: قم.. ياابنى لن يصيبك موت فى هذا الزمان.. بل ستعيش لقيام آخرين.. وظل يلقب «بالراهب الساكت» حتى أتم التسعين من عمره، لذلك بدأنا بترميم هذه الكنيسة أولاً تكريماً له.. كما تضمن مشروع الترميم إنشاء شبكة للصرف الصحى خاصة أن الدير انقطعت عنه الكهرباء وكانت به عين ماء رئيسية تنبع من داخل الصخور وتقدر كمية المياه المنسابة منه يومياً بحوالى «100 متر» مكعب حيث يتدفق الماء ليل نهار بسرعة ثابتة وبرغم كونها مياها نقية جداً وتستخدم فى الشرب والغسيل والزراعة إلا أن البابا شنودة أثناء تفقده للدير فى الثمانينيات طالب بإنشاء شبكة تستمد مياهها من الصهريج العلوى الذى يستمد مياهه من صهريج سفلى تتجمع فيه مياه العين فضلاً عن شبكات للصرف الصحى خارج الدير بحيث يمكن توصيل المياه إلى كل مبانى الدير. وتضمن مشروع الترميم فى المرحلة الأولى أيضاً التوسع فى بناء قلالى للرهبان بعد تزايد أعدادهم حيث يسكن الدير حالياً 120 راهبا كانوا يسكنون فى بيوت قديمة متهالكة.. فكان هدفنا من مشروع الترميم هو إعادة الدير إلى ما كان عليه دون التجديد فى مبانيه فأعدنا كل عناصره الأساسية إلى ما كانت عليه والمفاجأة التى اكتشفناها أثناء عملية الترميم هي العثور على كتابات يعود تاريخها للعصر القبطى تحت كنيسة الرسل التى تعتبر الأقدم بين كنائس الدير حيث عثر على هذا النموذج الكتابى فى القلاية وهى الغرفة التى يتعبد فيها الراهب.. وكانت مكونة من حجرتين متداخلتين عثر فى الحجرة الأولى على بقايا «فرن»، و«موقد بدائى» لطهى الطعام.. أما فى الغرفة الثانية فعثر على كتابات فوق أحد الجدران إلى جانب حوض صغير مبنى من الطوب. المفاجأة التى وجدناها - كما يقول مستشار الترميم - داخل إحدى غرف الدير والتى ننفرد بإعلانها الآن.. هى اكتشاف جزء تفصيلى من طاحونة تعود للعصر الفاطمى فى القرن الثانى الهجرى ومكتوب عليها «ربِّ يسر ولا تعسر» والطاحونة بناها نجار مسيحى يدعي «جرجس فكايس» وكانت جزءا من طاحونة الغلال التى كانت موجودة بالدير.. فحالة الرهبنة التى سيطرت على الكنائس انتقلت بروحها إلى العاملين أثناء عملية ترميم الدير حيث بلغ أعدادهم حوالى «200» عامل من المسلمين الذين أنشأوا «مصلى» داخل الدير للصلاة فيه في ليالى شهر رمضان. اللواء على هلال - رئيس قطاع المشروعات بالمجلس الأعلى للآثار - قال لنا إن التكلفة الإجمالية لعملية ترميم الدير بلغت 80 مليون جنيه شملت إزالة المبانى المستحدثة وهى التى كانت موجودة داخل حرم الدير مع ترميم واستكمال السور الأثرى. وترميم بواباته الأثرية واستغرق ذلك عدة سنوات بدأت فى المرحلة الثانية من المشروع بعد استكمال بناء الأعمدة الداخلية بالكنائس الخمس بعد إدخال شبكة خاصة للصرف الصحى والكهرباء وكانت هذه المرحلة أولية وانتهت عملية الترميم. باستكمال واجهات أربع قلالى للرهبان كانت متهدمة مداخلها وأعمدتها المعمارية فتم بناؤها من جديد. المشهد داخل كنيسة الأنبا أنطونيوس مختلف تماماً فالرهبان يتجمعون حول المكان الذى كان يتعبد فيه أبوهم الروحى.. حيث تتزين الحوائط بالرسوم الجدارية عن أشهر القديسين فى الرهبنة بعد الأنبا أنطونيوس.. فالمكان يشعرك بأنك داخل بانوراما أثرية. التقينا بالأنبا يسطس الأنطونى أسقف ورئيس الدير الذى دخل الدير فى 1981 وظل حتى الآن يتحدث مع بقية الرهبان بكلمات متواضعة.. حتى إن زوار الدير يعرفون أن هذا الراهب نادراً ما تغفل عيناه إذ يبقى ساهراً يتجول داخل الدير ليل نهار، وإذا تعب فإنه يستريح تحت إحدى الشجرات فى مزرعة الدير.. كان كلامه معنا قليلا جداً فقال: إن الأنبا أنطونيوس لم يكن قديساً عادياً فيكفى فضائله وسلوكه الروحى فهو الذى بنى هذه القلاع حتى يصبح بعيداً عن الناس منعزلاً على نفسه ثم اكتملت مبانى الدير حيث حرص القديسون من بعده على إنشاء حجرة يتجمع حولها الرهبان للمائدة بجانب السور الذى يحيط بالدير من جميع الجوانب.