هل أصبح المصريون يكرهون النيل؟! هل ماتت فيهم مشاعر العرفان ونسوا أفضاله عليهم وعلي بلادهم منذ سنوات لا تحصي ولا تعد؟! كانت مصر صحراء جرداء فلما التقاها النيل وقع في هواها وميزها عن تسعة بلاد يمر بأراضيها عبر رحلة طويلة تصل إلي ستة آلاف وسبعمائة كيلومتر مربع، واختارها سكنا ومقرا، تدفقت مياهه في أراضيها واختلط طميه الأسود برمالها فصارت جنة الله في أرضه. اقترن النيل بمصر واقترن اسمها باسمه.. أعطاها الزرع والضرع ومنحها نبات البردي فتعلمت الكتابة واستخدمته في البناء. مصر القديمة عرفت قيمة النيل وقدره الحقيقي واعتبرته واهب الحياة، وكانت تنتظر فيضانه في كل صيف بفارغ الصبر، ويصوره فنانوها علي هيئة تمثال يجمع صفات الذكورة والأنوثة معا، لونوه بالأزرق والأخضر لون مياه الفيضان، أما الرومان فنحتوا للنيل تمثالا عظيما علي شكل أب يرقد مسترخيا وأبناؤه المصريون يتقافزون حوله في حب. مصر القديمة تغنت بالنيل في تراتيلها: »أنت الذي يأتي الخير في طريقه والغذاء عن نباته ويجلب مجيئه البهجة.. إنك لفريد.. أنت الذي يغذي ويطعم ويجلب المئونة لمصر كلها، الذي يهب كل فرد الحياة. وكان أجدادنا يقدمون للنيل الكعك والفاكهة والتماثيل الجميلة والتمائم، ويذبحون الأضاحي علي ضفافه ابتهاجا بوصول مياهه التي تفيض في أمواج عاتية مانحة الحياة للأرض. وبادلنا النيل حبا بحب، عندما جعل مصر خزائن الأرض وأنقذ بقراتها السمان من السبع بقرات العجاف، فكانت مزرعة الدنيا التي أنقذت البشر من الهلاك وذكرت في الكتب المقدسة. فماذا جري بعد آلاف السنين من الحب والعطاء المتبادل؟! اليوم نسيت مصر أنها هبة النيل.. وتنكر شعبها له. صارت تعامله كعاشق بلا كرامة أهمله أبناؤها وأهانوه وحولوه إلي خزانة لنفاياتهم. ألقوا فيه بصرفهم الصحي وحيواناتهم النافقة، وجثت جرائمهم والقاذورات المتخلفة عن غسيل الأواني والملابس وغيرها وخنقوه بالأسوار والمباني العالية! فلماذا انقلب المصريون علي النيل الذي جعل منهم أعرق حضارة في التاريخ؟! من المسئول عن هذه الحالة المرعبة من التردي؟ نظرة إلي تقرير حالة البيئة لعام 9002 تجيب عن هذا التساؤل بكل وضوح، ولندرك أننا لا نستحق النيل ونعرف كم أسأنا لهذا النهر العظيم! من بين 08 مليون مصري يعني ما يقرب من عشرين مليون أسرة، 4 ملايين أسرة فقط تحظي بخدمة الصرف الصحي، أما الأسر الباقية فلا سبيل أمامها للتخلص من الصرف الصحي سوي بإلقائه في النيل، وفيما يتفرغ منه من ترع وبحيرات وفي البحرين الأبيض والأحمر. شبكات الصرف الصحي تغطي 001٪ من شوارع وأحياء المدن، أما أبناء البطة السوداء، الفلاحون الذين يمدوننا بالغذاء، فمحرومون من هذه النعمة ولن تصل إلا إلي 11٪ منهم فقط حتي نهاية عام 0102. وبحلول عام 2102 سيصل عدد المحظوظين إلي 04٪، أما الباقون فعليهم الانتظار حتي عام 7102 عندما تتم استراتيجية مواجهة التحديات! 5611 قرية مصرية لا تعرف خدمات الصرف الصحي. خمسة آلاف حوض من القري النائية تصب الصرف الصحي في شبكة المصارف الزراعية بكل ما بها من تلوث كيميائي وبيولوجي، ويعاني أهالي القري من الرائحة الكريهة التي تنبعث من مياه المجاري التي تتدفق عبر المصارف الزراعية في طريقها إلي أن تصب في فرع رشيد! الفلاح المصري ليس محروما فقط من مياه نظيفة يروي بها أرضة،بل من مياه صالحة لإرواء عطشه، فأغلب القري المصرية مازالت لا تتمتع بخدمات المياه الصالحة للشرب.