الحقيقة عندى وقد أكون مخطئا مائة بالمائة هى أن الدين الحق قد انتهى دوره عمليا فى مصر، وأن ما يتجلى الآن فى الجغرافيا البشرية والسياسية المصرية ويتجلى أيضا فى الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى، وعلم الجريمة هو تدين بعيد تمام البعد عن الدين الحقيقى! ثم إن الدين نصوص فى كتب مقدسة وكتب أخرى تفسر وتوضح، وبعضها يرقى إلى النص المقدس، كالأحاديث النبوية وأعمال الرسل. وما يجرى الآن هو هجر وتجاهل تأمين لهذه النصوص بل وإلغاء لها، وأكثر من ذلك العمل بما نصت على النهى عنه ورفضته جملة وموضوعاً ووضعت مرتكبيه موضع الخاطئين العصاة، بل والكافرين بما أنزل الله، وحتى لا يندهش المندهشون تعالوا نسأل بوضوح: هل يمارس بعض رجال الدين المسيحى ما ينص عليه الكتاب المقدس، خاصة فى التعامل مع الآخر؟ وهل يتفق سلوك رجل الإكليروس الذى لا أعلم رتبته الكنسية الذى وقف ووعد بأن يضرب محافظ أسوان «باللى فى رجله» مع صحيح الدين المسيحى ومع تعاليم السيد المسيح؟ وهل يتفق سلوك إكليروس آخر، وقف وهدد رئيس المجلس العسكرى بأنه إذا لم ينفذ المطلوب فهو يعلم ماذا سيحدث يتفق مع صحيح الدين المسيحى ومع تعاليم السيد المسيح؟ ثم هل يتفق صياح إكليروس آخر بالمطالبة بنصيب رسمى «كوتة» لا تقل عن 140 عضواً فى مجلس الشعب للمسيحيين.. وهل.. وهل؟! وإذا كان هذا هو سلوك الإكليروس من قساوسة وأساقفة ومطارنة، فما بالك بمسلك عديدين بغير حصر فى النخبة السياسية والثقافية، الذين يحتفظون لأنفسهم بالتعبير عن الأقباط، ومسلك الجماهير المحشودة والمعبأة من ذلك الإكليروس، وتلك النخبة التى أتعامل مع بعض أفرادها منذ نحو ربع قرن أو يزيد؟! أتساءل: هل قرأ هؤلاء جميعا العهد الجديد، ووصلوا إلى موعظة الجبل التى تعبر وتجسد قمة الرقى الأخلاقى والسلوكى، وفيها يقول السيد المسيح له المجد، وأنا هنا أنقل بعض فقراتها من الإنجيل: «طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات طوبى للمتأسفين فإنهم سيعزون، طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض طوبى للذين يجوعون ويعطشون إلى البر فإنهم يشبعون، طوبى للراحمين فإنهم يرحمون».. وفى آيات تالية: «.. قد سمعتم أنه قيل للمتقدمين لا تقتل وإن من يقتل يستوجب الدينونة لكننى أقول لكم إن كل من يغضب على أخيه بغير سبب يستوجب الدينونة، ومن يقل لأخيه يا راقا يستوجب حكم الشورى، ومن يقل له يا أحمق يستوجب نار جهنم، وإن قدمت قربانك على المذبح، وتذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئا، فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض وصالح أخاك أولا ثم ائت وقدم قربانك، تراض سريعا مع خصمك ما دمت معه فى الطريق لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم ويسلمك الحاكم إلى الشرطى وتلقى فى السجن».. ثم يقول السيد له المجد: «...