كتب - سامح فوزى في لحظات التحول التي تمر بها المجتمعات، وتعصف ببنيتها الأساسية، وتطرح عليها تساؤلات قاسية حول الذات والآخر، والنظرة إلي المستقبل يعود الناس إلي مؤسساتهم التقليدية، التي تختزن خبرة السنين، وتمتلك ذاكرة التصدي إلي غوائل الأحداث. الأزهر الشريف إحدي هذه المؤسسات، إن لم يكن في مقدمتها. إبان الحملة الفرنسية )8971- 1081) وما بعدها من سنوات حددت مصير الأمة المصرية لعقود كان للأزهر دور رئيسي في التصدي للاستعمار الخارجي، واختيار الحكم التالي له المعبر عن الإرادة الشعبية. في هذه الأثناء لم تكن هناك مؤسسات حديثة في المجتمع المصري، ولم يجد الناس سوي العودة إلي مؤسسة الأزهر بحثا عن معني، ورمز في المقاومة، ورغبة في الحفاظ علي الذات، والدفع علي طريق بناء دولة حديثة، يبدو أن التاريخ يجدد صفحاته بأحداث متشابهة، اختلفت فيها الأزمان والشخوص، ولكن سعي المصريين إلي الاستقلال والحداثة لم ينقطع. يختلف بالطبع المشهد عام ,1798 أو 1801 مع رحيل الحملة الفرنسية عن المشهد في «ميدان التحرير» عام 2011 هناك مؤسسات في المجتمع المصري لحظة ثورة 25 يناير ,2011 ولكن جميعها تبدو عليها علامات الوهن، وتعتصرها ثقافة الاستبداد، وتبعثرها الفرقة. مجتمع ضاعت نفسه فخرج تائها يبحث عنها. الأحزاب القديمة بلا فعالية، والنقابات محاصرة، والتكوينات الأخري غير الحكومية محدودة التأثير. نظام سياسي تحول إلي نظام أمني، فلما انهار الجهاز الأمني انكشفت البلاد والعباد، ومع أفول نظام مبارك، وتداعي مؤسسات حكمه إما حرقا أو حلا أو تفسخا، لم يجد المصريون سوي مؤسسة الجيش يلجأون إليها لتخلصهم من الاستبداد السياسي، وهو الجيش الذي أسسه محمد علي مع بداية تأسيس الدولة المصرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر، ومؤسسة الأزهر التي كانت ولاتزال رغم ما لحق بها من وهن، حامية لتطلعات المصريين في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. -- خلال الشهور التي أعقبت ثورة 25 يناير، وهي التي قضت علي ما يمكن أن نطلق عليه الاستعمار الداخلي من قوي الاستبداد والفساد، توافد علي مشيخة الأزهر المصريون، علي اختلاف ألوانهم وتطلعاتهم وخلفياتهم السياسية والدينية. الإخوان المسلمون، والسلفيون، والأقباط طرقوا جميعا باب الأزهر بحثا عن مساحة التقاء بينهم. ويمثل نزوعهم التلقائي نحو هذه المؤسسة تجسيدا لمخزون حضاري بأهميتها في صناعة التحولات الكبري في المجتمع المصري، ليس هذا فحسب، بل تقديرا لشخص شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، الذي يبدو أن القدر ادخره لهذه اللحظات الفارقة التي تمر بها مصر. لم يمض علي تولي الدكتور أحمد الطيب منصبه سوي عشرة أشهر عندما وقعت ثورة 25 يناير. فقد صدر القرار الجمهوري «62» بتعيينه شيخاً للأزهر في 19 مارس 2010 خلال هذه الشهور واجه تحديات كثيرة، يطول شرحها وليس مكانها هذا المقال، لعل أهمها هو استعادة استقلالية هذه المؤسسة العريقة، التي فعلت بها الحكومات المستبدة المتعاقبة الكثير، وأنقصت من هيبتها، وجرأت عليها أنصاف المتعلمين في الحقل الديني، ولم تستفد من وسطية منهجها، وخبرة علمائها وفتحت أبواب البلاد أمام كل فكر إسلامي وافد يجافي الوسطية، والاعتدال المصري، بل يتعارض مع الفطرة الإنسانية السليمة. -- نعود إلي ما بعد ثورة 25 يناير، حيث وجد المصريون ضالتهم في الأزهر في رحاب شيخ مستنير يشغله بناء دولة مصرية عصرية. المجتمع يغلي، تيارات إسلامية تعود إلي الساحة بقوة، بعضها لديه خبرة العمل السياسي، وبعضها الآخر حديث العهد بالحياة العامة، ويحمل فقها غريبا علي المجتمع المصري، تفوح منه رائحة النفط. شعارات دينية مرفوعة، بعضها مقلق وصادم، واستفتاء علي تعديلات دستورية تسوده دعاية دينية، واستقطاب إسلامي - علماني يزداد اتساعا، وبعد أن تجمع الفرقاء في ميدان التحرير