أذكر جيداً.. حينما- كالمعتاد فى استهلاكنا- لهث الجميع على اختراع الموبايل، الذى أنجبه علماء نقول عنهم كفرة، ويستحقون الموت، والإبادة، كيف بإصرار رفضت فكرة استباحتى فى أى وقت.. أو أن تحتوى حقيبتى، جهازا يرن على كيفه. وأتذكر أكثر، الاستنكارات الكثيرة، المتعددة، التى اعتبرت موقفى: "تخلفاً عن العصرية".. أو "معاندة ليس لها مبرر".. أو "خالف تعرف".. أو "رغبة فى التميز وخلاص".. أو "ماعنديش فلوس أشترى خط وجهاز أو حتى كارت".. أو "تقشفاً ليس فى محله".. أو "عزلة مريضة عن الناس". وأتذكر جيداً، أننى حشدت، قواى العقلية، والإبداعية، للرد الوافى الكافى، على كل استنكار. لكن لا أحد يريد، الاستماع إلى طريقة تفكير مختلفة.. وتقبل نمط حياة مغاير للآلاف والملايين. لا أحد يستطيع، تخيل، كيف يمكن لامرأة مثلى، أن تعيش، حياة، سعيدة، عصرية، ناجحة، متحققة، سوية، بدون "موبايل".. أو "جوّال".. أو "محمول". قالت لى واحدة: "أنا مش عارفة إزاى كنا عايشين من غير موبايل"؟ رد عليها واحد، بزهو، أن لديه اثنين موبايل.. واحد للناس العادية.. وواحد "سرى"، لا يعرفه إلا الناس الVIP، وأصدقاء، وصديقات حياته السرية، الخاصة: "عندك حق.. كنا متخلفين.. وزى ما نكون على كوكب تانى.. دلوقتى حتى الست اللى بتبيع الخضار، تحت بيتنا، الحاجّة أم نعناعة عندها موبايل.. طبعاً حاجّة عصرية، شاطرة، بتاخد طلبات زباينها بالموبايل". قال واحد: "يا جماعة.. ما اعتقدش إن موقف الاستنكار ده، بسبب أنها مش عايزة، تكون عصرية". تحفزت صديقة قائلة: "هتقولك عشان أحافظ على خصوصيتى.. وكلام زى ده"!! رديت: "مافيش حاجة تقدر تفسد خصوصيتى.. لا موبايل.. ولا علاقة عاطفية.. ولا حريق فى منزلى.. أنا مش عايزة، أنشغل بجهاز كل شوية يرن.. أو كل شوية يعمل إشارة استلام رسالة من حد.. هو تليفون البيت والأنسر ماشين مش كفاية ولا إيه؟!". قالت واحدة: "افرضى لا قدر الله، كارثة.. أو مصيبة.. أو حادثة، حصلت .. أو .. قاطعتها: "الكوارث، والمصائب، والحوادث، تنتظرنى حتى أصل إلى البيت.. أو تترك لى رسالة على الأنسر ماشين كى أفكر على رواقة، كيف أتصرف، إن كان عندى حل.. أنا مش عايزة أى جهاز عصرى، يغير شخصيتى، أو إيقاع يومى، أو نمط حياتى"! قال أحد الأصدقاء: "كلام جميل.. وكلام معقول.. ماقدرش أقول حاجة عنه.. بس ده كل الناس، عندهم موبايل.. وكل يوم، بيتطور، وبقى عنده دلوقتى إمكانيات، وفوائد.. أنا جبت الموبايل أبو كاميرا.. وأقدر أبعت فاكس بالموبايل.. وفيه حاجات تانية كتير.. وبعدين.. "إدينى رنة عجبانى أوى".. ده الموبايل.. غيَّر اللغة اللى بنتكلمها، وشكل الحياة، ولسه كمان". سألتهم جميعاً: وبعد الموبايل أبو كاميرا، والموبايل أبو فاكس.. و"إدينى رنة" اللى عاجباكم، وشراء الملوخية من أم نعناعة بالموبايل.. هل حياتكم اتغيرت.. أقصد "الحياة" فى أساسها.. فى جوهرها.. اتغيرت؟.. ما أقصدش شكل الحياة؟ أقصد هل أنتم دلوقتى، أكثر حرية.. وسعداء أكثر، عشان فى جيوبكم، موبايلات بترن. اللى سكت.. اللى مشيت.. اللى بص لى باستغراب.. اللى تأمل كلامى فى صمت ولم يتكلم.. اللى خدت رنة الموبايل، حجة، عشان تبعد عنى. بعد لحظات، لم يعد أحد، موجوداً. لكن وصلت إلى مسامعى، بعد أن قرروا الرحيل بعيداً عنى، أصوات متداخلة من رنات الموبايلات العصرية.. أذان الصلاة.. مع غنوة لمطرب عصرى شعبى.. لحن أغنية مشهورة لفرانك سيناترا، دخل عليه صوت خليجى بيدى فتاوى دينية.. غلوش عليه السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.. شوشر على بيتهوفن، مغنية أفراح بتاعة موالد.. تقول "تراعينى رنة .. أراعيك رنتين".