ماذا يحدث لو أطلقت حرية العقيدة في مصر كاملة؟ كيف سيكون شكل المجتمع؟ هل سيبدو أجمل وأهدأ أم أكثر قبحا وغلظة؟.. وفوضي هل يخفف هذا الأمر من الاحتقان الطائفي أم يزيده؟ كلما ترك شخص دينه إلي معتقد آخر بأن الدنيا تقوم ولا تقعد، وكأن هذا الشخص هو الذي يسند بنيان الدين وخروجه منه سيجعله ينهار.. وكأن مصير الأديان بيد شخص أو بشر. حالة الاحتقان غير المبررة جعلتنا نطرح الأسئلة السابقة، فالمعتقدات في العالم كثيرة وعديدة ومتنوعة فهل يحتمل المجتمع المصري أن نفتح أبوابنا لكل المعتقدات السماوية والأرضية.. هل يمكن أن نري مصر دولة مدنية كاملة يمكن أن تضم محفلا بهائيا ومعبدا بوذيا وكنيسة لشهود يهوه والسبتيين والمرمون؟ وهل يمكن أن نري معبدا مجوسيا لعبدة النار وأن نشاهد من يتعبد للشمس والأهرامات أو غيرهما من المعتقدات، وهل نسمح للادينيين بالتعبير عن آرائهم دون خوف من عقاب؟ لو حدث ذلك هل سيكون لصالح المجتمع أم أنه يهدد السلام الاجتماعي.. طلبنا من عدد من المفكرين ورجال الأديان من مختلف التيارات الإجابة عن هذه التساؤلات وأن يضعوا تصورهم لشكل مصر في هذه الحالة. ( تحرير المعتقد ).. هذه العبارة تنطوي علي وضعين متضادين : وضع قائم ووضع قادم. الوضع القائم يعني، في هذه العبارة، أن المعتقد في قبضة سلطة غير سلطة الفرد، وقد تكون هذه السلطة دينية أو سياسية، والوضع القادم يعني، في هذه العبارة، تحرير المعتقد من هذه القبضة لكي يصبح صاحب المعتقد، وهو هنا الفرد، هو القابض علي معتقده سواء كان هذا المعتقد دينيا أو غير ديني. والسؤال إذن : ما هو الوضع القائم للمعتقد في مصر ؟ - هو في قبضة سلطتين : السلطة الدينية والسلطة السياسية في آن واحد. والأدلة علي ذلك ثلاثة : الدليل الأول يكمن في أنه ليس في الإمكان اتخاذ قرار سياسي إلا بفتوي دينية من قبل السلطة الدينية، بل ليس من حق الفرد أن يتخذ اسلوبا معينا في الحياة اليومية دون أن يكون معتمدا من السلطة الدينية. والدليل الثاني يقوم في تكفير أي إنسان يخرج علي الإجماع في البنود العقائدية المتفق عليها. ويأتي هذا التكفير من سلطة دينية ومدعما، عند اللزوم بحكم قضائي. والدليل الثالث يدور حول إحجام أساتذة الجامعات المصرية عن ممارسة الإبداع العلمي، خوفا من الردع الديني. وقد ترتب علي هذا الخوف خروج الجامعات المصرية من المنافسة الدولية. ومن البين أن هذه الأدلة المميزة للوضع القائم في مصر مماثلة لأدلة الوضع الذي كان قائما في أوروبا في العصور الوسطي المعتمة، وبالتالي فإنه يمكن القول بأننا في مصر نعيش ( الآن ) في مثل هذه العصور الوسطي. السؤال إذن : من الذي يخرجنا من هذا الوضع القائم المعتم ؟ هل هم رجال الدين ؟ أظن أن الجواب بالنفي لأن هؤلاء مهمومون بضبط وإحضار الكفار والملحدين من أجل تقديمهم للمحاكمة بدعوي تهديدهم لأمن الدين وأمن الدولة وأمن المجتمع هل هم المثقفون ؟ أظن أن الجواب بالنفي لأن هؤلاء منشغلون، في الأغلب الأعم، بالترويج لكراهية الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، بدعوي أن الغرب المستعمر ( بكسر الميم ) هو سبب تخلفنا، وأن تدمير الغرب كفيل وحده بإخراجنا من التخلف، وأظن أن الأصح هو القول بأننا سبب التخلف وليس الغرب، وبالتالي تكون مهمة المثقفين بيان الأسباب الذاتية لتخلفنا، وهي مهمة تنويرية لم تمارس بعد، والمطلوب ممارستها خاصة أن المجلس الأعلي للثقافة هو المكلف بهذه المهمة منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي. والمفارقة هنا أن الرئيس مبارك في حديثه مع رئيس تحرير مجلة روزاليوسف في 72/9/5002 قال : ( المفكرون والكتاب والمثقفون لهم دور مهم في تنوير المجتمع وكشف أبعاد خطوات الإصلاح). هل هم رجال الأعمال ؟ أظن أن الجواب بالنفي لأن هؤلاء بالذات ليس في الإمكان ممارسة أعمالهم من غير ثقافة تنويرية تشيع في المجتمع لكي تدرب الكل علي إعمال العقل والأخذ بمنجزات العلم والتكنولوجيا بيد أن هذه الثقافة التنويرية غائبة عن المجتمع. هل هو الحزب الحاكم ؟ أظن أن الجواب بالإيجاب سواء شاء الحزب أو لم يشأ لأنه هو وحده المسئول بحكم تحكمه في مجلسي الشعب والشوري، وبالتالي هو القادر سياسيا علي إحداث تغيير جذري في الوضع القائم وذلك باقتراح بإعادة النظر في الدستور القائم من أجل وضع دستور جديد يدور حول تحرير المعتقد من السلطة الدينية، لأن المعتقد، في المادة الثانية، هو في قبضة السلطة الدينية، والمطلوب أن يكون في قبضة الفرد، بحيث يمكنه التحرر منه إذا شاء أو تغييره إذا رغب بدون قيد أو شرط لأن حرية التعبير عن المعتقد حق من حقوق الإنسان وليست حقا من حقوق المجتمع. ومن شأن تغيير المادة الثانية أن يفضي إلي وضع دستور جديد تكون مواده الأربع الأولي علي النحو الآتي: المادة الأولي: مصر دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس العلمانية وتعمل ضمن النسق الكوكبي من أجل السلام والتقدم. المادة الثانية: الدولة حيادية إزاء الأديان. المادة الثالثة: سلطة المجتمع لصالح سلطة الفرد. المادة الرابعة: حرية الالتزام بأي معتقد دون فرضه علي المجتمع. وتكون هذه المواد الأربع هي الحاكمة لباقي المواد الأخري مع مراعاة وضع مذكرة تفسيرية لبيان ما يترتب علي هذه المواد الأربع من نتائج. وفي مقدمة هذه النتائج ضرورة إحداث تغيير جذري في نسق القيم القائم والذي هو من وضع ملاك الحقيقة المطلقة، إلا أن هذا التغيير من شأنه أن يحدث انهيارا لما جري العرف علي تسميته ب "ثوابت الأمة". وإذا حدث ذلك الانهيار فسندخل في حالة فوضي مماثلة للفوضي التي أعقبت التغيير الجذري لعلم الفيزياء مع بداية القرن العشرين؛ إذ تأسست الفيزياء النووية علي يد نفر من العلماء الشبان من أمثال بلانك وأينشتين. وكانت الغاية من تأسيسها اكتشاف مكونات الذرة بعد أن كان علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر يعتقدون أن ليس ثمة مكونات داخل الذرة، لأن الذرة ذاتها هي نهاية المطاف، ومن ثم حاول هؤلاء العلماء منع علماء القرن العشرين من نشر أبحاثهم في المجلات العلمية، إلا أن التطور لايرحم؛ إذ فشلت محاولاتهم واستمر العلماء الشبان في نشر أبحاثهم والتي أفضت بدورها إلي بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية. فوضي من هذا القبيل ستحدث في المجتمع المصري عندما ينتقل هذا المجتمع من الدستور القائم إلي الدستور القادم. وأظن أن هذه النقلة من شأنها أن تفضي إلي إعادة النظر في وظيفة وزارات ثلاث: وزارة الإعلام. وزارة الثقافة. وزارة التعليم. والذي يدفعني إلي تحديد هذه الوزارات الثلاث هو أنها هي القادرة - إذا شاءت - علي تأسيس نسق القيم الجديد، الأمر الذي من شأنه أن يحدث انعكاسا علي تربية كل من الجيل القائم والجيل القادم بأن يفكر بلا "محرمات ثقافية" ومن ثم يمتنع عن تلقي أجوبة عن أسئلة هو لم يسألها. وإذا نجحت هذه الوزارات الثلاث في ترسيخ هذه التربية الجديدة نكون بذلك قد تحررنا من سلطة ملاك الحقيقة المطلقة وأسسنا العلمانية لأنها بحسب تعريفي هي "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق". وبهذا المعني تقف العلمانية ضد هؤلاء الملاك وإذا تواري هؤلاء تحرر المعتقد ولم يعد في قبضة أحد إلا صاحبه، وهو بعد ذلك وما يشاء من الالتزام به أو تغييره، ولا لوم عليه ولا تثريب.