أذهلتنى الطريقة التى تحدث بها الدكتور يحيى الجمل، فى برنامج تليفزيونى، عن داعية إمبابة حسين يعقوب. أثارت تعليقات يعقوب على نتائج الاستفتاء الأخير غضب الكثيرين فى الشارع المصرى، وظهرت فى الفضاء الإليكترونى رسائل لوم كثيرة موجهة ليس إلى الشيخ يعقوب وحده ولكن إلى تيار الإسلام السياسى عامة، وإلى السلفيين بشكل خاص. ووسط هذا الغضب تحدث الدكتور الجمل إلى منى الشاذلى، وتخيل أثناء الحوار أنها تفهم كلامه على نحو قد لا يرضى حسين يعقوب فاستوقفها وقال لها: الشيخ يعقوب على رأسنا وتوسل إلى الله ألا يحرمنا من بركات هذا الشيخ!! تخيلت للحظة أن مركز القوة فى مصر لم يعد الدولة ولكنه أصبح الميكروفون الذى قد يستولى عليه أى واحد من الناس ليحولهم ، كما قال الشيخ يعقوب لأهل إمبابة إلى «رجاله وعزوته» فيحسب له الجميع ألف حساب. محمد حسين يعقوب ووجدت نفسى أتساءل مستنكرا: على راس مين ياعم؟ على راسك أنت لوحدك. لكن المصيبة أن رأس الدكتور الجمل الآن هو رأسى ورأسك ورأس المصريين جميعا، لأنه ثانى أكبر مسئول فى حكومة الشعب، أول حكومة يصعد رئيسها من الشارع إلى سدة الحكم منذ مائتى سنة. وأكثر من ذلك فهو أشبه بمتحدث رسمى باسم هذه الحكومة، يتنقل معك كلما ضغطت على الريموت من قناة فضائية إلى الأخرى، حتى ظننت أنه صورة عصرية من «الشيخ أبوخطوة» الأسطورى الذى كان الناس يشاهدونه وهو يصلى معهم فى مسجد القرية ويقسم آخرون أنه صلى معهم، فى اليوم ذاته فى المسجد الحرام، أيام كان الحج إلى مكة على الجمال يحتاج سفر أربعين ليلة. وهذه الصورة القروية القديمة تناسب الأسلوب الذى يتبناه الدكتور الجمل اليوم فى التعبير عن الحكومة، وهو أسلوب الشيخ القروى المتواضع الذى يسترضى هذا وذاك لكى تتحرك الأمور. إلى أين؟ لا نعرف. وقد لخص أسلوبه السياسى عندما قال فى حديثه التليفزيونى، مستشهدا بحكمة الجدات «كلمة أيوة تريح». هذا الأسلوب لا يناسب المقام الأكاديمى الرفيع للدكتور الجمل، ولا يمكن أن يكون خلاصة عمل طويل فى خدمة الدولة من زمن عبدالناصر إلى اليوم، ونشاط قديم من زمن الحزب الوطنى (كما سماه فتحى رضوان ومن بعده يحيى الجمل) إلى ما بعد ثورة 25 يناير، إلا إذا كان الجمل يرى أن أنور السادات، الذى صعد إلى أعلى القمم ثم سقط برصاصات التوتر الذى أشعلته سياساته، هو النموذج الذى يحتذى. يحيى الجمل السياسات الرمزية كان عبدالناصر يلجأ كثيرا للسياسات الرمزية وكان السادات مدمنا للسياسات الرمزية scitilop cilobmys التى ظهرت فى مصر بعد خروجنا ظافرين من معركة 6591 وقادتنا هذه السياسات إلى هزيمة 7691 وهذا بالمناسبة هو تاريخ ظهور أهم كتاب فى هذا الموضوع وهو كتاب «الاستخدامات الرمزية للسياسة» الذى ألفه موراى ايديلمان حول الأساليب التى يلجأ لها السياسيون للتغطية على الأخطاء الفادحة والمشاكل الكبرى بحركات رمزية وعبارات إنشائية وبتسمية الأشياء بغير أسمائها. وقد دفعنا ثمن هذه السياسات بهزيمتنا فى 6791 ودفع السادات حياته ثمنا لهذه اللعبة الخطيرة. لقد أزعجنى ألا يكون الدكتور قويا ورادعا فى رده على كل من يريد تحويل الديمقراطية إلى لعبة طائفية، وأزعجنى أن يطلق أحكاما ومقولات عامة قد تعكس عجزا عن رؤية تعقيدات الواقع المتجدد، وأن يؤسس خطابه الموجه إلى الإسلاميين وإلى الشعب المصرى على عموميات يجب أن يتنزه عنها سياسى تصدى للقيادة فى زمن حرج. المطلق والنسبى أعلم ولابد أن نائب رئيس الوزراء يعلم أن بين السلفيين كثيرين لا يريدون تلويث ثوب الدعوات الدينية بأوحال السياسة، وفى كل حركة جماهيرية، دينية أو سياسية تيارات وأجيال ووجهات نظر متصارعة، وبالتالى فالإسلاميون ليسوا كتلة واحدة والسلفيون ليسوا نوعا واحدا، وإذا تعين علينا أن نقبل هذه التيارات على ساحة العمل العام، ويبدو أن هذا هو واقع الحال، فالقبول بهم لا يعنى أخذهم على علاتهم، ولا يعنى أن ننتقل من تعميم الإقصاء عليهم جميعا، إلى تعميم الرضا بهم جميعا، واسترضاء المحسن والمسىء منهم على السواء،لكن ادعاء هذا الفقيه المتمكن والسياسى القديم، ادعاءه البساطة القروية