وحتي لا تبور الأرض ويموت الفلاح وعائلته من الجوع بسبب عدم وجود مياه نقية استخدم المزارعون مياه الرشاح ليرووا بها أراضيهم، واستخدموا مياه النيل للشرب بالرغم من تلوثها! أغلب ما نأكله من خضروات وفواكه تتغذي شجيراته علي مياه الصرف الصحي ولا أمل في إصلاح هذا الخطأ الفادح قبل عشر سنوات مع التفاؤل! تصرف الفلاح الذي تركناه غارقا في بحر الأمية والاتكالية، في غياب أو تواطؤ المسئولين. ولكم هو مؤلم أن نتذكر عدد السنوات التي أهدرت والمسئولون يغطون في نوم عميق ولا يفكرون في إخوة لهم يموتون من العطش وأراضيهم تتأمل النيل في حسرة! النيل الذي تغني به شعراؤنا ورددنا معهم أن من يشرب من مياه النيل لابد أن يعود مرة أخري إلي مصر. تجاهلهم المسئولون في عهود الملكية، ونسيتهم حكومات ثورة يوليو برغم الشعارات البراقة وارفع رأسك يا أخي.. إلخ، وتعاقبت الحكومات دون أن يفعلوا شيئا للفلاحين، والحكومة الحالية واصلت ميراث إهمال حقوق أبناء البطة السوداء.. المنبوذين في الريف.. ميراث طويل وشبه مقدس. للمدن كل شيء.. وللقري لا شيء.. لا شيء سوي أغان تحسد الفلاح »محلاها عيشة الفلاح يتمرغ علي أرض براح«، وبينما ابن المدينة يتغني بالمية التي تروي العطشان وتطفي نار الولهان يا سلام ع المية.. لا يجد الفلاح من سبيل لإرواء ظمئه سوي مياه النيل الملوثة بما يرميه هو نفسه من نفايات فيها. ورغم بشاعة الجرم فهل يمكن أن نلوم الفلاحين؟ يكفي ما أصابهم من أمراض تفتك بأجسادهم وتقضي علي الآلاف منهم وهم في ريعان الصبا مثل البلهارسيا والفشل الكلوي والفيروسات بأنواعها.. إلخ. ثم نتساءل: لماذا تتفشي بين المصريين أمراض الكبد الوبائي والفشل الكلوي والسرطان والتيفود وغيرها؟ ولماذا ارتفعت نسبة الإصابة بحساسية الصدر بين أطفالنا، ونتعجب لماذا تحتل مصر المركز الأول بين كل دول العالم في الإصابة بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي سي، ولماذا تغير طعم الفاكهة والخضروات ويسبب ما يؤكل منها نيئا - مثل الخيار والبطيخ والشمام - المغص والإسهال؟! ونندهش لماذا هجر الفلاحون قراهم وتحولوا إلي »عواطلية« يتسولون العمل.. أي عمل.. علي أرصفة المدن؟! وبعد أن سلطت الصحافة أضواءها الكاشفة علي تلك المأساة راح المسئولون يتبرأون من الجريمة ويلقي كل منهم بالمسئولية علي أكتاف الآخرين. أين كانت وزارة الزراعة طوال العهود الماضية؟ وإذا لم تفضحها الصحف أخيرا هل كنا سنأكل طعاما ملوثا بمجارينا إلي الأبد؟ وهل يكفي بعد أن استيقظت وزارة الزراعة من غفوتها أن يصدر وزير الزراعة قرارا بإزالة جميع الزراعات المروية بمياه الصرف الصحي والصناعي في مختلف المحافظات ؟ من يعوض ملايين المصريين الذين أصيبوا بأمراض عديدة ويعالجون بمنتهي الإهمال في مستشفيات الحكومة؟! مرة أخري تعالج الحكومة أخطاءها بخطايا جديدة، وبينما يلقي المسئولون بالتهمة علي بعضهم البعض يقع الإنسان البسيط ضحية لإهمالهم الجسيم وقراراتهم العشوائية، عالجنا أنفلونزا الطيور بالقضاء علي مصدر الرزق الرئيسي وربما الوحيد لملايين النساء الفقيرات، وعالجنا أنفلونزا الخنازير بالتخلص من مصدر رزق مئات المربين للخنازير، واليوم نداري مصيبة ري الأراضي الزراعية ببقايا الصرف الصحي بقرار استخدام القوة الجبرية وباللجوء لذلك الحل البيروقراطي العقيم تشكيل لجان لإزالة تلك الأراضي.. إلخ. فماذا عن مزارعي تلك الأراضي وكيف سنعوضهم عن الغيبوبة التي كان مسئولو الزراعة يعيشون فيها؟! وإذا كانت الهيئة العامة لمشروعات الصرف ليست مسئولة عن تسرب مياه الصرف من مصارفها وقطاع الري يتنصل من المسئولية فمن المسئول إذن؟ أسئلة لن تجد من يهتم بالرد عليها، لكن هل سيغفر لنا النيل كل تلك الجرائم؟! ؟