في مواجهة نظام مستبد تفرق شملهم، وهم يسعون لبناء مجتمع ديمقراطي، وازدادت حساسيتهم، وتراشقوا بالاتهامات. في هذه الأجواء دعا الشيخ أحمد الطيب عددا من المثقفين من اتجاهات سياسية وثقافية وانتماءات دينية مختلفة لحوار ممتد حول مستقبل مصر، علي نحو جعل القاعة التي تجري فيها النقاشات، التي لم تخل من سخونة أحيانا نموذجا مصغراً للتفاعل الطبيعي الذي تشهده الحالة التعددية في المجتمع المصري. حوارات ممتدة طيلة أربعة اجتماعات مطولة انتهت ببيان يؤسس ملامح الحكم القادم في مصر، علي النحو الذي توافق عليه المجتمعون من علماء الأزهر والمثقفين، يمثل في ذاته مبادئ حاكمة لأي دستور قادم، ومساحة مشتركة يتلاقي عندها الفرقاء للقضاء علي حالة الاستقطاب، وحلا حاسما للقضايا الإشكالية مثل العلاقة بين الدين والدولة. -- تناول البيان مبادئ كلية تتعلق بالعلاقة بين الإسلام والدولة، وهو العنوان الرئيسي للمساجلات بين التيارات والقوي السياسية، وقد استند إلي الفقه المصري التقليدي، الرحب والمتسامح، الذي يوقر الدين، ويجعل المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ولكن يقر بحقوق المواطنة للمصريين جميعا مع اختلاف الدين أو النوع ويعزز حقوق الإنسان، وبالأخص حقوق المرأة والطفل، ويحترم حرية التعبير والضمير الإنساني و حرية أداء الشعائر الدينية. هذه الصيغة التي يمكن أن نطلق عليها الإسلام الحضاري، هي التي نظمت العلاقة بين الدين والدولة، مما أدي إلي أن يحتفظ الإسلام بمكانه، بوصفه المصدر الرئيسي للتشريع، ويحفظ للمواطنين حقهم في التشريع لأنفسهم طبقا لاحتياجاتهم وظروفهم واجتهاداتهم البشرية، وإذا كان الإسلام، لم يعرف الدولة الدينية الكهنوتية، حسب نص البيان، فإنه ترك للناس أن تختار دولتهم، وخيار المصريين أن أفضل النظم السياسية في الوقت الحاضر هي النظام الديمقراطي الذي يقوم علي تداول السلطة، والمساءلة والشفافية، وحرية الرأي والتعبير، وقد أقر البيان بذلك، وأكثر من هذا ذهب إلي أهمية التنمية بمعناها الكلي الشامل، تنمية بشرية «التأكيد علي الصحة والتعليم والبحث العلمي»، تنمية سياسية «الإصرار علي الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة» تنمية ثقافية «الالتزام بحرية الفكر، والتنوع، واحترام الاختلاف دون تسفيه للآراء المختلفة»، تنمية اجتماعية «مكافحة الفقر، وإبراز أهمية المساواة والعدالة الاجتماعية». هناك كلمات «مفتاحية» تحمل دلالات عديدة في البيان لا يصح المرور العابر عليها. مثال علي ذلك «الأمة المصرية» الذي يجسد الرغبة ليس فقط في استلهام الفقه المصري، وإبداعات المثقفين المصريين قديما وحديثا، ولكن أيضا مواجهة الأفكار الداعية إلي إلغاء الخصوصيات، والذوبان في أمميات عريضة دون وعي أو إرادة، إنه بيان مصري بامتياز، منطلقاته مصرية، وروحه مصرية، ونظرته إلي المستقبل نابعة من إدراك عميق للتجربة الحضارية المصرية. هذا البيان - المنظومة - الذي شارك في صنعه الأزهري والعلماني، المسلم والمسيحي يمثل تأسيسا لعقد اجتماعي جديد في المجتمع، يستند إلي ثوابته التاريخية والفقهية والسياسية، منطقة التقاء وسط بين منطلقين متناقضين، أحدهما يدعو لدولة الكهنوت الإسلامي، والآخر يريد إقصاء الدين من الحياة العامة. لا هذا ولا ذلك يتفق مع طبيعة الشعب المصري، ومن يقول بعكس ذلك لايفهم طبيعة التدين المصري. المطلوب الآن تفعيل البيان بحيث يصل إلي المجتمع باختلاف أطيافه، وتدور حوله نقاشات معمقة، ويعرف المصريون أن العلاقة بين الدين والدولة ليست دائما سببا في الاستقطاب بين التيارات السياسية، لكنها مسألة أمكن حسمها في النموذج المصري. بالطبع سيظل هناك من يرفض البيان، نصا ومعني، شكلا ومضمونا، لكنهم سيظلون قطاعا هامشيا في مواجهة تيار رئيسي جامع يريد الاستيعاب وليس الإقصاء، الانسجام وليس الاستقطاب، المستقبل وليس الماضي.