شعبان يوسف لم يقع الزعيم الليبي المطرود والمخلوع، أو المقتول في دائرة التندر حديثاً، بل إن ظاهرة التفكه عليه وعلي سلوكه وخطاباته وخيمته، ظاهرة قديمة جداً، ربما صاحبته منذ توليه الحكم، وربما منذ أن أتي شاباً فجوراً مرتبكاً ومتوتراً إلي القاهرة، وهو يقف في حضرة زعيم حقيقي، وله حضور مهيب، وهو الزعيم جمال عبدالناصر، ربما المقارنة وحدها بين الزعيم الأصل جمال عبدالناصر والزعيم اللعبة، أو النسخ، أو المقلد، كانت كافية لإنشاء حفنة من النكات الساخرة حوله. وصاحبته هذه الظاهرة حتي مثواه الحالي، ولا أحد يعرف هل هو الأخير، أو قبل الأخير، فكان في خطاباته الأخيرة، والتي كان يلقيها من فوق سور بنايته في العزيزية، ويحاول أن يصرخ ويهتف بكاريكاتورية عالية: (إلي الأمام.. إلي الأمام.. ثورة.. ثورة.. ثورة..) تقليد ممجوج لعبدالناصر الحقيقي، ومحاولة تكرار للكلمات في ظرف يختلف تماماً عن الظرف الذي قيلت فيه الكلمات، ناهينا عن أن المناخ كان متعاطفاً مع عبدالناصر ومتحالفاً ومؤيداً ومتحمساً له، غير المناخ الذي يصرخ فيه القذافي، المناخ الكاره والفاتر والذي يكاد ينبت خصومه وأعداءه من كل فج عميق. وبعيداً حتي عن محاولات التقليد العمياء لعبدالناصر، ظلت هذه الكاريكاتورية تتوالي بشكل مكثف وعنيف، وكأن مخرجاً سينمائياً يساهم بقدر كبير في إخراج وإحكام هذه المشاهد الفكاهية الصارخة، مثل ركوبه «التوك توك»، ومثل تكراره المثير لمفردات زنقة.. زنقة.. دار.. دار.. وهكذا. هذه الظاهرة دفعت عدداً من الأدباء العرب لتناوله في أعمال إبداعية عديدة، كان آخرهم الكاتب المصري الراحل إدريس علي، والذي رحل عن عالمنا في 29 نوفمبر ,2010 وقبل أن ينفجر المشهد، ويصل إلي ذروته، حتي يطيح بصانعه، وعندما صدرت رواية إدريس في مستهل العام الماضي عن دار وعد للنشر والتوزيع، اقتيد صاحب دار النشر، وهو الأديب الجميلي أحمد إلي مخفر الشرطة للتحقيق معه في واقعة «الرواية»، وتعرض الجميلي للتحقيق الدقيق، وأيضاً للتحقير من قبل جهاز مباحث أمن الدولة المنحل، وكانت الواقعتان مدهشتين وخارقتين، أي القبض علي الناشر، والتحقيق معه، وصدرت تصريحات من كافة الاتجاهات، من الناشر تارة، ومن الكاتب الصحفي حلمي النمنم تارة أخري، وكان آنذاك نائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، والمسئول عن تنظيم معرض الكتاب، وصرح النمنم بأن الرواية لم تصادر، والجميلي لم يقبض عليه، ولم يحقق معه، وأشيع جو من الريبة، وكان إدريس علي صاحب الرواية ذاتها بعيداً عن الأحداث، رغم أنه هو الذي كتب الرواية. الرواية هي: (الزعيم يحلق شعره)، وتعتبر من الناحية الفنية، هي أضعف ما كتب الراحل إدريس علي، ولم تكن أحداثها مثيرة أكثر مما كتبه إدريس من قبل في رواياته (دنقلة)، و(انفجار جمجمة)، و(تحت خط الفقر)، فهذه الروايات وغيرها مما كتبه إدريس، كانت روايات مكتوبة بمهارة