وجدت التنظيمات الإسلامية المسلحة أرضا خصبة فى كردستان العراق منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضى، والطبيعة الجغرافية وميل الكرد إلى التدين خاصة فى المناطق الجبلية جعلهم فريسة سهلة لقادة الإسلام السياسى، وكانت الحرب فى أفغانستان فرصة مواتية لهؤلاء، حيث نالوا قسطا وافرا من التدريب وأصبحوا على دراية كاملة بالعمل المسلح وفنون القتال وتأثروا كثيرا بفكر القاعدة وعادوا إلى العراق ليرتكبوا أعمالا إرهابية، بل أسسوا لولاية شهرزور الإسلامية على الحدود مع إيران التى دعمتهم كثيرا. الشيخ عبدالله سعيد الكردى رئيس اتحاد علماء كردستان العراق الذى رأس الوفد الكردى فى المؤتمر الصوفى العالمى الأول التقته «روزاليوسف» وكان هذا الحوار: كيف نشأت الجماعات الإسلامية فى كردستان العراق وكيف تطورت وما منهجها الفكرى وهيكلها التنظيمى؟ - بداية لابد من توضيح مهم وهو أن كردستان العراق شأنها شأن العديد من بلاد العالم الإسلامى التى تأثرت بإعلان مصطفى كمال أتاتورك سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924 ومن ثم جاء رد الفعل من قبل العديد من علماء الدين بتكوين جماعات إسلامية مختلفة، وكان أول وجود للإسلام الحركى فى كردستان العراق على يد جماعة الإخوان المسلمين فى عام 1952 بزعامة الشيخ محمود الصواف وهو موصلى عربى القومية، وكان يسكن بالموصل ويزور مدينة أربيل من آن لآخر ويلتقى فى زياراته هذه مشايخ وعلماء الدين الأكراد إلى أن اقتنع عدد من علماء الدين بفكر الإخوان المسلمين فى مصر، وكان من بين هؤلاء العلماء الشيخ عثمان بن عبدالعزيز الذى أصبح فيما بعد عام 1987 مرشدا عاما للحركة الإسلامية فى كردستان العراق، وقبل ذلك بسنوات أصبح عدد كبير من علماء الدين فى كردستان أعضاء فى الحزب الإسلامى العراقى وظلت حركة الإخوان المسلمين تعمل فى سرية أحيانا وعلانية فى أحيان أخرى، إلى أن عقدت اتفاقية الجزائر عام 1975 وقرار نظام البعث فى العراق بحظر نشاط جميع الأحزاب القومية والدينية والشيوعية، وبسبب الاعتقالات التى كان يمارسها النظام العراقى آنذاك اضطر بعض السياسيين من الإسلاميين للجوء إلى دول الجوار لممارسة نشاطهم السياسى، ومن هنا ظهرت بعض الاتجاهات السياسية بدعم من إيران التى كانت فى بداية ثورتها وظهرت على السطح حركات إسلامية مثل جيش القرآن وحزب الله وجند الله، ولكن هذه الحركات كان عمرها قصيرا، ومع قصف مدينة حلبجة بالكيماوى عام 1987 نزح الكثير من أهالى المدينة إلى إيران، وكانت حلبجة مدينة ذات طابع دينى، وذلك لكثرة المدارس الدينية فيها وانتشار فكر الإخوان المسلمين نهاية الخمسينيات على نطاق واسع فأسسوا أول تشكيل إسلامى سياسى كردى مسلح فى عام 1987 وانتخبوا الشيخ عثمان بن عبدالعزيز مرشدا عاما لهم، وذلك فى المنطقة الحدودية العراقية الإيرانية، ومرت هذه الحركة بظروف عصيبة واعتقل الكثير من أعضائها وقتل آخرون وشاركت فى أول انتخابات فى إقليم كردستان عام 1992 وتم ترشيح مرشدها لقيادة الحركة التحررية الكردية فى مواجهة مسعود بارزانى وجلال طالبانى، لكنه لم يحصل على نسبة أصوات تؤهله لقيادة حركة التحرر، وهى 5% من إجمالى أصوات الناخبين. ما موقف الزعامات التقليدية سواء كان بارزانى أو طالبانى من منافسة مرشد الجماعة لهم؟ - نعم، دفعت المنافسات الحزبية بعد ذلك الحركة إلى الدخول فى صراع مسلح مع الاتحاد الوطنى الكردستانى بزعامة جلال طالبانى بداية من عام 1994 وحصل اقتتال داخلى، ولكن كانت الغلبة تتجه لقوات الاتحاد الوطنى واستطاع السيطرة علي مقار وممتلكات الحركة ولم يجدوا ملجأ سوى إيران التى احتضنتهم. هل اختفت التيارات الإسلامية بعد ذلك؟ - لا، ظهرت حركة الإخوان المسلمين كحزب سياسى علنى عن إقليم كردستان تحت اسم «الاتحاد الإسلامى الكردستانى» بزعامة الشيخ صلاح الدين محمد بهاء الدين، وظل حتى يومنا هذا أو بسبب الخلافات الفكرية الموجودة فى داخل الحركة الإسلامية ووفاة قائديها الشيخان عثمان بن عبدالعزيز وشقيقه على بن عبدالعزيز واحدا تلو الآخر، ظهرت انشقاقات داخل صفوف الحركة، وظهرت جماعة «جند الإسلام» و«الجماعة الإسلامية»، وكان عدد كبير من قادة جند الإسلام والجماعة الإسلامية قد عملوا فى أفغانستان ونالوا قسطا وافرا من التدريب، وأصبحوا على دراية كاملة بالعمل المسلح وتأثروا كثيرا بفكر تنظيم القاعدة وارتكبوا بعض الأعمال الإرهابية سواء القتل أو تدمير المنشآت، واستطاعوا تأسيس ولاية إسلامية فى منطقة شهرزور على الحدود الإيرانية، ولكن مع القصف الأمريكى أثناء الحرب على العراق كانت منطقة شهرزور هدفا للطيران الأمريكى وتم قصفها عدة مرات فتركوها وعاد قسم منهم إلى العراق وتركوا العمل المسلح وبقيتهم من جماعة جند الإسلام دخلوا إلى إيران وبقوا هناك حتى هذه اللحظة. لكن لماذا انتشرت الحركات الإسلامية الكردية المسلحة بكثرة خلال السنوات العشرين الأخيرة؟ - المجتمع الكردى بطبعه متدين بالفطرة، والكرد دخلوا فى الإسلام فى عهد الخليفة الثانى عمر بن الخطاب رغبة لا رهبة، ولكثرة وجود المدارس الدينية والعلماء البارزين بات المجتمع الكردى مجتمعا إسلاميا ليس بالمعنى الأصولى، ولكن بالتمسك بالإسلام الصحيح وتعاليمه أى الإسلام الوسطى، وقلما نجد قرية فى كردستان إلا وفيها مسجد ومدرسة دينية حتى النساء تعلمن القراءة والكتابة عن طريق المساجد التى كانت تسمى آنذاك بالحجرة. لكن لابد من توضيح شىء مهم ألا وهو أن القضية الكردية قضية قومية بالأساس، ولهذا فإن مؤيدى الحركات القومية التحررية كانت لهم الغلبة على مؤيدى الحركات الإسلامية السياسية لتمسكهم بالمنهج الوسطى للإسلام، ولا نستطيع أن ننسى دور علماء الدين الإسلامى فى كردستان على نشر روح الوسطية والاعتدال فى المجتمع الكردى، وكان للمرحوم مصطفى البارزانى دور رائد فى نشر تلك الوسطية بين العلماء، لذا نرى أنه على الرغم من قدم نشأة الفكرة الإسلامية إلا أن عدد مؤيديها وأنصارها قليل إذا ما قورن بمؤيدى الحركات السياسية، ولهذا بقيت غالبية الشعب الكردى على مذهب الإمام الشافعى وفى العقيدة على مذهب أبوالحسن الأشعرى حتى مناهج التدريس الدينى فى المدارس العلمية فى الإقليم بقيت مقتصرة على المذهبين الشافعى والأشعرى مع انتشار فكرة التصوف وفلسفته فى عموم الإقليم. ونتيجة لما سبق، فإن الجماعة الإسلامية شاركت الأحزاب الأخرى فى العملية السياسية وشاركوا فى الانتخابات الأخيرة التى جرت قبل عامين وحصلوا على أربعة مقاعد فى البرلمان من إجمالى 111 مقعدا، أما الإخوان المسلمون فحصلوا فى نفس الانتخابات على ستة مقاعد وحصلت الحركة الإسلامية على مقعدين فقط، وجدير بالذكر أن الجماعة والإخوان وحزب كادحى كردستان الحزب الشيوعى.. دخلوا الانتخابات متحالفين، ولهذا لم يشارك الإخوان والجماعة فى العملية السياسية لأنهم أصبحوا فى جانب المعارضة وأسسوا كتلة داخل البرلمان مع أعضاء حزب التغيير الذى انشق على الاتحاد الوطنى الكردستانى، ولهذا باتت المعارضة تشكل نحو 30% من إجمالى البرلمان فى كردستان. هل يمكننا القول أن فضاء الحرية فى كردستان بات يسمح للتيارات الأصولية الإسلامية بحرية الحركة الميدانية؟ - لا يخفى علينا أن المؤسسات الدينية فى الإقليم تحاول نشر روح الاعتدال والتعددية والتسامح فى المجتمع الكردى عبر الوسائل المتاحة لها من عقد مؤتمرات علمية أكاديمية ولقاءات مستمرة والنشر بالصحف والقنوات التليفزيونية المحلية والفضائية والمنهج الدراسى لكلية الشريعة ومعاهد الأئمة الخطباء والمحاولة من الاستفادة من منهج الأزهر الشريف وفتح معهد أزهرى فى أربيل عاصمة الإقليم، وإيفاد طلاب فى شكل بعثات إلى كلية الشريعة والقانون فى مصر كان لها الأثر الكبير فى نشر روح الوسطية، ويرجع ذلك إلى المتابعة المستمرة من قبل وزارة الأوقاف والشئون الدينية واتحاد علماء الدين الإسلامى فى الإقليم، وكذلك منتدى الفكر الإسلامى الكردستانى والدعم المستمر من قبل السيد رئيس الإقليم والحكومة المحلية، وتعمل المؤسسات الدينية من أجل تطوير الخطاب الدينى فى الإقليم، بحيث يكون خطابا بعيدا عن التطرف والغلو، وذلك بنشر روح التنافس بين مكونات الشعب الكردستانى، حيث تقام حاليا فى المحافظات الثلاث فى الإقليم: أربيل والسليمانية ودهوك، العديد من الدورات بإشراف وزارة الأوقاف بالتنسيق مع اتحاد العلماء ومنتدى الفكر الإسلامى لتأهيل خطباء المساجد ورفع مستواهم الثقافى والدينى، وكذلك تدريبهم على مجالات ووسائل التكنولوجيا الحديثة، وأقامت الأوقاف مؤتمرا كبيرا لتطوير وتجديد الخطاب الدينى، وكان له الأثر الكبير فى تغيير فكرة الخطباء ونهجهم نحو الأفضل. كيف ترى الدعم والاحتضان الدينى لجماعات سنية.. هل من أجل الإسلام أم هى تركيبة المصالح المعقدة؟ - إقليم كردستان محاط جغرافيا بعدة دول تعمل فى كثير من الأوقات لخلق مشاكل سياسية أو اقتصادية فى الإقليم، وبعض هذه الدول متقاربة فكريا من الأحزاب السياسية الدينية المتواجدة فى كردستان أو على أراضيها، فعلى سبيل المثال تركيا تتجاوب فكريا مع جماعة الإخوان المسلمين فى كردستان، وكذلك إيران لها تجاذبات مع كل الأحزاب الدينية رغم الاختلاف العقائدى والمذهبى، وكذلك السعودية لها علاقات جيدة مع الأحزاب الدينية فى الإقليم رغم اختلافهم فى العديد من القناعات الفكرية والدينية، ولذلك نرى أن طاقاتهم الإعلامية والسياسية فى بعض الأحوال أكبر بكثير من الميزانية المخصصة لهم فى حكومة الإقليم، وذلك بإدارتهم القنوات الفضائية وإقامة ندوات مستمرة ومشاريع مساعدة الفقراء والمحتاجين، وهذا دليل على أن هناك من يقدم لهم الدعم المالى من خارج الإقليم. لكن ما مصلحة إيران وتركيا فى دعم تلك التيارات الدينية؟ - باعتقادى أن كل دول الجوار تحتضن التيارات الدينية المخالفة لهم وذلك من أجل عدم استقرار كردستان من جانب، وعدم إقامة دولة كردية فى المستقبل لأن إقامة دولة كردية تعتبرها دول الجوار خطا أحمر وخطرا عليهم وظنهم فى هذا خاطئ لأنه ينافى الحقيقة، فمن حق جميع الشعوب أن تمارس حقوقها السياسية، الكرد فى كردستان العراق عددهم تجاوز 5 ملايين نسمة، ولهم حضارتهم وثقافتهم ولغتهم المتباينة مع القوميات الثلاث الأخرى التى تحيط بهم سواء كان الفرس أو الترك أو العرب، وهم ينتهجون نفس سياسة صدام حسين فى استخدام الأحزاب الإسلامية الكردية فى الكثير من الحالات للضغط السياسى على حكومة الإقليم. تقول إن هناك دعما ماليا من دول الجوار للأحزاب الدينية فهل معنى هذا أن نرى تلك الأحزاب فى الانتخابات المقبلة تحقق نتائج أفضل من الانتخابات الماضية؟ - أعتقد أن الحركات السياسية الإسلامية ستنكمش خلال السنوات المقبلة فى الإقليم، فإذا قارنا نتائج انتخابات عام 2005 مع انتخابات عام 2009 يتضح لنا أن الإخوان المسلمين فى الانتخابات حصلوا على 9 مقاعد، لكن تراجع هذا العدد فى الانتخابات الأخيرة إلى 6 مقاعد هذا من جانب، ومن جانب آخر انفتاح الكرد على العالم بشكل عام جعلهم يفكرون فى ضرورة إقامة كيان كردى والفكرة الإسلامية السياسية فى هذه المرحلة لا تستطيع الحصول على تأييد دولى لإقامة كيان كردى والمجتمع الكردى بفطرته مجتمع مسلم مسالم، لذلك لا يحتاجون إلى أفكار أصولية أو دينية سياسية لكى يصلوا إلى ما ينشدونه.