كثيرا ما كان يسترعى انتباهى أثناء سنوات الدراسة المدرسية فى التاريخ الإسلامى كيف استطاع المسلمون أن ينقلوا آداب ومعارف الحضارات القديمة عن طريق حركة الترجمة، والتى انتقلت بها علوم الفلك والفلسفة والهندسة والرياضيات وغيرها من المعارف التى استخدمها المسلمون الأوائل وطوروها وحسنوها وزادوا عليها بما جعل الدول الإسلامية منارات حديثة فى العلوم. نقل المسلمون كل الفنون والآداب حتى الموسيقى لكنهم امتنعوا عمدا أو سهوا عن نقل فن الحكم فى الدولة الإغريقية!! متمثلاً فى نظام الحكم البرلمانى الديموقراطى والذى كان يشبه إلى حد ما مبدأ الشورى الإسلامى.. لقد امتنع جميع خلفاء الدول الإسلامية التى اطلعت على الثقافة اليونانية عن مجرد طرح النظام الديموقراطى، فلم يكن من المتوقع أن يقبل خليفة يملك خزائن الأرض أن تفرض رقابة على أموال هذه الشعوب من نفس الشعوب التى يحكمها.. رقابة تحصى على الخليفة أنفاسه وكيف أنفق مئات الآلاف من الدنانير على شعراء لإمتداحه رياء ونفاقا من أموال زكاة وضرائب عامة المسلمين وجزية أهل الذمة. بداية من الخلافة الإسلامية الرشيدة والتى جاء فيها كل خليفة بطريقة مختلفة عن سابقه، وانتهاء بآخر الدول الإسلامية - العثمانية - وكل الدول والدويلات والأنظمة الحاكمة المتحكمة فى أقوات وأرزاق الشعوب لم تفعّل يوما القاعدة القرآنية الرائعة الممثلة فى قوله تعالى «وأمرهم شورى بينهم»!.. واللافت أن كل هذه الإمارات والممالك أفرزت حكاماً وحكومات بنظم عجيبة فى مجملها وقد لا تقبلها التيارات الإسلامية الحداثية الجديدة سواء سلفية أو صوفية أو غيرها ممن يحرم الخروج على الحاكم. كل هذه الدول لم توصف يوما بأنها دول دينية. فلم تقم أصلا على أسس دينية فلا كان الحاكم يأتى بالشورى ولا كان يخضع لقواعد الحكم الإسلامى كما ينص علماء الدين، ولم يأت بأى من طرق اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة غير القابلة للتكرار من بعدهم، بل كانت الدول تقوم بانقلابات عسكرية (خروج على الحاكم) تكون آراء الشعوب فيها تحصيل حاصل، فالحكم هنا لمن يملك السيف ويملك العصبة التى تقبل أن تحمل هذا السيف من أجل تمكين الحاكم.. وغالبا ما توضع الأسلحة تحت إمرة الحكام طلبا لمصلحة وطمعا فى قرب وسلطة تأخذ من أقوات الشعب وخزانة مالهم.. وينتهى الأمر بأن يدرك من يحمل السيف أن سيفه هو سر حكم قائده فيخرج على حكمه ويتولى هو الأخذ من بيت المال مباشرة دون وسائط. على مدار تاريخنا الإسلامى إذاً وبعد مرور 1432 عاما على انتشار الدعوة الإسلامية لم يوجد قط حاكم يحكم بقواعد محددة معروفة سلفا ولها أصل فى الدين معروف قطعى الثبوت قطعى الدلالة، بداية من تولى أبى بكر الصديق وانتهاء بمحمد السادس آخر سلاطين الدولة العثمانية. ولم يخرج دستور واحد موحد ومتفق فى أى من هذه الدول يحكم سير العمل فيها، لذلك سهل قيامها وسهل انهيارها، فالحكم فيها قائم على نباهة وقوة الحاكم الفرد وقدرته على استخدام القوة حينا وإفراطه فيها فى أغلب الأحيان، وعلى الرغم من كثرة انهيار الدول المختلفة فلم تعرف الدول الإسلامية القديمة فكرة غلبة السلطة الدينية فيها، فلم يتول يوما عالم أو رجل دين منصباً سياسياً أو إدارياً وإنما اقتصر دور رجال الدين على التعليم وتولى القضاء (كسلطة شبه مستقلة) وهو أمر منطقى، ففى ظل غياب دستور ثابت أو قواعد مستقرة للحكم يصبح أكثر البشر ورعا وعلما هو من يصلح لتولى منصب الفصل بين الناس، وهو الأمر الذى اختلف مع المدنية الحديثة التى سنت القوانين وأطرتها وجعلت قواعدها راسخة غير قابلة للتأويل ويظل دور القاضى هو تبين الحقائق والأدلة لا التشريع وسن القوانين. إذا من أين جاءت المطالبات الحديثة من بعض الفصائل الإسلامية بالمطالبة بالخلافة الإسلامية!! أى الخلافات يقصدون.. وأين هى فى تاريخنا القديم وأى الأنظمة عنوا؟؟ أظن أن المسألة هى نقص وافر فى المعلومات وصدق شديد فى النوايا.. فكل المطالبين بالخلافة الإسلامية إنما يرغبون فى الوحدة بين الشعوب والدول المختلفة، وهو مطلب مشروع وبناء لكن لا يطرح فى إطار خلافة وإنما فى إطار وحده اقتصادية وسياسية ومحو للحواجز والعوائق بين الدول العربية خاصة والإسلامية عامة، وهو مطلب يزيد من قوة المنطقة ككل ولا يضعفها. إنما يضعف المنطقة أن تختزل دولة المؤسسات لصالح دولة الفرد وهو من أكبر معاول هدم الدول الإسلامية القديمة وأحد أسباب انهيارها. إن المخرج الحقيقى للفصل بين دولة الإسلام وإسلام الدولة يأتى بالتحاور الحقيقى وتفنيد الأطروحات بدقة فلا نقبل بمقولات لا تحمل سندا تاريخيا يعضدها، من ينهون الناس عن الخروج عن الحاكم الظالم عليهم أن يخوضوا حربا شريفة سلاحها الوحيد هو المعلومات والأسانيد. وأظن أن دراسة أحداث الفتنة الكبرى فى التاريخ الإسلامى كبداية وتحليل تفاصيلها هو المخرج الوحيد فى نظرى للخروج من هذه الأزمة الطاحنة التى تعصف بالبلاد لأننا بعد 1400 عام مازال يدور الصراع بين الفريقين فريق الحسين بن على وفريق يزيد بن معاوية، ما بين رافض للتوريث رافضا لبيعة لم يقبلها الشعب طواعية وعن رضا (الحسين بن على) وبين راغب فى حقن الدماء وإعلاء قيمة الأمن فوق قيمة الحرية. لا سبيل من الخروج من أزمة الحاضر إلا برؤية الماضى وتمحيصه وإعادة طرح سلبياته وإيجابياته مرة أخرى، حتى لا يتحول الماضى إلى صندوق أسود يخرج فقط بعد غرق السفينة. باحثة طبية- من شباب 25 يناير