اكتساح التيار الإسلامي بتفريعاته الجولة الأولي من الانتخابات البرلمانية لم يحمل أي مفاجأة.. بل كان أقرب من حبل الوريد لكل من مارس السياسة في مصر وعاشرها يوميا.. ليس وليد اللحظة، بل إن نشاطا يجري، وخطابا يلقي، وتجهيزات تجري منذ سنوات لهذه اللحظة الفارقة.. فليس كما يصور البعض أنهم اختطفوا الدولة بل نحن - القوة الليبرالية - من فرطنا فيها! تبدلت الأدوار.. انقلبت الأحوال.. الإخوان الآن اللاعب الأساسي في الملعب السياسي، مواجهتهم صعبة في معركة القوائم الحزبية، وأشد صعوبة علي المقاعد الفردية لاتساع نطاقها.. لكنها علي قلتها تكشف الحجم الحقيقي، وتعبر عن الثقل السياسي في الشارع، فلا يزال الناخب المصري معتادا علي النظام الفردي، ولم يهضم نظام القائمة، وذلك لاعتبارات القبلية والعوائل والقدرة علي الحشد والشعبية، لذا كان نادرا أن يفقد الإخوان أحد المقاعد الفردية! إلا أن عمرو حمزاوي يمثل استثناء، وخروجا عن القاعدة بعد أن اقتنص منهم المقعد الفردي باكتساح في دائرة مصر الجديدة، ويزيد من قيمة نجاحه بكارة تجربته الانتخابية، فيما يمكن اعتباره انتصارا لكل الليبراليين، ويكشف عدم ميل بعض دوائر القاهرة إلي التوجهات الدينية المحافظة وخاصة السيدات ممن يرون أن الاتجاهات الدينية للتيارات الإسلامية ستقيد المجتمع علي العكس من المجتمعات المتحفظة في القري وبعض المحافظات، كما أن لديهم تخوفات كبيرة حال اكتساح الإسلاميين في الانتخابات بالإضافة إلي مشاركة المسيحيين بكثافة من سكان هذه الدائرة. حمزاوي مرشح يناسب مزاج دائرة مصر الجديدة كان اختياره لها للترشح فيها يمثل نصف تذكرة البرلمان.. فهي تخلو من العشوائيات ونسبة الفقر فيها ربما تكون معدومة ويوجد بها وعي ثقافي من قبل الناخبين جعلهم قادرين علي فرز المرشحين علي أسس برامجية موضوعية، ولم تجد معهم الرشاوي الانتخابية أو شوادر اللحوم، وحقائب الزيت والسكر.. فغالبيتهم ميسور الحال، كما أن هذا الوعي حصنهم من خطب دغدغة المشاعر بالدين، فكان الخطاب السياسي العقلاني الذي انتهجه حمزاوي لكونه متخصصا أصلا في العلوم السياسية بصفته باحثا وأستاذا فيها بجامعة القاهرة، كذلك شغله منصب كبير الباحثين لدراسات الشرق الأوسط بمؤسسة كارينجي للسلام الدولي إضافة إلي مهارات الاتصال لديه وحضوره مكنه من التسلل إلي عقول أهل الدائرة وإقناعهم به. لا يمكن إنكار دور العنصر النسائي في ترجيح كفته فهن يمثلن قوة تصويتية هائلة توجهت في أغلبها لتأييده في هذه الدائرة المخملية وقدرته علي التواصل معهم في أماكن تجمعهم بالأندية الأربعة الكبري «الشمس - هليوبوليس - هوليليدو - الغابة» والتي وفرت عليه التنقل والدعاية وسهلت من تواصله مع مجموعات الشباب. لا أنكر علي «حمزاوي» قدراته التنظيمية، واختراقه للتكتلات التصويتية المؤثرة في الدائرة، نجح في التواصل مع شباب الجامعات الخاصة والدولية، ساندوه وأيدوه وتطوعوا في