فنية، وهدوء فنان، بينما أحداثها كانت مثيرة مقلقة، وتعرض إدريس ذاته للمساءلة حولها أكثر من مرة، خاصة روايته الأولي: (دنقلة)، والتي أشيع وقتها أنه يدعو إلي انفصال النوبة عن مصر، وهذا ما نفاه إدريس، ونفته حواراته بعد ذلك. الجو العام الذي صدرت فيه الرواية أقصد الجو السياسي الرسمي كان متعاطفاً تعاطفاً كبيراً مع السياسة الرسمية الليبية، وكانت الوفود الثقافية الرسمية تذهب وتجيء، ولقاءات علي مستويات عليا تعقد، وانفتحت مساحة كبيرة بين تعاون البلدين علي المستوي الرسمي، ولم يكن مؤتمر اتحاد الكتاب العرب الذي عقد في مدينة «سرت» بعيداً عن هذه السياسة، بل كان الجميع ينفذون سياسة الدولة العليا، أي كانت هناك أشكال من «السبوبات» المختلفة ترمح في الفضاءات المتعددة بين مصر وليبيا. لذلك كانت رواية إدريس علي «الزعيم يحلق شعره»، أغنية خارج السرب، ونوعاً من تعكير جو الوئام السياسي والاجتماعي الحاد الذي حدث، هذا الزواج الحرام، وغير الشرعي بين السلطتين، وبين كافة الأجهزة الرديئة، ومن بينها «اتحاد الكتاب»، الذي لم يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه إدريس آنذاك كان صدور الرواية بهذا العنوان الساخر والمضحك والمستخف، صدوراً مزعجاً، ولذلك جر خلفه ما جر من تداعيات أمنية وسياسية، وتصريحات وتحقيقات، ومصادرة للرواية وهكذا. الرواية هي سرد تقليدي لتجربة الكاتب ذاته في ليبيا، وفي مرحلة، كان الجو محتداً بين البلدين، وعادة ما كانت روايات إدريس تحكي عن حياته هو، فهوي استخدم حياته كلها كمادة لأدبه، وفي هذه الرواية، كانت مساحات الوضوح والبعد الذاتي أكثر سطوعاً، هذا السطوع الفني الذي يقترب من روح السيرة الذاتية، فهو هنا يستخدم اسمه الشخصي، ووصفه كأديب، ويتناول عدداً من الأسماء الحقيقية مثل الشاعر الراحل محسن الخياط، والأديب المغتال يوسف السباعي، ومجيد طوبيا، ويسرد وقائع ذهابه إلي ليبيا، بعد أن حرضته زوجته علي الذهاب، حتي يحضر لابنته وابنه ثلاجة وتليفزيوناً، أي باختصار ذهب ككل المصريين الذين ذهبوا لحل مآزقهم الاقتصادية والاجتماعية، ولحل ظروفهم المعيشية، ولكن إدريس ذهب بتوصيات من ساسة وأعضاء أحزاب لهم ثقل سياسي من حزبي التجمع والحزب الناصري، حيث إن علاقات كانت قائمة بين هذين الحزبين والجماهيرية الليبية تسمح بتمرير خدمات من نوع تشغيل بعض الأفراد هنا وهناك في ليبيا، وإدريس علي بصفته الأدبية كانت لديه طموحات أن يعمل عملاً كريماً، لكن تبخرت هذه الطموحات تماماً، للدرجة التي تحولت إلي إحباطات، ومحاولات للهرب من الجحيم الليبي هذا الجحيم الذي صنعه الزعيم وصنعته لجانه الثورية الفاشية ككل أجهزة ملحقة وناتجة عن سلطة مستبدة وغاشمة. تبدأ الرواية بمشهد غريب علينا لكنه مكرر وطبيعي في قصة العلاقة بين العمالة المصرية، والسلطة أو الإدارة الليبية، وهناك كتابات الكاتب الكبير فتحي امبابي تحدثت عن