تحمل استراتيجية الأمن القومى الأمريكية الجديدة الصادرة منذ أيام قليلة والموقعة فى نوفمبر 2025 ملامح اختلاف حقيقى مع التاريخ الاستراتيجى للولايات المتحدةالأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. الاستراتيجية لا تُعيد ترتيب الأولويات فحسب، بل تُعيد تعريف مفهوم القوة الأمريكية، وطبيعة القيادة، وحدود التدخل، وما تعتبره واشنطن «مصالح أساسية». وللمرة الأولى منذ سنوات، تبدو الولاياتالمتحدة افتراضيًا وكأنها تتراجع عن فكرة «إدارة النظام الدولى».. لتتبنى خطابًا أقرب إلى «تثبيت الدولة وإعادة هندسة الداخل» فى تحول غير مسبوق فى وثيقة رسمية بهذا الوزن وفى هذا التوقيت. العقل الأمريكى تتمثل القيمة الحقيقية للاستراتيجية فى أنها تكشف تحولًا معرفيًا داخل النخبة الأمريكية، وليس مجرد تحول سياسى. وهو ما يمكن تناوله من خلال ثلاث ركائز مركزية: 1 - إعادة تعريف الأمن باعتباره سيادة داخلية موسعة. لا تتعامل الاستراتيجية مع الأمن بوصفه حماية من تهديد خارجى، بل باعتباره إعادة بناء كاملة لمقومات الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهو ما يظهر فى تناولها للتصنيع، وتحصين الحدود، وإعادة صياغة قواعد الهجرة وإجراءاتها، وحال المؤسسة العسكرية، والمجال الثقافى. وبهذا المعنى، يتحول الأمن القومى من سياسة إلى مشروع وطنى لإعادة التأسيس. 2 - الانتقال من قيادة النظام الدولى إلى إدارة توازنات القوة بشكل مختلف.. تتخلى فيه واشنطن شكليًا عن الدور الذى تمسكت به طويلًا باعتبارها المنوط بها هندسة العالم، وهو أهم ما ميز حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة فى تسعينيات القرن الماضى. وتتبنى دورًا عمليًا يقوم على: احتواء الصين كأولوية وحيدة ذات بعد وجودى. وتقليص الانخراط المباشر فى النزاعات الكبرى. وتحميل الحلفاء تكلفة أمنهم. هذا ليس إعادة للشكل، بل إعادة تعريف لدور القوة الأمريكية نفسها. 3 - استبدال الخطاب المعتاد للقيم والمبادئ الإنسانية.. بخطاب تحقيق المصالح الأمريكية. الاستراتيجية.. خالية تقريبًا من المفاهيم التى تم ترويجها واعتمادها كأداة للنفوذ الأمريكى لثلاثين عامًًا مضت، على غرار: الديمقراطية، والشفافية، وحقوق الإنسان، والإصلاح، والحوكمة. وهى خطوة، تُشير إلى انسحاب.. يبدو أخلاقيًا وواعيًا من المجال الدولى، واستبداله بمنطق المعاملات المالية الصرف. أولويات الاستراتيجية.. والتى تمثل رؤية مركزة.. بلا تفصيلات لا معنى لها. الصين هى نقطة الارتكاز الوحيدة البارزة فى الحسابات الأمريكية. وقد تم رسم الصين بوصفها الخصم الذى يُصيغ توجيه شكل القوة الأمريكية فى العقد القادم. وتم تصديرها كتهديد فى تشابك وتعارض متعدد للتحالفات الدولية.. تكنولوجيًا وصناعيًا وبحريًا وحضاريًا. هذا التركيز يجعل الاستراتيجية فى جوهرها عقيدة احتواء ممتدة، وليست مجرد منافسة. دول الاتحاد الأوروبى هى الشريك الذى يحتاج إلى إعادة تأهيل، وليست كتلة قوية. وتعتبر الاستراتيجية أن أوروبا أصبحت تمثل ضغطًا وعبئًا أمنيًا، وتطالبها بتحمل تكلفة الدفاع عن نفسها. الواضح أن واشنطن لم تعد ترى دول الاتحاد الأوروبى مسرحًا للصراع العالمى، بل خلفية سياسية يجب ألا تسقط أو تنهار، وألا تعيق التركيز والتفرغ للصين. دول إقليم الشرق الأوسط.. منطقة يجب ألا تشتعل، ولا يجب أن تستنزف بالقدر الذى يمنعها من أن تصبح مصدر تهديد. وتدور معالجة واشنطن لهذا الطرح.. حول ثلاثة محددات: أمن الطاقة والممرات البحرية. وتحجيم إيران كقوى مقلقة. واستقرار إسرائيل باعتبارها نقطة الارتكاز الوحيدة للنفوذ الأمريكى. ويتميز حضور مصر فى الوثيقة