هل كان عبدالناصر شيوعيا؟ هذه التهمة التى ترادف الإلحاد، تنقضها تماما خطب عبدالناصر التى لا تخلو من الآيات القرآنية كما أننا ننشر وثيقة تكشف عن مدى العمق الدينى عند عبدالناصر، وهى عبارة عن المقدمة التى كتبها لكتاب «الدعوة التحريرية الكبرى» للأستاذ محمد عطا والصادر فى سلسلة «اخترنا لك» عام 1955 والكتاب يدور حول دعوة الإسلام ودورها فى تحرير الإنسان من الظلم والفساد والعبودية، والغريب أن غلاف الكتاب وصفحته الأولى لم يوجد بهما أى إعلان عن تقديم عبدالناصر له، بل جاء الأمر فى فهرس الكتاب بالصفحة الأخيرة، وهذا هو نص المقدمة. فى أخريات القرن السادس الميلادى، وقبيل أن يغمر نور محمد الرسول صلوات الله عليه أرجاء البشرية كان العالم فى الشرق والغرب، فى الشمال والجنوب، يتعثر فى خطأ الرجعية، ويئن من وطأة الجور والاستعباد، ويبعد كثيرا عن تعاليم المسيحية السمحاء، ويعكف معظمه على عبادة الوثن، ويعبد بعضه النار أو الكوكب السيار. فشعوب بأسرها تستذلها قلة من الرجال، قد يلقبون بالأباطرة حينا، والقياصرة حينا آخر، وعوالم بجموعها تضللها فئة أطلقت على نفسها رجال الدين، واتخذت من هذا اللقب ستارا تنوم به هذه الجماهير حتى لا تفيق من سباتها، وتزيح العصائب عن أبصارها. وحروب بعضها فى إثر بعض، تثار إشباعا لنهمة الغزو والفتح فحسب حتى بات العالم على شفا الهاوية، وكادت تدور عليه الدائرة، ولكن رحمة الله التى وسعت كل شىء قضت ولا راد لقضائها أن تهدى هذا العالم الضال، وترده إلى الهداية والاستقرار، فاختارت محمدا العربى اليتيم الفقير، الناشئ فى جوف الصحراء ليكون النبى الملهم، والرسول الموحى إليه، ليرد البشرية إلى السلام والطمأنينة، وإلى التراحم والتعاون، وإلى الإيمان واليقين. وكانت رسالته من أشق الرسالات وأخطرها، لهذا الجو العاصف الذى كان يجتاح العالم حينذاك، ولهذا التخلف المزرى الذى اتسم به البشر آنذاك، ولكن الخلق العظيم الذى تخلق به الرسول الكريم، والصبر الجميل الذى تحلى به طوال حياته، والقوة الخارقة فى الإعداد والتنظيم، وما كان يمتاز به من بلاغة، ومنطق سديد، كل أولئك مكن لرسالته، وأصل لدعوته، فآمنت به هذه الملايين من البشر إيمانا زاخرا لا يخبو ولا يفتر. ولقد استطاع الرسول الكريم أن يجعل دعوته مثالا لكل الدعوات، ومنارا لمن أتى بعده من المصلحين، فقد كان خاتم الأنبياء، وآخر الموحى إليهم من المرسلين، فجعل من حياته دستورا للحاكمين، ومن سيرته شخصا يهتدى به الأحياء على مر الأجيال والأعوام. لقد كانت حياته متناهية فى البساطة، غاية فى السمو والترفع، فعاش فقيرا ومات فقيرا، وكان فى ذلك مضرب الأمثال. وكانت سيرته حافلة بألوان التضحيات، فضحى بنفسه مرات ومرات، ضحى بها عند إعلان دعوته، وإصراره عليها، وعدم الرجوع عنها على قلة الناصر والمعين، وضآلة المال والنشب، وضحى بها ليلة هجرته، وفى أيام هجرته وضحى بها فى الغزوات التى دافع فيها عن كيانه، بل كيان دعوته. وكانت دعوته من أقوى الدعوات لأنها لم تجعل حجابا بين العبد وربه، ووساطة بين الإنسان ومعبوده، فالله أقرب إلى مخلوقه من حبل الوريد، فقضى بهذه الدعوة على كل وساطة وكهانة وادعاء. وبساطة الدعوة كانت العامل الأول فى هذا القرب العجيب، فكل إنسان يستطيع فى يسر أن يفهم مرامى الدين، ويقوم بفرائضه فى غير عنت أو إرهاق. وأظهر ما فى الدعوة الاتحاد والتعاون، فالمسلم أخو المسلم، والمؤمن للمؤمن أنى كان هذا المسلم أو المؤمن، فالفرقة ضعف، والخروج على الجماعة خذلان. حقا إن فى الدعوة الإسلامية دروسا وعبرا، فلم لا نتخذ منها واعظا ومرشدا؟ لم يشق بعضنا عصا الطاعة على بعض؟ ولم نفترق فى سياستنا وأهدافنا ومثلنا؟ لم لا نهتدى بهدى الإسلام عندما نضل الطريق أو تشتبه علينا الأعلام؟ لم يكون بعضنا حربا على بعض؟ ولم ننساق فى سبيل غير سبيل الأخوة الصادقة، والعصبة المتكاتفة، والجماعة المتآزرة؟ ألم تكفنا هذه القرون السوالف التى صرنا فيها إلى حطام؟ ألم تنل منا العوادى لما كان بيننا من فرقة؟ ألم نستذل وقد كنا سادة الدنيا وكرامها؟ أيها العرب، أيها المسلمون، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بأن تكونوا يدا على من عاداكم، مسالمين لمن سالمكم، ولا تفرقوا ولا تهنوا فأنتم الأعلون، وليست هذه العبارة ألفظها من الشفاه، أو يرددها اللسان، ولكنها نابعة من قلبى المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام، التى هى دعوة القوة والسلام، فهل تضعون أيديكم فى يدى؟ وهل تلبون هذه الدعوة الحارة من قلب يؤمن بالعروبة والإسلام؟ وليس يكفينى أن بلغت، وأشهدت الله على أن بلغت، ولكنى سأسعى ما حييت، بكل ما فىَّ من جهد وعزم وإيمان، لتصبح هذه الدعوة حقيقة لا ريب فيها، والله على ما أقول شهيد.