وقد سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن لكننى أقول لكم: لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضا، ومن سخرك ميلا فسر معه ميلين ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، وسمعتم أنه قيل أحبب جارك وابغض عدوك لكننى أقول لكم: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وادعوا لظالميكم وطارديكم حتى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات لأنه يطلع شمسه على الأخيار والأشرار ويمطر على العادلين والظالمين، لأنه إذا أحببتم من يحبكم فأى أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك وإن حييتم إخوانكم فأى أجر لكم؟! أليس العشارون يفعلون كذا فكونوا إذن كاملين كما أن أباكم الذى هو فى السماوات كامل».. وتستمر موعظة الجبل ونقرأ فى الإصحاح السابع من إنجيل متى: «لا تدينوا لئلا تدانوا فإنكم بالدينونة التى تدينون تدانون وبالكيل الذى تكيلون يكال لكم.. ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك ولا تفطن للخشبة التى فى عينك، أم كيف تقول لأخيك دعنى أخرج القذى من عينك وها أن فى عينك خشبة، أيها المنافق أخرج الخشبة أولا من عينك وحينئذ تتبصر أن تخرج القذى من عين أخيك»! إنجيل متى البشير الإصحاحات من 8..5 هذا هو النص الإنجيلى الطاهر، فأين هؤلاء وأولئك منه! بل أين رجال الإكليروس تحديداً من هذا النص.. وأليس ما يقولونه ويفعلونه مخالفة صريحة بل نسف كامل له؟! على الجانب الآخر يظهر العدد الذى لا حصر له من الملتحين كثيفى اللحى الطويلة حليقى الشوارب.. والملتحين ذوى اللحى غير الكثيفة ويقصرونها ويعفون جزءا من الشارب.. ثم آخرون بغير لحى ولا شوارب، وفيهم معممون عمامة الأزهر التاريخية المعروفة ذات الطربوش الأحمر والشال الأبيض.. ومعممون بعمامات بيضاء مرسلة العذبة تتدلى على ظهورهم وجلابيبهم قصيرة، وهناك من يرسل الغترة المنتشرة فى الجزيرة العربية وبعض مجتمعات العراق والشام وفلسطين على رأسه بغير عقال.. وهلم جرا.. وكلهم ينسب لنفسه أنه الموكل بإعلاء كلمة الله وتطبيق شريعته والعمل بأحكامه إلى آخره، وفيهم من يعتبر نفسه جماعة من المسلمين ومن يعتقد أنه وحده جماعة المسلمين وغيرهم يعتبرون أنفسهم الفرقة الوحيدة الناجية وغيرها فى النار.. ثم هناك مذاهب ورؤى واجتهادات ومعظمها يدعى لنفسه الفهم الصحيح للنص. لقد وصل الأمر ببعض أولئك الذين أشرت إليهم أن يقف على المنابر رافعا أكف الدعاء، رافعا عقيدته سائلا الله سبحانه وتعالى وجل جلاله وعلا أن يهلك اليهود والنصارى عبدة الصليب وأن يخرب ديارهم وييتم أطفالهم! ثم جاء من يقرر تقريراً قطعياً حاسماً أن العلمانيين والقوميين والليبراليين كفرة ملعونون، مصيرهم جهنم وبئس المصير! ومعه يأتى غيره الذى أعلن قراره بأن مصر مسلمة، وستحكم بشرع الله وتقام فيها الحدود ومن لا يعجبه الحال فإن سفارات كندا وأمريكا وغيرها مفتوحة وليغادروا مصر! ناهيك عن الجدل الذى ما زال قائما على قدم وساق وفيه يظهر أن بعض من يمكن وضعهم فى خانة المعتدلين المستنيرين مازال يجادل فى ولاية غير المسلم على المسلم وفى ولاية المرأة.. إلى آخر ما فعل به المجال السياسى فى السنين الأخيرة! أين هؤلاء جميعا خاصة فيما يتصل بالمواطنين المسيحيين من النص القرآنى والحديث النبوى؟! إن عديداً من الآيات القرآنية حملت أمراً إلهياً، بإرجاء حسم أى خلاف بين المؤمنين بالله من مسلمين ويهود ومسيحيين إلى يوم القيامة، حيث يحكم الله بين الجميع، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الآيات: 113 من سورة البقرة و141 من سورة النساء و93 من سورة