بأنه وظيفى واستراتيجى.. باعتبارها دولة مركزية فى خطوط التجارة والأمن المائى والبحر الأحمر. وليس باعتبارها بؤرة مشروع سياسى للهيمنة الأمريكية كما فى الماضى. إفريقيا هى المورد الاستراتيجى فى سباق المعادن والتكنولوجيا. ويظهر الإقليم بوصفه ساحة تنافس مع الصين، وليس مساحة شراكة. تتعامل الاستراتيجية مع القارة بمنطق الاستحواذ على الموارد، وهو أهم تحول براجماتى فى المقاربة الأمريكية لإفريقيا منذ عقود طويلة. الهجرة هى ملف أمن قومى فى شكل أكثر صرامة. وللمرة الأولى تصبح الهجرة أحد أهم منطلقات.. تعريف الأمن القومى الأمريكى. ويُعاد رسم الحدود ليس على المستوى الجغرافى، بل كآلية لحماية المجتمع وثقافته وسوق العمل وهويته. وهو الجزء الأكثر تعبيرًا فى الاستراتيجية عن انحراف، لا لبس فيه عن تقاليد السياسة الأمريكية الحديثة. غياب بعض الملفات.. تتضمن الاستراتيجية غياب بعض الملفات المهمة، على غرار: 1 - غياب الحديث عن الربيع العربى والديمقراطية التى كانت أحد أهم أهداف السياسة الأمريكية. وهو ما يقودنا إلى إدراك أن واشنطن.. لم تعد ترى الشرق الأوسط ساحة تشكيل سياسى، بل ساحة ضبط أمنى. 2 - غياب الإشارة إلى إعادة الإعمار. وهو دلالة على تخلى الولاياتالمتحدةالأمريكية عن مشاريع الهندسة الاجتماعية واسعة النطاق. 3 - غياب الخطط التفصيلية للتحول العالمى. وما يُشير إلى أن واشنطن لم تعد تسعى لقيادة العالم نحو نموذج جديد، بل لتأمين موقعها ومكانتها فى عالم يتشكل ربما دونها. انعكاسات على الدول العربية.. مصر فى الاستراتيجية الأمريكية ذات ثقل جيوسياسى مع مقاربة غير توسعية.. فلا تطرح مشروعًا أمريكيًا تجاه مصر، لكنها تُشير إليها باعتبارها عنصرًا محددًا فى أمن البحر الأحمر وشرق إفريقيا. وهذا يعكس تحولًا فى النظر إلى مصر من موقع «الشريك السياسى» إلى موقع «المرتكز الجغرافى والأمنى». دول الخليج العربى من شريك فى سوق الطاقة العالمى إلى شريك تمويل. وتحدد الاستراتيجية العلاقة بمحددات واقعية صارمة، هى: الاستقرار الإقليمى والممرات البحرية والتمويل.. دون أى طموح لبناء هندسة سياسية جديدة. وفيما يخص التحديات العربية، تقر الاستراتيجية بإدارة وتسكين الأزمات، ولا تقدم حلولًا لها. حضور سوريا واليمن والسودان والصومال محدود فيها.. مما يعكس رؤية واشنطن لهذه الملفات ضمن تكاليف يجب تحجيمها، وليس ضمن مشروعات استراتيجية. سيناريوهات مستقبلية.. أولاً «سيناريو الاستقطاب الصلب» من خلال التطبيق الصارم للاستراتيجية بما يؤدى إلى إعادة عسكرة آسيا، وتراجع واشنطن من الشرق الأوسط، وعودة منطق الاحتواء. ثانيًا «سيناريو الاهتزاز الداخلى» لكون أزمات الاقتصاد والهجرة.. تؤدى إلى تعطيل تنفيذ الوثيقة، فتعود واشنطن إلى نمط انكفائى مغلق. ثالثًا «سيناريو التحالفات الوظيفية» بحيث تتفرغ واشنطن للصين، بينما تترك أدوارًا محددة لحلفائها فى الشرق الأوسط وإفريقيا. نقطة ومن أول السطر.. استراتيجية الأمن القومى الأمريكى.. ليست مجرد بيان نوايا، بل هى إعلان عن نهاية مرحلة سياسية وبداية مرحلة أخرى معلنة. الولاياتالمتحدةالأمريكية.. تتحول من قوة تُعيد تشكيل العالم إلى قوة تُعيد تشكيلها الداخلى. وفى هذا التحول تتغير قواعد اللعبة كلها فى آسيا وفى أوروبا وفى إقليم الشرق الأوسط. وما ينبغى للدول العربية أن تُدركه هو أن واشنطن وحدها لم تعد المرجعية الوحيدة للتوازنات الإقليمية كما كانت من قبل. وأن المرحلة المقبلة ستشهد تغيرًا فى اللاعبين وتعددهم، كما ستشهد تراجعًا فى الولاءات والضمانات، مع بقاء إسرائيل الركيزة الوحيدة الثابتة فى الحسابات الأمريكية. Untitled-1_copy