اعتادت إسرائيل عبر تاريخها على توجيه الصفعات إلى أصدقائها.. وإحراج حلفائها واستفزاز الجميع بهدف تحقيق مصالحها وخاصة الأمنية منها.. استفزت المصريين.. وأحرجت الأوروبيين.. وأثارت القلق الأمريكى.. وفجرت الغضب التركى.. وأثارت العداء الإيرانى بعد أن مارست على عرب فلسطين كل أنواع التمييز.. واستخدمت كل الأساليب الوحشية ضد الفلسطينيين فى الضفة وغزة.. ولم يتوقف الاستفزاز الإسرائيلى عند هذا الحد. كانت إسرائيل تمنع دخول الكزبرة والشيكولاته وسنارات الصيد لقطاع غزة لأسباب أمنية.. إلى هذا الحد يصل الاستفزاز الإسرائيلى.. وعلى الرغم من أن عاموس جلعاد رئيس الهيئة السياسية والأمنية فى وزارة الدفاع الإسرائيلية كان قد أعلن أن المسلحين الذين نفذوا هجمات فى مدينة إيلات جنوبى إسرائيل عصر يوم 17/8/2011 قد قدموا من قطاع غزة.. وليس لمصر أى ضلع فى الهجمات التى تمت.. إلا أن القوات الإسرائيلية قتلت ستة من الجنود المصريين على الحدود.. وثارت أحداث عنف حول السفارة الإسرائيلية بالقاهرة واعتذرت إسرائيل رسميا لمصر.. ولكنها لم تعتذر لتركيا على ما قام به نائب وزير الخارجية الإسرائيلية «دانى أيالون» - العام الماضى - عندما أجلس السفير التركى فى إسرائيل أغوز تشليك كول على كرسى منخفض فى محاولة لإذلاله.. والانتقام من الانتقادات التركية لإسرائيل.. كما أنها لم تعتذر على الهجوم الذى قامت به قوات الكوماندوز الإسرائيلية على أسطول الحرية الذى كان يحمل مساعدات لقطاع غزة.. واختاروا السفينة مرمرة التركية ليركزوا الهجوم عليها.. ومن بين الذين كانوا يحملون جنسيات مختلفة قتلوا تسعة من نشطاء السلام الأتراك.. مما جعل الأمر يبدو وكأن الدولة العبرية تريد أن توجه صفعة قوية لحليفتها تركيا - حتى ذلك الوقت - أمام عدسات وكالات الأنباء العالمية.. وهو الأمر الذى دعا أنقره للرد على الاستفزاز الإسرائيلى بإعلان خفض التمثيل البلوماسى.. كما تم تجميد الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل.. والأهم من كل هذا جاء إقرار أردوغان فى نهاية العام الماضى للوثيقة الجديدة للأمن القومى التركى (وهى الوثيقة التى يعتبرها البعض الدستور السرى للبلاد) والتى صنفت إسرائيل بأنها تمثل تهديدا رئيسيا لأمن تركيا.. وهو ما يشير إلى أن العلاقات التركية الإسرائيلية ستتجه إلى المزيد من القطيعة.. وذلك مقابل تحسين علاقات تركيا مع سوريا وإيران والصين وروسيا.. خصوصا بعد المناورات العسكرية التركية الصينية.. تصوروا.. الصين الشيوعية تشارك فى مناورات مع تركيا العضو فى حلف شمال الأطلنطى.. وردا على ذلك نشر الموقع لإسرائيل (واللا) أن سلاح الجو الإسرائيلى سيستضيف بعد حوالى أسبوعين ولأول مرة تشكيلات تابعة لسلاح الجو اليونانى والإيطالى بهدف إجراء مناورات عسكرية تشمل معارك جوية مشتركة. تجار الحرب فى مارس من العام الماضى.. وخلال زيارة قام بها جو بايدن - نائب الرئيس الأمريكى - لتل أبيب لإقناع قادتها بتجميد بناء المستوطنات.. وأثناء زيارة بايدن أعلنت حكومة نتانياهو عن بناء 1600 وحدة سكنية جديدة فى مستوطنة «رامات شلومو» شمال القدس.. وكان هذا التصرف الإسرائيلى يمثل صفعة للإدارة الأمريكية.. واعتبرته هيلارى كلينتون إهانة لبلدها، وعبرت واشنطن عن غضبها صراحة. وبدلا من أن تحاول الإدارة الأمريكية كبح التهور الإسرائيلى تفاجئنا تل أبيب بأن إسرائيل