اللينة والمتسامحة وتمسكه الظاهر بها يحولان دون وصوله إلى خطاب عقلانى وصارم ومقنع يليق بمقامه. السادات هذا تفسيرى لخطابه الذى لم يقنعنى. وربما كان هناك تفسير آخر وهو أنه أستاذ أكاديمى ظلمه طموحه عندما قاده لمنصب سياسى له تبعات ثقيلة. وقد كان شديد البعد عن الصواب عندما بسط الأمور وأغرقها فى التعميم. وأنا أقول للدكتور الجمل ولغيره ممن يظنون أنهم ينطقون بلسان الحاضر الجديد وهم يواصلون عزف ألحان قديمة أن هناك حقائق جديدة لابد من استيعابها والانطلاق من هذا الفهم لحماية الثوابت الوطنية ولمواجهة الجميع بجنان ثابت وبرؤية متماسكة. أول هذه الحقائق أن محصلة ستين عاما من العمل السياسى فى مصر أسفرت عن تقوية الإسلام السياسى على حساب كل تيار آخر، بل وعلى حساب الوسطية التى هدف نظام يوليو إلى حمايتها بالسياسات التسلطية التى حولت الوسطية إلى انتهازية، خاصة بعد أن آلت الأمور بعد جمال عبدالناصر إلى رئيسين لا يملكان رؤيته ونزاهته. وبالتالى فسوف يتعين على الناخبين فى مصر، على اختلاف توجهاتهم أن يختاروا فى كل انتخابات تالية بين إسلام سياسى, وإسلام سياسى آخر وإسلام سياسى ثالث، خاصة بعد أن اقتحمت جحافل السلفيين والصوفية المشهد وبعد أن أصبحت جماعة الإخوان المسلمين محاطة بجماعات إسلامية منافسة من «وسط» و«جماعة إسلامية» و«جهاد» وما لا يعلمه إلا الله. عبد الناصر مستهلك الخدمة السياسية فى مصر أصبح مطالبا بالاختيار بين الأخضر والأخضر والأخضر مثل المواطن السوفيتى الذى كان يسأل قائده الحزبى عن اللون الذى يمكنه أن يختاره لملبسه وسيارته ومسكنه، حتى يكون مواطنا صالحا، ويرد القائد: أنت حر فى اختيارك، ما دمت تختار اللون الأحمر!!! ولهذا فالدكتور الجمل لا يوجه للناس رسالة صحيحة عندما يقول أن بروز الإسلام السياسى على الساحة من خلال نتائج الاستفتاء الأخير لا يعنى بالضرورة أن الاختيار الشعبى سوف يميل لصالح هذا التيار ،فى الانتخابات القادمة تركض نحونا. الناس يا دكتور تختار مما هو موجود . وما هو موجود الآن ليس سوى تشكيلة واسعة - وليس كلها صالحا وليس كلها طالحا - من الإسلام السياسى: من السلفى المحترم أسامة القوصى، إلى الإسلامى المحترم أبوالعلا ماضى، إلى «ريا وسكينة» قاتلى أنور السادات، إلى مفتى امبابة الذى ألقى خطبة تحريضية فى أحد بيوت الله ثم قال إنها نكتة، إلى الأجيال المتصارعة داخل جماعة الإخوان لتحديثها. وعلى هامش هذا التيار الضخم يقف رجال ونساء، مسلمون وأقباط وبهائيون وغير ذلك لا يعرفون إلى أين تمضى مصر، ولا يرضيهم أن ترد سيادتك على غيبيات الإسلام السياسى بغيبيات وطنية مثل: الشعب المصرى ذكى وفراز، كأن الشعب المصرى لا يتغير أبد الدهر. ابو العلا ماضى ذكاء الشعب المصرى الشعب المصرى ذكى وفراز، فماذا عنك أنت؟ ماذا ستفعل حكومتك للاستفادة من ذكاء الشعب المصرى لاختيار العناصر الصالحة من التيارات الإسلامية الموجودة وتأهيلها لعمل وطنى غير البلاهة التى قسمت فلسطين قبل أن تولد، وقسمت السودان والعراق ولبنان؟ وماذا ستفعل حكومتك لتظهر قوى ديمقراطية حقيقية غير أحزاب السكند هاند ومنظمات مجتمع مدنى فعالة غير المنظمات استعمال الخارج؟ لا أتوقع إجابة مرضية من رجل أعتبر أن مكانه الحقيقى هو مدرجات الجامعة، أو المنصب الوزارى فى زمن تكون فيه الوزارة سكرتارية للرئيس، أى فى وزارة تكنوقراط فى العهود السابقة، وليس فى زمن ثورى وثاب. لكن من يدرى قد يفاجئنا الدكتور بتصورات جديدة وحية ومقنعة. نحن فى زمن ثورى، وفى الزمن الثورى يكون كل شئ ممكنا. ولكن أيا كان الرد الذى قد يأتى أو لا يأتى من الدكتور الجمل الذى قال إن مفتى إمبابة على رأسه فأنا أقول له: ارفع رأسك يا سيدى، فأنت نائب رئيس وزرائنا. ولو وجدنا فى الغد، فى مكانك هذا، سلفيا أو إخوانيا أو...، وهذا مستبعد، ليبراليا أو اشتراكيا ديمقراطيا، أو...،وهذا ما نتمناه، وسطيا حقيقيا، فسوف نطلب منه هو أيضا أن يخاطب العالم بإقناع واثق وآمر.. لأنه، من الموقع الذى تحتله سيادتك الآن، سيكون عضوا بارزا فى الفريق الذى يقودنا إلى المستقبل.