النكتة تقول أن رجلا يجالس آخر بمقهى بحى شعبى يواجهه فى سخط وانفعال وازدراء مرددا: أليس لديك ذرة من نخوة أو رجولة؟!.. ألا يهمك عرضك وشرفك وسمعتك؟!.. هل تحول الدم الذى يجرى فى عروقك إلى ماء؟!.. كيف تسمح لزوجتك أن تخونك مع "إبراهيم الكهربائى" وفى منزل الزوجية، وعلى فراشك، وعلى مرأى ومسمع من الجميع؟!.. كيف تقبل هذا العار وتلك الفضيحة؟! أجابه الزوج مؤكدا فى ثقة: بتقول إبراهيم الكهربائى؟!.. طيب لعلمك بقى ده لا كهربائى ولا بيفهم حاجة فى الكهربة. والمغزى واضح.. تعمد صرف النظر عن جوهر الموضوع المثار والالتفاف حوله وطرح أمر آخر متعلق به ولكنه لايتصل بجوهره.. إننا نتحاشى الحقيقة تمويها وخداعاً، ونفسر الأشياء بعيدا عن محتواها ومعناها الظاهر. تذكرت تلك النكتة وأنا أتابع ردود الأفعال للأحداث المؤسفة التى تفجرت فى السودان المتصلة باعتداء أوباش الجزائريين على المشجعين المصريين بعد مباراة فريقنا القومى مع فريق الجزائر فى تصفيات كأس العالم الأخيرة. لقد ترك الكثيرون مناقشة جوهر المأساة وتحدثوا فى لغوٍ ممجوج يشى بالاختلاط والتضارب والادعاء والتحذلق والتهافت والتزييف وسوء الفهم أحيانا وتعمد خلط الأوراق فى أغلب الأحيان، ونشط "المتحفلطون" و"الحنجوريون" و"الطبالون" و"الزمارون" و"لابسو المزيكا" والمنتفعون والمتاجرون ومناضلو المقاهى، وشب حريق بين الناصريين والساداتيين.. التقدميين والرجعيين أتباع القومية ودراويش المد الثورى المناهض للإمبريالية العالمية المناصر للوحدة العربية.. والليبراليين "الخونة" المتسربلين برداء كامب ديفيد واتفاقية السلام "المشبوهة". والنتيجة هى بروز المفارقة الضاحكة الباكية، فالأحداث المؤسفة تارة المسئول عنها شخصيا الزعيم الخالد "جمال عبدالناصر" وتارة أخرى بطل الحرب والسلام "أنور السادات"، فالناصريون يرون أن جذور الكراهية تعود إلى سفر الرئيس السادات إلى إسرائيل، ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد وإبرام معاهدة السلام، حيث اندلعت الحملات الإعلامية من العرب ضد مصر تحمل اتهامات تخلى مصر عن دورها العروبى وخياناتها لقضايا الأمة العربية مفضلة الحل المنفرد والانحياز إلى العدو الصهيونى متناسين ما قامت به مصر تجاههم من مساهمة فى تحرير البلاد العربية وتنميتها.. ويرى الأستاذ "حلمى النمنم" أنه رغم أن هناك الآن اتفاق "وادي عربة" بين إسرائيل والأردن، بمقتضاه تم السلام بينهما وتبادل السفراء.. وهناك اتفاق "أوسلو" بين الفلسطينيين وإسرائيل، كما تسعى سوريا بدأب عبر تركيا لإقامة سلام مع إسرائيل.. كما سعى من قبل الرئيس حافظ الأسد.. وقدم الملك "عبدالله بن عبدالعزيز" مبادرة السلام وأقرتها الجامعة العربية بما فيها الجزائر، وتقوم المبادرة على الاعتراف بإسرائيل مقابل السلام، وإقامة علاقات طبيعية معها.. لكن مع ذلك لم يتوقف الشارع العربى إلا عند السادات وما قام به.. والعوام فى الجزائر وبقية الدول العربية مازالوا يرمون مصر بالخيانة. أما أعداء ناصر والناصرية فهم يرون أن ما حدث فى مباراتنا مع الجزائر فتح أذهان الناس على وهم ما يسمى بالقومية العربية، ويؤكد "لينين الرملى" أن الملك فاروق كان يطمع فى أن يكون خليفة للمسلمين أما البكباشى "جمال" - لم يكن