لا أحد يستطيع أن ينكر أن الثورات العربية اشتعلت لأن الحكام تصوروا أنهم أبديون وأن أبناءهم سوف يرثون من بعدهم مفتاح البلاد إلا أن كل هذه الثورات مدينة إلى الفضائيات التى نقلت روح الثورة من الشارع إلى البيت فصارت ثورة الملايين.. قبل اشتعال الثورة لعبت الفضائيات دور البطولة فى حياتنا.. ساهمت بقسط وافر فى زيادة مساحات الحرية المتاحة فى عالمنا العربى برغم كل القيود التى حاولت ولا تزال تحاول أن تقيدها وانعكس ذلك بالطبع على كل أوجه الحياة وأيضاً على كل وسائط التعبير، سينما مسرح تليفزيون.. وتحديداً الفيلم السينمائى باعتباره أكثر الأعمال الفنية تداولاً وأكثرها أيضاً شعبية وحميمية واقتراباً من الجمهور.. السياسة فى المجتمع العربى هى «التابو» الممنوع الثالث بعد الدين والجنس.. وإذا كان المجتمع فى القسط الأغلب منه استقر على أن الدين منطقة لا يجوز الاجتهاد فى ثوابتها وأن الجنس والاتجار بالغرائز مرفوض تماماً ولكن تبقى السياسة وتحديداً الفيلم السينمائى السياسى الذى يملك الوثيقة التاريخية والحقيقة ولكن حتى الوثائق والحقائق نكتشف أن وجهات النظر تتعدد حولها. الإبداع والمجتمع والدولة الثلاثة يراهنون على الحرية.. المبدعون يريدونها حرية بلا رقيب، والمجتمع يريدها حرية لا تخدش قيمه ومبادئه، والدولة تقف فى المنتصف تلعب دور شرطى المرور فهى تسمح بالإبداع الذى يدعم موقفها بحجة الحفاظ على المجتمع ومبادئ الدولة العليا وترفض الإبداع بنفس الحجة باعتباره يتعارض مع الحفاظ على قيم المجتمع ومبادئ الدولة برغم أن السبب الحقيقى للمنع هو أنه قد يساهم فى النيل من قدسيتها ولا أقول فقط هيبتها لأن النظم العربية كانت ترسخ لدى الشعوب مبدأ التقديس!! غالباً ما يصطدم الفيلم السياسى مع الدولة لأنه فى العالم الثالث غير مسموح بأن يمارس الفنان دوره فى الانتقاد السياسى وعندما يفلت فيلم سياسى من هذا الحصار نجد أن القيادة السياسية نفسها تقف وراء هذا السماح ولهذا أصبح من المحفوظات العامة بين المثقفين أن الرئيس «جمال عبدالناصر» هو الذى صرح بفيلم «شىء من الخوف» إخراج «حسين كمال» عام 1968 وأن الرئيس «أنور السادات» الذى صرح بفيلم «الكرنك» إخراج «على بدرخان» 1975 ودخلت إلى القاموس الصحفى هذه العبارة الشهيرة التى قالها «عبدالناصر» فى نهاية الستينيات لوزير الثقافة أمد الله فى عمره «ثروت عكاشة» بحضور «سعد الدين وهبة» وكيل الوزارة «صرحوا بالفيلم.. إحنا مش عصابة بتحكم مصر يا ثروت»!! ويعتقد الكثيرون أن التصريح بهذين الفيلمين وغيرهما مثل «ميرامار»، «على من نطلق الرصاص»، «القضية 68 » دلالة على أن المجتمع يتمتع بحرية والواقع أنها شاهد نفى على الحرية وليست شاهد إثبات عليها لأنه عندما يصل الأمر بأن رئاسة الجمهورية هى التى تملك الموافقة على العمل الفنى فهذا معناه أن كل كبار الموظفين والمسئولين فى الدولة يعلمون أنه لا يوجد لديهم هامش حرية يتحركون من خلاله وأن الرئيس فقط هو الذى يملك تحديد مساحة هذا الهامش، ورغم ذلك فلقد ذكر لى الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس فى حوار نشرته قبل خمسة وعشرين عاماً على صفحات مجلة «روزاليوسف» أن الرئيس «جمال عبدالناصر» وافق على عرض فيلم «الله معنا» عام55 بشرط أن يتم حذف دور الرئيس «محمد نجيب» من الفيلم وكان «نجيب» هو أول رئيس مصرى قبل أن يتم عزله فى نهاية عام 1954 وسمح بالفيلم بعد إجراء هذا الحذف بعد أن.. لعب «زكى طليمات» دور «محمد نجيب» وفى نهاية الثلاثينيات عانى فيلم «لاشين» قبل أن يسمح بعرضه الملك فاروق!! أتصور أن بعد ثورة يوليو 52 ازدادت قبضة الدولة على الحقيقة وعلى حرية تداولها أكثر من العهد الملكى.. مثلاً كل المعاصرين يعلمون أن أول رئيس للجمهورية هو «محمد نجيب» شاهدوا صورته فى الصحافة واستمعوا إلى صوته فى الإذاعة قبل بداية إرسال التليفزيون عام 1960 ورغم ذلك كانت يد الدولة هى الأعلى وصوتها هو الأقوى ولأنها فقط تحتكر الحقيقة فلقد عرض الفيلم بلا أى إشارة لمحمد نجيب إلا أنه رغم التعتيم كانت تطل بين الحين والآخر أفلام سياسية تنتقد ولكنها قبل أن تعمل بنصيحة الفيلسوف الألمانى نيتشه «قل كلمتك وامش» تواجه بعنت رقابى مثل رواية «القاهرةالجديدة» لنجيب محفوظ التى ظلت عشر سنوات قبل السماح بتقديمها تحت اسم «القاهرة 30» رغم أن الأحداث تتناول فترة الثلاثينيات إلا أنهم اعتبروها - أقصد الرقباء بالطبع - تقدم إسقاطاً على الثورة ولهذا توجسوا منها ومارسوا صلاحيتهم على مخرج الفيلم «صلاح أبوسيف» الذى قال لى إنه ظل فى حرب طاحنة 20 عاماً حتى سمح بالفيلم!! والحقيقة أن أغلب السينمائيين استسلموا للسلطة، لم يكن نضالهم الأساسى من أجل الحرية والحقيقة بقدر ما هو تقديم أفلام ترضى الدولة.. ولهذا كما انتقدوا النظام الملكى فى عهد الرئيس «عبدالناصر» انتقدوا نظام «عبدالناصر» فى عهد «السادات» وعرفنا موجة شهيرة وهى أفلام مراكز القوى ثم بعد ذلك انتقدوا «السادات» فى عهد «حسنى مبارك» بأفلام انتقدت الانفتاح بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكان أولهم فيلم «أهل القمة» الذى قدم فى العام الأخير من رئاسة «أنور السادات» بعد موافقة «السادات».. الرؤية السياسية فى الأفلام فى عهد المخلوع كانت تراهن أكثر على العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية ولهذا يحرق العلم الإسرائيلى فى فيلم «صعيدى فى الجامعة الأمريكية»، ويحرق العلمان الإسرائيلى والأمريكى فى فيلم «العاصفة» وتكرر الأمر فى عدد من الأفلام والمسرحيات حيث نرى المظاهرات الغاضبة من الطلبة فى الأفلام مثل «السفارة فى العمارة» و«ليلة سقوط بغداد» بشرط واحد هو أنها لن تغادر أسوار الجامعة وهو شرط تضعه الرقابة لأن أمن الدولة لا يسمح أيضاً للطلبة بتجاوز سور الجامعة وبالمناسبة بطل فيلم «السفارة فى العمارة» عادل إمام أكد فى أكثر من تصريح أن «مبارك» هو الذى صرح بعرض الفيلم بعد اعتراض الرقابة المصرية وهو أيضاً كما صرح «عادل» الذى صرح بفيلم «الجردل والكنكة» الجزء الثانى من «بخيت وعديلة»!! وإذا كان الفيلم الممزوج بالسياسة يجد عند الجمهور رواجاً فى الماضى وينظر إلى صناعه باعتبارهم من الأبطال الفاتحين وذلك