يونس و92 من سورة النحل وكذلك 124 من سورة النحل. ناهيك عن الآية القرآنية الكريمة التى جعلت من اتبعوا المسيح عليه السلام فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.. وفى هذا أبلغ وأقوى وأصدق رد على أولئك الذين يكررون ويزعقون بأن المسيحيين الحاليين كفرة.. فالله سبحانه وتعالى لم يدخلهم فى زمرة الكفار إلى يوم القيامة. وكما هى الحال فى آيات القرآن الكريم نجد الأحاديث النبوية الشريفة الحافلة بكل ما هو مودة ورحمة واحترام لأهل الكتاب جميعا، ثم منزلة خاصة لقبط مصر فى أحاديث صحيحة متواترة نقرؤها ونسمعها كل يوم تقريبا.. إننى أدعو الجميع للوقوف أمام النص القرآنى المحكم فى الآيات 113 114 115 من سورة آل عمران: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين''» صدق الله العظيم. إن منظومة الأخلاق والسلوكيات والمفاهيم الإنسانية التى انبنت على هدى من نصوص القرآن والسنة النبوية، هى منظومة لا تعرف شيئا مما يتحدث فيه ويمارسه أولئك الذين ابتلانا الله بهم ليفتنونا عن ديننا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. إن هناك نصوصًا فى التوراة وفى الإنجيل تتحدث عن أمة إسماعيل العظيمة «سفر التكوين»، وأخرى تضرب مثلا بصاحب الحقل الذى قتل الفلاحون وكيله، ثم قتلوا ابنه «متى 21 22» والتى تنتهى بقول السيد المسيح له المجد: «من أجل ذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تثمر ثماره ومن يسقط على هذا الحجر يتكسر ومن يسقط عليه هو يطحنه». هذه هى النصوص واضحة جلية، وهنا أتذكر أنه عندما حاول العالم الدكتور نصر حامد أبوزيد أن يقدم رؤية لفهم النص وكيفية التعامل معه كفَّروه وفرقوا بينه وبين زوجته، وها هم الآن أنفسهم لا يقدمون رؤى ولا مفاهيم للتعامل مع النص المقدس لكنهم يخالفونه علناً ويمارسون ما نهى عنه جهاراً نهاراً ولا يجدون حياء فى أن يصيحوا بأنهم وحدهم يملكون الإيمان القويم ويريدون تطبيق أحكام الله! نحن أمام إنهاء عملى من بعض الإكليروس المسيحى وبعض دعاة الدين الإسلامى للنصوص التوراتية والإنجيلية والقرآنية، وكما عند المسلمين مدعون بأنهم الفرقة الناجية سليمة الإيمان، فإن عند المسيحيين أيضا من يذهب إلى أنه وحده يمثل الإيمان القويم وما عداه هرطقة وكفر! أردت أن أؤسس لما يجرى الآن على مستوى التعامل مع النص، لأن هذا التعامل وبخاصة من جانب أصحاب الخطاب الدينى على الناحيتين هو فى ظنى الدافع الرئيسى لكل مظاهر التوتر والاحتقان. لقد حل الداعية المقاتل محل داعية الحكمة والموعظة الحسنة وادفع بالتى هى أحسن، وحل الراهب والأسقف المقاتلان محل الناسك الذى يملك الكيمياء الكبرى، وهى تحويل النفوس العاصية إلى نفوس مهدية مطيعة، والذى آثر العلو فى الأرض على الدخول فى ملكوت السموات. إن لما يجرى الآن جذورًا تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لن يتسع المجال للخوض فيها رغم أهميتها البالغة، وربما تأتى الفرصة للكتابة فيها على صفحات العزيزة «روزاليوسف». وغاية ما أود قوله أن الإكليروس رجال الدين من الناحيتين عليهم أن يقولوا حقًا وخيرًا أو يصمتوا، والأفضل عندى هو أن يُحرر «الديالوج الوطنى» مهما كانت حدته من سطوة هؤلاء الذين أعدموا النص على الناحيتين.