هذه العلاقة باستفاضة في روايتيه «المؤسسة»، و«مراعي القتل» وكيف حولت ليبيا السلطة الإدارة المصريين إلي ما يشبه العبيد السائمة، وانتهكت حقوقهم بدرجات غير قابلة للتصديق. كان المشهد الأول إذن في رواية إدريس فاجعا، الكفيل الليبي يضرب بضراوة أحد المصريين والذي كان يقوم بعملية نصب وتزوير كان هذا الرجل يقوم باستخراج شهادات مضروبة بوظائف ومهن غير حقيقية لإثباتها في جوازات السفر، وبناء علي هذه المهن يتم تسفير وفود عمالية إلي ليبيا، بأجور هزيلة لا تليق بعمال فما بالنا بصاحب مهنة مبيض محارة، أو سباك، يقول الكاتب: «الموقف فعلا كان مأساوياً معقدا يسيء إلينا أبلغ إساءة لأن الكفيل جلب مجموعة من المهنيين اختارهم المبيض وضحك عليه وهم في الواقع في حكم العمال العاديين الذين لا سعر لهم هذه الأيام فعندما امتحنهم المقاول المصري الذي سيستلم الصفقة اتضح أن المبيض مجرد عجان ومناول مونة والحداد المسلح، حداد كريتال أبواب وشبابيك والسباك عامل تسليك بالوعات في مصلحة المجاري، والنجار المسلح خشاب مهنة مناولة الأخشاب للنجار، وهكذا كان كل المهنيين لا يمتهنون هذه المهن وكان هناك تواطؤ بين الجميع فالمقاول الوسيط الذي امتحنهم كان يعرف ذلك، ومررهم مقابل أشياء كثيرة من بينها أن المبيض قام بتزويجه من أخته بمبلغ ضئيل من العمال، والليبيون أنفسهم كانوا يعرفون هذه العملية، فكانوا يعطونهم أجوراً زهيدة، هذا المشهد في الرواية وما بعده يكشف عن عمليات الإتجار البشعة التي كانت تتم في البشر وكيف كان يدفع العمال المصريون بضعة أموال من أجل الحصول علي عقد عمل، أو الذهاب «سلكاوي» دون عقد، وهناك يحلها الحلال، وهكذا. من المفترض أن تكون كل هذه الحقائق ليست محفزة لمصادرة الرواية، أو استنهاض همم جهاز مباحث أمن الدولة واعتبار هذه الحكايات وغيرها مما أتي في الرواية مجرد رصد لوقائع علاقات بشعة تمت في ظروف تاريخية سابقة، ولكن ورود اسم الزعيم وسلطاته ولجانه الثورية، ووصفه بالمجنون أكثر من مرة، والتندر عليه في الرواية، هذا ما أثار جهات الأمن المتعددة، ربما يكون مربط الفرس الفصل الذي أخذت الرواية عنوانه: «الزعيم يحلق شعره» عندما أمر الزعيم القذافي بمنع الحلاقة.. ودار حوار بين أحدي شخصيات الرواية وهو مختار الكاديكي الذي يخاطب إدريس قائلاً: «كنت أسمع خطاب الزعيم.. أسمعته؟ - كله. - وما رأيك؟ - استهله بكلام عبيط وفارغ وألغي به محلات الحلاقة وكان الزعيم قد قال: «ولو ليش حسان ياجماعة، كل واحد يحسن لروحه»، أي لماذا الحلاقة، فكل واحد يحلق لنفسه، وهذا مقتطع حقيقي من خطبة القذافي، آنذاك، ويعقب الكاديكي: «بعد خطابه جربت الحلاقة لنفسي وفشلت.. الذقن ماشي.. العانة ممكن.. تحت الإبط سهل للغاية، لكن رأسي كيف يعني.. هذا جنون.. منتهي الجنون». ويتساءل إدريس، وما تفسير هذا؟ فيرد عليه الكاديكي «ربما يري بأن الحلاق.. هو رجل وسواس وخواف مثلما خاف من الرجال وجعل كل حرسه من الفتيات». ويستطرد الكاتب: «بعد خطابه التاريخي الهام.. قامت هوجة لسحب تراخيص محلات الحلاقة وخصوصاً في الشوارع الرئيسية واستمرت في تواجدها في الأحياء الشعبية بشكل سري مع عدم منح الإقامة للحلاقين الجدد وترحيل من تنتهي إقاماتهم، وذكرني هذا بشخصين.. يقول إدريس الحاكم بأمر الله الذي منع أكل الملوخية ويعلق «حكام ظرفاء يضحكوننا بشطحاتهم» ويكمل: «وخلال شهر كانت شعور الشباب تتجاوز الكتف». الرواية تحكي عن الوضع السياسي والاجتماعي البائس الذي خلفته دولة وأوامر القذافي ومن جرائم الكتاب الأخضر، يفرد فصلاً تحت عنوان: «البيت لساكنه»، ويحكي فيه عن رجل كف عن أن يدفع إيجار المسكن الذي يقطنه لصاحب الدار، وكان ذلك مدهشاً لصاحب الدار، فعندما تأخر الساكن عن دفع الإيجار لصاحب المسكن، وكانت علاقتهما علي ما يرام، ذهب إليه المالك ودار بينهما هذا الحوار: - خير وينك. - باهي كما تري. - والمرة بخير؟ - خير والحمد لله. - والصغار؟ - في المدرسة وبصحة جيدة. - يعني ما في مشكلة؟ - كل مشاكلنا حلها الأخ العقيد. - باهي ووين الواحد؟ «يقصد إيجار الشهر الواحد». - واحد إشنو أي واحد إيه. - بتاع كل شهر. - شنو ياحاج.. أنت وين عايش؟ - شن في: «أي فيه إيه». - بالك ما سمعت عن الكتاب الأخضر. - وشن فيه؟ - إمش اقراه وتعالي. طبعاً ذهب المؤجر عما في الكتاب الأخضر، فعرف أن العقيد قرر أن يكون كل ليبي يستأجر مسكناً من ليبي آخر مالكاً لهذا البيت.. الرجل جن وحاول أن يقابل أطرافاً عديدة، حتي أحالوه أخيراً إلي أن يقابل الأخ العقيد نفسه: «ذهب باحثاً عن مكان الأخ العقيد فلم يعرف أين يكون، ولا كيف يصلون إليه، ولما اشتد به الهذيان.. ذهب إلي المستأجر وهو يخفي مدية حادة بين ملابسه ووقف علي بابه بمذلة وسأله: - أنت مسلم ولا كيف؟ - وحجيت أكثر من مرة. - وهل يأكل المسلم حق أخيه المسلم؟ - يكون كافراً. - اعطني حقي.. ياخي. - أنت مهبول هذا كلام الأخ العقيد. وهنا استدار المالك وأخرج المدية وطعنه بها طعنة نافذة أردته قتيلاً وجلس يبكي بجوار الجثة. لا أريد أن أستطرد، ولكن ما يقصده إدريس هو أن الأخ العقيد بتركيبته المعقدة، وكتبه العجيبة أحال الشعب الليبي إلي مجموعة من المتصارعين الذين ينازلون بعضهم البعض ويبدو أن هذا العنصر هو الذي لعب عليه في نهاياته فكانت اللجان الثورية كماوصفها إدريس في الرواية تتعامل مع الشعب العادي بصفته بشر من الدرجة الثانية يتعاملون معهم بدرجة في منتهي الوضاعة والاحتقار، والأخ العقيد كما جاء في الرواية، هو الذي أفسد العلاقة - أيضاً - بين الشعبين المصري والليبي، وأطلق كل خيول الكراهية ترمح بين الشعبين، خاصة عندما قامت حرب بين الجيشين أيام السادات، ولعب الرئيسان بأوتار شعبيهما، خاصة القذافي ولجانه الثورية التي كانت ظل القذافي في الحياة السياسية وكان القذافي ظل الله علي الأرض.