لأن كل الحقائق السياسية التى كانت من الممنوعات الآن أصبحت أغلب القنوات التليفزيونية الفضائية وأيضاً الأرضية تكشف الأوراق السياسية.. كل شىء أصبح على أطراف أصابع الناس عندما تتحدث السيدة «جيهان السادات» بكل صراحة ووضوح عن الرئيس «أنور السادات» وتحكى الكثير من المواقف التى كانت شاهد عيان عليها سواء قبل الثورة أو بعدها أو قبل تولى السادات الحكم أو بعده فلا يوجد هناك شىء ممنوع من الممكن أن تلعب عليه السينما.. كذلك عندما سجل الراحل «حسين الشافعى» النائب الأسبق لرئيس الجمهورية كل الذى كان لا يزال تحتفظ به ذاكرته عن الثورة ورجالها ويشاهده الناس ويجادله الآخرون أيضاً من شهود العيان ولا يتبقى شىء ممنوع أو غير متاح.. الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» يقدم مذكراته على قناة «الجزيرة» بدون ممنوعات أو تحفظات. الصورة التسجيلية والوثائقية لعبت دورها ولهذا فإن أهم لقطة عن الانتفاضة الفلسطينية هى تلك التى صورها الفلسطينى «طلال أبورحمة» لقتل الطفل «محمد الدرة» وتلويح والده فى محاولة أخيرة للدفاع عن حياة ابنه الشهيد وقبل ذلك ببضع سنوات عندما اندلعت حرب العراق والكويت كانت لقطة الطائر المغطى ببقايا الشحم والزيت والذى ينازع الموت هى الأقوى تعبيراً وإحساساً عما يجرى على أرض الكويت.. صورة «مبارك» على سريره فى القفص هو و«جمال» و«علاء» سوف تتحول مع الأيام القادمة إلى أفكار سينمائية والمؤكد أن «سوزان مبارك» سوف تحتل المساحة الأكبر فى الأفلام القادمة مثلما سيطرت على الكواليس فى الحياة السياسية!! البرامج التليفزيونية كشفت كل شىء. إن فيلماً مثل «الكرنك» الذى أخرجه «على بدرخان» قبل 35 عاماً عندما فضح المعتقلات والتعذيب وأوحى بشخصية «صلاح نصر» من خلال تقديمه لشخصية «خالد صفوان» التى لعبها «كمال الشناوى» تحول الفيلم إلى حدث فى الشارعين المصرى والعربى وكانت القضية التى أقامها «صلاح نصر» ضد صناع الفيلم هى - المانشت - الرئيسى للعديد من الجرائد المصرية والعربية.. مجرد الإيحاء بشخصية أو تقديم مشاهد درامية عن التعذيب كان يعد حدثاً يستحق أن تفرد له الصفحات الأولى الآن لا يكفى الإيحاء ولا المشاهد الدرامية لأن الإعلام السياسى من خلال برامج التليفزيون أطلق العنان أكثر لخيال الجمهور ولهذا فإن الناس تريد أن ترى الحدث وتمسك الشخصية ولعب «أحمد زكى» فى تلك المساحة بفيلمه «ناصر56» ثم «أيام السادات»، اختار فى فيلم ناصر101 يوم هى تلك الفترة الزمنية التى ارتبطت بتأميم قناة السويس والتى لم يختلف بشأنها كل رجال السياسة على تعدد وجهات نظرهم أما مع «السادات» فلقد اتسعت السنوات لتشمل حياة السادات كلها وأصبح المجال مفتوحاً لكى تتعدد الرؤى وتختلف المشارب والاتجاهات. وكانت الوثيقة السينمائية حتى مع إعادة تقديمها درامياً جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله لأن الناس شاهدت السادات وهو فى الكنيست الإسرائيلى عبر التليفزيون فى مختلف البرامج شاهدته وهو يخطب بأسلوبه المميز ولهذا لجأ المخرج «محمد خان» إلى أن يقف فى مرحلة متوسطة