والولاياتالمتحدة تستعدان حاليا لإجراء أضخم مناورة عسكرية فى التاريخ لم تحدد موعدها.. ورغم كل هذا عبرت واشنطن عن قلقها من احتمال قيام إسرائيل بهجوم منفرد على المفاعلات النووية الإيرانية دون التنسيق مع الولاياتالمتحدة.. وتتوالى الأحداث المذهلة. اتفقت آراء كثيرة للمتابعين لتفاصيل السلوك الإسرائيلى على الساحتين الإقليمية والدولية.. إلى أن قادة إسرائيل مجرد تجار حرب.. ويرجع ذلك وفقا لآراء بعض المفكرين اليهود إلى عقدة الإبادة الجماعية التى عايشوها عبر تاريخهم من (الماسادا) إلى (الهولوكوست) .. وأغلبهم يرى أن الشخصية الصهيونية تزدهر فى ظل وجود الخطر الأمنى الخارجى وعداء الأغيار - كل من هو غير يهودى - لهم.. فمثلا يرى الإسرائيليون فى تزايد أعداد الفلسطينيين خطر يهددهم ويسمونه بالقنبلة السكانية.. ويرون فى تآكل الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للغرب خطرا وجوديا يسمونه المعادلة الأمنية.. ويطالبون دائما بتغييرها قبل السعى لتحقيق السلام حفاظا على وجود الدولة العبرية ذاته وجاءت الثورات العربية لتحدث زلزالاً حقيقياً فى العمق الإسرائيلى أربك الدولة العبرية. والدليل على ذلك ما صرح به سيلفان شالوم نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية لأجهزة الإعلام العبرية فى نهاية يناير الماضى قائلا: «فى حالة صعود أنظمة ديمقراطية فى العالم العربى.. فإن أمن إسرائيل سيكون مهددا بشكل واضح.. لأن هذه الأنظمة الجديدة ستبنى خطوطا سياسية معادية لأمن إسرائيل». هكذا وبسرعة تفهمت عقلية الحرب التى تسيطر على قادة إسرائيل خطورة الثورات العربية منذ بداياتها على الكيان الصهيونى .. ولفهم ذلك يجب أن نذكر أن معظم الحروب التى خاضتها إسرائيل عبر تاريخها - أو التى هددت بشنها ولم تفعل - ترجع إلى وجود أسباب متعددة أهمها وجود أزمة داخلية تهدد الحكومة والاستقرار السياسى فى إسرائيل.. وتأكيدا لذلك ذكر مؤخرا عوزى عيلام.. رئيس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية أن القرار الذى اتخذه مناحم بيجن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق بتدمير المفاعلات النووية العراقية عام 1981 لم يكن فقط لاعتقاد د. بيجن بأن المهمة المقدسة لا مكان للخجل منها.. ولكن أيضا كان بيجن يهدف من هذه المهمة إلى كسب نقاط سياسية عشية انتخابات برلمانية كان يخشى أن يخسرها حزبه (الليكود).. وطبعا بعد مباركة واشنطن.. عموما يمكن القول بأن الصراعات والانقسامات الداخلية فى إسرائيل قد تدفع الدولة العبرية إلى خوض الحرب بالفعل أو التهديد بشنها باعتبار أن الحرب أهم وسائل تحقيق أعلى درجة من التماسك الداخلى.. ولكن هذا الاعتقاد قد ينقلب إلى عكسه حيث قد يؤدى الفشل الإسرائيلى فى حسم المعارك إلى انفراط هذا التماسك.. كما حدث فى حرب صيف 2006 وهو الأمر الذى انتهى باختفاء أولمرت ووزير دفاعه - فى ذلك الوقت - من المشهد الإسرائيلى. الانفجار الإسرائيلى بدأت الاحتجاجات الإسرائيلية ضد حكومة نتنياهو خجولة منذ أواسط يوليو الماضى.. وطالبت الاحتجاجات الحكومة بمراقبة أسعار السكن الذى ارتفعت 60% خلال السنوات الأربع الماضية.. وانتشر المحتجون فى مختلف المدن والبلدان الإسرائيلية مطالبين صراحة بخفض ميزانيات الأمن والدفاع والمستوطنات التى تستهلك 8% من الناتج القومى الإجمالى فى الدولة