عبر ما يزيد على قرنين من الزمن، منذ الانتفاضة الثورية الشعبية الرائدة لاختيار محمد على واليا على مصر سنة 1805 وصولا إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 التى استهدفت إزاحة الرئيس السابق حسنى مبارك والقضاء على نظامه، شهدت مصر محطات ثورية رئيسية: عسكرية بتأييد شعبى فى العامين 1881 ، 1952 وشعبية بإجماع عفوى غير متوقع فى 1919 و1977 الثورات الست الأعظم تأثيرا، بمتوسط ثورة عاتية كل ثلث قرن تقريباً، تبرهن على الخطأ الفادح للصورة النمطية الشائعة عن خنوع الشعب المصرى واستعداده «الفطرى» للخضوع ومهادنة الطغاة، لكن التقدير غير المحدود لهذه الثورات المؤثرة ذات الشأن، ومع ضرورة الانتباه إلى تباين نتائجها وتداعياتها، لا ينفى ضرورة التحليل الموضوعى لما شابها من أخطاء وقصور، وحال دون الوصول إلى النتائج الحاسمة المرجوة فى كل ثورة على حدة. صعود وهبوط صعد محمد على إلى قمة السلطة باختيار شعبى لم تعهده الولايات الخاضعة لدولة الخلافة العثمانية، وكان الرهان ينصب على قدرته فى إقامة العدل ورفع المظالم وإزالة آثار البطش المملوكى العثمانلى الغاشم، وقد حقق الرجل العظيم إنجازات لا ينكرها من يتسم بالحد الأدنى من الإنصاف، فقد ولدت مصر الحديثة على يديه، وتطور النظام الاقتصادى زراعيا وصناعيا، وتأسس أول جيش مصرى عصرى، لكن الطموح الأكبر لمن اختاروه بثورتهم وإرادتهم لم يتحقق، فقد ظل العدل غائباً، وهيمن القهر والتسلط، ولم يستطع من ثاروا لتوليته أن يثوروا ضد مظالمه! ولقد كان أحمد عرابى ضابطا مصريا قحا، مخلصاً للوطن وعاشقا لترابه، ونجح الفلاح الطيب البسيط فى زراعة حلم التغيير والنهضة، والتبشير بحرية حقيقية تعود بها مصر إلى المصريين، وتتخلص من النفوذ الأجنبى والخديو التابع الباهت، لكن الحلم الوردى انتهى سريعا، وأسفر عن كابوس الاحتلال، وانكسر المصريون بانكسار ثورتهم لأكثر من ثلث قرن. كانت ثورة 9191 حدثا غير مسبوق وبعيدا عن كل توقع، ويمكن القول إن ما نعيشه الآن هو الامتداد المنطقى المضىء للأهم من شعاراتها وطموحاتها، كيف لمصر الخاضعة للحماية، والمحكومة بسلطة الاحتلال الشرسة، والمجردة من كل سلاح وقوة، أن تثور ضد الامبراطورية التى لا مثيل لجبروتها وغطرستها؟! فعلها المصريون بزعامة العبقرى سعد زغلول، وغرسوا فى الوجدان المصرى مبادئ لا تنسى أو تتبخر: الاستقلال، الدستور، الحكم النيابى، سلطة الشعب، الوحدة الوطنية التى لا تنفصم عراها، لكن الثورة لم تستمر فى توهجها طويلا، وسيطر الانقسام والتشرذم، وساد التناحر الداخلى بين أحزاب تنتمى جميعها إلى ثورة واحدة، لم يفلح الشعب فى اختيار حزب الأغلبية ليحكمه إلا بشكل استثنائى، ولم يكن البت بالدستور وتجميده وإلغائه بالحدث الفريد، كان النجاح الذى حققته الثورة جزئياً، والترهل هو المصير الذى أفضى بمجمل النظام إلى السقوط والاندثار. الأمر نفسه عرفته مصر بعد ثورة 32 يوليو 2591 فالضباط الأحرار مخلصون بلا شك، وراغبون فى النهوض بالوطن ومقاومة الآفات التى تنخر فى جسده، لكنهم وقعوا فى خطيئة إزاحة الشعب حتى يتسنى لهم تحقيق مطالبه الاجتماعية والاقتصادية، وتبنوا عمليا مقولة كارثية تذهب إلى أن الاحتياج قائم إلى المستبد العادل! ولأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان، فقد انتصر الحكم الاستبدادى الديكتاتورى بالضربة القاضية، وتوارى العدل بالمفهوم الشامل الذى يعنى الانتصار لحق الإنسان فى الاختلاف والتعبير والاجتهاد فى خدمة وطنه بلا تكفير أو تخوين، كان منطقياً أن تصل الثورة إلى محطتها المأسوية فى يونيه 7691 قبل أن يجهز الرئيس السادات على ما تبقى من شعاراتها وإنجازاتها، فيهيئ المناخ بسياسته لثورة عفوية لم يطل العمر بها لأكثر من ستين ساعة! فى يناير 7791 ثار المصريون من أسوان إلى الإسكندرية، فى ظل مرحلة لا تتوافر فيها معطيات ثورة التكنولوجيا والاتصال التى نعرفها الآن، تجاوز المصريون الثائرون مطالب الاحتجاج الاقتصادى إلى الجوهر الديمقراطى والوطنى، لكن غياب القيادة ودهاء السادات وسرعة استعادة النظام المترنح لأدواته المعطلة، أفضى إلى الانكسار والاغتراب، وازداد السادات تخبطا وعشوائية فكانت المبادرة والمعاهدة والفتنة الطائفية وحملة الاعتقالات الشاملة فى سبتمبر 