يقدم جزءاً تسجيلياً وجزءاً آخر يتمثل فيه التسجيلية والتوثيق . لو لم يحمل الفيلم السينمائى السياسى هذه المقومات لن يجد الجمهور لديه أى حافز لكى يشاهده وسوف يفضل عليه أن يمسك الريموت ليشاهد برنامجاً سياسياً أكثر صراحة وجاذبية.. وتستطيع أن تضع فيلما مثل «ظاظا» الذى لعب بطولته «هانى رمزى» فى هذا الاتجاه وهو بأسلوب التجريد أى أنه لا يحدد زمانا ولا مكانا بعينه رغم أن الكل يعرف أنه يقصد مصر.. «طباخ الرئيس» كان فيلما يغازل مبارك فهو المنقذ لمصر رغم أن البعض اعتبره وقتها فيلماً ثورياً وهو ما ينطبق أيضاً على فيلم «جواز بقرار جمهورى» لم ينجح أى من هذه الأفلام جماهيرياً بنفس قدر نجاح فيلمى «ناصر» و«السادات»!! إن النجاح الجماهيرى الذى حققه فيلما «ناصر» و«السادات» لا يعنى أننا أمام جمهور يقطع تذكرة لكى يشاهد فيلماً سياسياً.. جمهور الفيلمين يريد أن يشاهد «عبدالناصر» و«السادات» ومساحة زمنية أعرض من تلك التى أتاحتها له أجهزة الإعلام فلقد أثار الإعلام نهمه واستغلت السينما سواء بقصد أو عن غير قصد هذا النهم!! «السادات» و«عبدالناصر» فيلمان عن شخصيتين سياسيتين ولكنهما ليسا فيلمين سياسيين ولهذا فإن فتح الملفات السياسية المنتشرة عبر الفضائيات سوف تثير نهم المشاهدين إلى المزيد بشرط أن تسمح الرقابة بالدخول إلى الممنوع وأن يعرف السينمائيون كيف يقدمون هذا الممنوع لأنه إذا سمحت الرقابة فلن يتسامح الجمهور.. وبعد نجاح «الملك فاروق» المسلسل التليفزيونى انفتحت شهية المنتجين للتقليب فى صفحات الماضى القريب ولهذا كان يعد قبل الثورة مسلسلاً عن حياة الأمير «محمد على».. أتصور أن مشاعر الناس الآن تتوجه إلى انتقاد ما نعيشه وعشناه قبل بضعة أشهر ولكن لا تتصور أن كل الحقائق مسموح بها كما فى السينما العالمية.. فى الغرب هناك سقف بلا حدود ليس فقط للفيلم السياسى الروائى ولكن للفيلم التسجيلى مثلما قدم المخرج الأمريكى «مايكل مور» فيلميه «911 فهرنهايت» و«سيسكو».. أو الإيطالى «نانى موريتى» بفيلمه «الحوت».. لا شك أن هناك مساحات تعيشها السينما العربية لم تكن متاحة من قبل.. هى ليست مطلقة بالطبع ولا هى أيضاً تشبع نهم المبدع ولا الجمهور الذى يرنو دائماً للمزيد ولا تقارن بما هو متاح للسينما الغربية ولكن لا أحد ينكر أن ما كان مسكوتاً عنه فى الماضى ومن المستحيل الاقتراب منه أصبح الآن فى إطار الممكن مهما تعددت وجهات النظر حول ما هو الممكن فى الفيلم السياسى.. نعم الفضاء المفتوح سمح للفيلم السياسى بأن يحلق بعيداً لكن بأجنحة تدرك أنه حتى للسحاب حدود سوف نرى سينما سياسية تنتقد بضراوة ليس فقط زمن «مبارك» ولكن عائلة المخلوع سوف تصبح هدفاً مباحاً وسوف نشاهد قريباً فى دور العرض الفيلم التسجيلى «الطيب والشرس والسياسى» وبالطبع فإن العنوان يذكرنا بالفيلم الإيطالى «الطيب والشرس والقبيح» والمقصود بالسياسى فى الفيلم المصرى هو القبيح «حسنى مبارك» على اعتبار أن الطيب هو الشعب والشرس جهاز الشرطة. أتمنى أن نملك الحرية لكى ننتقد الحاكم وهو ليس فقط على قيد الحياة ولكن وهو على قيد السلطة!!