العبرية.. بينما لا تنفق الدول التى تعتبرها إسرائيل عدوة أكثر من 2% على الأغراض الأمنية.. وعندما شكل نتانياهو لجنة برئاسة مانويل ترختينرغ وانتهى عملها بإصدار توصيات لم ترض المحتجين.. ازدادت الانتفاضة الإسرائيلية اشتعالا.. وانضم العمال للانتفاضة وأعلن عوفرعينى رئيس نقابة العمال فى إسرائيل (الهستوردت) عن عزمه إعلان إضراب مفتوح فى المرافق الاقتصادية للقطاع العام بعد فشل المفاوضات مع وزارة المالية حول شروط تشغيل نحو 400 ألف عامل توظفوا عن طريق شركات مقاولة العمالة فى إسرائيل.. وقد حظى إعلان الإضراب بدعم من قادة الحركة الاحتجاجية الشعبية مما يهدد باتساع نطاق هذه الاحتجاجات بعد فشل الحكومة فى احتوائها.. وفى هذا المجال أشار بعض المحللين إلى أن شعارات الثورات العربية ومطالبات الإصلاح الاقتصادى وتحقيق العدالة الاجتماعية قد تركت آثارا واضحة على المجتمع الإسرائيلى الذى تحدى حكومة نتانياهو ونزل إلى الشارع مطالبا باستقالة نتانياهو وحكومته.. ومما يزيد هذه الأزمة تعقيدا هو أن المشكلة الاقتصادية فى إسرائيل أساسية وهى على صلة كبيرة بالأزمات التى تعيشها الدول الغربية الداعمة للاقتصاد الإسرائيلى وبالتالى يصعب حلها بالطرق التقليدية.. ويزيد من تعقيد الموقف توقع استماتة نتناياهو وحكومته فى تجنب الاستجابة للمطالب الاجتماعية والشعبية للمحتجين مما سيؤدى إلى تصعيد الاحتجاجات.. والسبب فى ذلك يرجع إلى أن نتنياهو لا يستطيع تمويل إصلاحات اجتماعية دون المساس بميزانية الجيش والأمن (وهو ما لا تقبله عقلية الحرب التى تحكم قادة إسرائيل) .. كما أن نتنياهو لا يستطيع الاقتراب من امتيازات المستوطنين .. واليهود الأرثوذكس المتطرفين.. وهؤلاء جميعا لن يقبلوا بالتنازل عن امتيازاتهم وستساندهم الأحزاب القومية اليمينية والأحزاب الدينية المتطرفة.. وبالتالى يصبح معنى اقتراب نتنياهو من هذه الامتيازات انهيار الائتلاف الحاكم الذى يقوده. ومع اشتعال النقاش الحاد بين قادة الاحتجاجات الإسرائيلية وقادة الحكومة وقادة الجيش وزعماء الجماعات اليهودية المتطرفة وقادة نقابات العمال.. اتجهت حكومة نتنياهو إلى إغراق الساحة الإسرائيلية فى أحاديث الحرب والمناورات العسكرية.. واستفزاز الجيران ودق طبول الحرب ضد إيران.. كوسيلة لإبعاد النقاش الداخلى الإسرائيلى عن قضية العدالة الاجتماعية الغائبة فى إسرائيل.. وفى محاولة لشغل الجميع بهدف «إخفاء الشروخ» العميقة التى أصابت أساسات بناء الدولة العبرية.. والتى تمثلت فى بعض جوانبها فى تصريحات «إفرايم هليفى» رئيس الموساد الأسبق التى وصف فيها المتدينين المتشددين الإسرائيليين بأنهم أخطر على إسرائيل من التهديد الإيرانى.. كما تمثلت فى رد المتطرفين اليهود العنيف عليه.. كما تمثلت أيضا فى انتفاضة الشعب الإسرائيلى ضد نتنياهو مما أدى إلى تزايد التعبير عن الغضب بين شرائح عديدة فى المجتمع بسبب تزايد الممارسات العنصرية ضد العديد من طوائف الشعب الإسرائيلى.. هذا بالإضافة إلى أن أحاديث الحرب واستفزاز دول الجوار تبعد الأذهان داخل إسرائيل عن القضية الأساسية فى إسرائيل.. وهى البحث فى طبيعة مستقبلها السياسى كدولة.. ويبقى فى النهاية السؤال: هل ستقود الانتفاضة الإسرائيلية نتنياهو إلى شن الحرب.. ربما نعم.. وربما لا.. فالاحتمالات كلها مفتوحة وإن كان من المرجح عدم اندلاع حرب ضد إيران.. وتلك قصة أخرى