ملكا - فاستبدل الخلافة الإسلامية بخلافة عربية ليبنى إمبراطورية تضم البلاد الضعيفة المجاورة ولم تكن أغلبها قد استقلت بعد، وهو ما يفسر لماذا يكرهنا جيراننا من العرب رغم النفاق المتبادل بيننا، وكانت النتيجة مشروعه الاستثمارى الوهمى وتدهورنا الحضارى، وهو ما يفسر شهوتهم فى التفوق علينا وأن نقلدهم كما كانوا يقلدوننا، أى أن الاعتماد على ما كان لمصر من مكانة ومهابة ودور بين العرب تضاءل بعد تراجع مفاهيم الوحدة والتضامن وأصبح نشيد "وطنى حبيبى الوطن الأكبر" يثير السخرية أكثر مما يثير النخوة والانتماء. والحقيقة أن لب القضية وبيت الداء لا علاقة مباشرة له بالتفسيرات السابقة بهزيمتنا فى المباراة، واعتداء الغوغائيين علينا هو حصاد ما يمكن تسميته ب "فوبيا العلم".. الجميع غائبون ونائمون وعاجزون، والعشوائية وسوء التخطيط والتنظيم وغياب الرؤية وانعدام المنهج والاستراتيجية والارتجال والتسيب واللا مبالاة وتخبط الاتجاهات والافتقاد إلى التنسيق كانت تسيطر على المشهد كله.. لم يقم أحد بدوره لا الخارجية ولا الداخلية ولا الإعلام ولا السفير المصرى فى الجزائر ولا السفير المصرى فى السودان الذى تعامل مع الأزمة بأسوأ ما يكون الأداء الدبلوماسى، حيث لم يبال بالتجهيزات الجزائرية والحشود التى استعدت للعدوان.. ثم ما لبث أن أكد فيما بعد أنه برىء من الإهمال، حيث أخبر المسئولين فى القاهرة عن استعدادات الجزائريين قبل المباراة بثلاثة أيام. لم تهتم الأجهزة المختلفة بدراسة الموقف وكتابة التقارير ورؤية أرض المواجهة فى الخرطوم وتجميع المعلومات عن موقف الجزائر كدولة وكشعب وعن سيكولوجية المواطن الجزائرى المشحون بالعدوان والغضب.. وعن تجهيزات الحماية المشروعة، واختيار المكان والمشجعين، وملاءمة الملعب وتنظيم الوفود المسافرة.. باختصار المبادرة بمنع الكارثة قبل وقوعها.. إن غياب المنهج العلمى والتخطيط فى معالجة الموقف هو المسئول الرئيسى عما حدث وخاصة إذا علمنا بانفراد "د.فاطمة سيد أحمد" فى العدد السابق من مجلة "روزاليوسف" بالتخطيط المحكم الدقيق الذى قام به جهاز المخابرات الجزائرية فيما سمى "بخطة أنصار الخضر" لقيادة المعركة الإرهابية ضد المصريين فى الخرطوم. وإذا كان البعض يرفع شعار أن "الديمقراطية هى الحل".. أنا أرى أن "العلم هو الحل" اللجوء إلى العلم كان هو الطريق الوحيد إلى الحفاظ على كرامتنا ومكانتنا حتى لا نضطر إلى اللجوء إلى معالجة الموقف مرهونا باعتذار من الجزائريين عما اقترفوه من جرائم ضدنا.. أو مهادنة الذات والارتكان إلى حكمة القدر والغيبيات والأمثال الشعبية التى تهون من أمر المصاب الجلل وتدعو إلى الاستسلام للمقادير، ف "قضاء أخف من قضاء" و"المكتوب ممنوش مهروب" و"يا بخت من بات مغلوب وماباتش غالب" و"أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد"، و"اللى منه هالبت عنه"، و"اللى كتب غلب". والحقيقة أن انحدارنا إلى مستوى أن نحمدالله على الهزيمة لأنه لو فزنا لعاد الكثيرون منا جثثا هامدة هو قمة الهوان والعجز، فكيف نحمد الله على "الخيبة" التى صنعناها نحن بأيدينا ولم يصنعها المولى عز وجل؟! إن محاسبة النفس أجدى وأنفع من التبريرات المتهافتة على طريقة نكتة الولد "إبراهيم الكهربائى".