حملته.. استطاع استقطابهم والاقتراب من عقولهم وأسلوب حياتهم فأعطوه أصواتهم! سكان دائرة مصر الجديدة والشروق والنزهة وبدر في غالبيتهم من نفس طينة «عمرو حمزاوي».. نفس الطبقة تقريبا.. نفس الانفتاح والتحرر، ولم تفلح معهم دعاوي الإخوان الذين حاولوا مسايرته ودفعوا بشباب مودرن من جماعتهم علي أمل جذب الانتباه لمرشحهم «محمد سعد أبو العزم» لكنهم فشلوا إلا في الحصول علي الكتلة التصويتية الإخوانية فقط في الدائرة، وكانت 48 ألفا فقط، في حين اقترب حمزاوي من 3 أضعاف عدد أصوات أقرب منافسيه ليحصل علي 125 ألف صوت! لايزال الخلاف والاختلاف حول «حمزاوي» مستمراً معه بعد نجاحه.. طبعة مختلفة من السياسيين الأكاديميين.. يقف في منطقة وسطي بين ميدان التحرير والأغلبية الصامتة.. براجماتي يجيد التحول والتنقل السياسي برشاقة.. لاحقته الأقاويل عن علاقته بالنظام السابق، وقيل أنه كان علي مرمي خطوات من أمانة السياسات، يصنفه البعض بمبعوث الإدارة الأمريكية، وفي الوقت نفسه له أرضية في ميدان التحرير، وشعبوية تليفزيونية استفاد منها منذ 25 يناير وحتي الآن.. نقلته من مرتبة المحلل إلي مقدم برامج! الشهرة الإعلامية التي طالها علي مدار 10 أشهر، وفرت له الوصول إلي جماهيره في الدائرة المثقفة في غالبيتها.. حتي حملته وجولاته الانتخابية تم تسليط الإعلام عليها، وأفادته علاقاته في النزع الأخير من الانتخابات أن تتم استضافته في كل البرامج تقريباً كاسرًا أيام الصمت الانتخابي التي يحظر فيها ممارسة عمله الإعلامي! --- تجربة «حمزاوي» رغم خصوصيتها لكنها كاشفة، ومبشرة بالقدرة علي منافسة حشد الإخوان وتنظيمهم من خلال وضع المرشح المناسب في الدائرة المناسبة.. فكثير من الأصوات المثقفة في الدائرة هالها تصرفات أولية من المتشددين الإسلاميين عندما سيطروا علي نادي الشمس- النادي الرياضي والاجتماعي الأكبر في الدائرة- وقاموا بإلغاء فريق الباليه المائي وأخذوا موقفا متشددا من كل الفرق الرياضية النسائية، فكان أن مالت كفة «حمزاوي» علي مقعد الفئات بفارق هائل، واستطاع المستقل «هشام سليمان» أن يدخل جولة إعادة رغم تقدمه أمام مرشح الإخوان «خالد عبدالوارث» علي مقعد العمال! --- تجربة دائرة مصر الجديدة- قاهرة الإخوان- فارقة يمكن تكرارها بالتخطيط السليم، والاختيار الأنسب بدلاً من الاختباء خلف سحابات اليأس والنواح علي مصير الوسطية التي تاهت بين التيارات الإسلامية، خصوصا أن نشوة النتائج الأولي أربكتهم، وغلفت خطابهم بهالة من التجبر وفرد العضلات، واستعراض القوة. نموذج «عمرو حمزاوي» وإن اختلفنا حوله- وأنا منهم- لكنه صوت ضروري، وخطاب مستنير وعقل منظم، ومعارض ناقل لأصوات كثير من الليبراليين والوسطيين من الجماهير الغفيرة، فلم يعد نائبا عن أهالي مصر الجديدة فقط، بل أصبح يحمل علي عاتقه مع بقية أعضاء البرلمان من الأحزاب الليبرالية عبئًا ثقيلاً جدًا للمحافظة علي الهوية المصرية!