1891 التى مهدت لحادث المنصة فى أكتوبر من العام نفسه. الثورة والفتنة ثورة يناير 1102 امتداد لما قبلها من ثورات، لكنها تمتلك خصوصية تنفرد بها، فهى ذات آليات ووسائل مختلفة غير معهودة، ونجاحها الأهم يتمثل فى إزالة الصدأ الذى راهن الكثيرون على إفساده لأجمل وأنقى ما فى الشخصية المصرية. بالحسابات النظرية، لم تكن المقارنة واردة أو ممكنة بين طرفى الصراع: جموع شعبية من الشباب والمثقفين الذين فاض بهم الكيل وتبدد مخزونهم من الصبر، وسلطة قوية مدعومة بالجهاز الأمنى الذى يوحى مظهره بالسيطرة الكاملة على كل صغيرة وكبيرة فى الحياة المصرية، كان الصراع محسوما عند الأغلبية الساحقة من المراقبين، ولم يكن نجاح الثورة التونسية كافيا لإقناعهم باحتمال أن يتكرر النجاح، لكن الذى غاب عن الجميع أن النظام كان مسكونا بالأمراض المزمنة، وضعيفا إلى درجة الاحتضار. العامل الحاسم فى نجاح الثورة هو الموقف الوطنى المسئول الذى اتخذه الجيش، فبعد انهيار الجهاز الأمنى وانسحابه المريب، أعلنت القوات المسلحة عن انحيازها غير المشروط للشعب صاحب الشرعية الحقيقية، ذلك أن النظام الذى يفتقد ثقة الملايين، ممن خرجوا إلى الشوارع والميادين لا شرعية له. لقد انتصر الشعب بدعم فعال من الجيش، فلا معنى إذن للتمييز بينهما، وقد استطاعت الثورة فى أسابيعها الأولى أن تبهر العالم كله بأدائها الحضارى الراقى، ثم أطلت الأمراض التى عرفتها الثورات المصرية السابقة: الانقسام والتشرذم لأوهى الأسباب، المراهقة الثورية غير المسئولة، تغليب المصالح الفردية والفئوية والحزبية على المصلحة العامة؛ أما المرض الأخطر فهو السعى المنظم لاختلاق تناقض وهمى مع الجيش. مثل هذا التناقض سيكون مبرراً ومفهوما لو أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن رغبته فى الاستحواذ على السلطة، فالذى يتفق عليه الجميع أن مصر لا تريد حكما عسكريا، وطموحها فى نظام مدنى ديمقراطى قوامه المؤسسات، ويعلن عن مبدأ تداول السلطة بالطرق السلمية عبر صناديق الانتخاب، ويمنح الحرية لكل القوى السياسية، ويحترم حقوق الإنسان، ويحارب الفساد والانحراف بلا هوادة. لا يتوانى المجلس العسكرى فى التأكيد على أنه يدير دفة الحكم بشكل مؤقت حتى تنتقل السلطة إلى من يختارهم الشعب، فى انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة، تمهد للإعلان عن دستور عصرى محترم مبرأ من العيوب والآفات. لماذا تبدو بعض القوى السياسية، صاحبة الصوت المرتفع حريصة على إجهاض الثورة باسم الثورة؟ ولماذا يختل سلم الأولويات فيغيب التمييز بين العدو والصديق؟، ولماذا تعلو نبرة المزايدة غير الرشيدة بلا منطق أو عقل؟!. سيقول بعض هؤلاء إن إيقاع التغيير بطىء، والإنجازات المستهدفة لم تتحقق كاملة، وعدة مطالب شعبية مشروعة تتلكأ ولا تجد من ينفذها، كل هذا صحيح على نحو ما، لكن مراعاة الظروف العاصفة للتحول تبدو ضرورية لنحسن قراءة المشهد، فالفساد المتراكم عبر عقود لا يمكن أن تزول آثاره فى أسابيع أو شهور، والمعيار الحاكم هو: هل تغيب الجدية أم أنها تسير بخطى لا تروق لمن يسكنهم الحماس الملتهب؟! المتأمل فى دروس الثورات المصرية يتعين عليه الوعى بخارطة الطريق نحو المستقبل، فهل نريد أن تتكرر تجربة الثورة التى جاءت بمحمد على لينفرد بالسلطة؟، أم نريد نوعا من الاحتلال والانكسار كالذى ترتب على هزيمة العرابيين؟، أم أننا نسير فى درب الانقسام والتشرذم الذى أفسد الكثير من أحلام ثورة 9191 أم نمهد التربة للحكم العسكرى السافر كما هو الحال بعد ثورة 2591؟! نجح السادات فى ضرب ثورة يناير بعد ساعات من التوهج الذى انطفأ لغياب القيادة وضبابية الأهداف، وكان المأمول أن تتجاوز ثورة يناير الثانية هذه الأمراض جميعا، لكن طائفة من المحسوبين عليها يدفعون بالوطن كله إلى السقوط فى هاوية الفوضى والانهيار، وعندئذ يتحول الحلم الجميل إلى كابوس يستحيل الخروج من دهاليزه المظلمة. لم يفت الأوان بعد، والعثرات والمطبات القائمة يسهل تجاوزها إذا خلصت النوايا، واتفق الجميع على أن المصلحة العليا للوطن هى الهدف والطموح، نساند الحكومة ونمنحها الفرصة مع النقد لأدائها، ونثمن جهود المجلس الأعلى دون توكيل غير مشروط، وإذا لم يكن بد من الاختلاف، فليكن بالمهذب المتحضر من الكلمات