فى الذكرى الخامسة لرحيل الدكتور نبيل فاروق، لا نجد أنفسنا أمام مجرد استرجاع سيرة كاتب، بل أمام محاولة لفهم مشروع ثقافى متكامل آمن بأنه «يمكننا أن نقول كل ما نريد للشباب بشكل جذاب لا ينفرون منه أو يعتبرونه مجرد مواعظ متعالية من جيل سابق». . لقد كان فاروق، صاحب رائعتى «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل»، زائر المستقبل الذى أتم مهمته، لكنه ترك وراءه سؤالًا ضخمًا يطرق أبوابنا اليوم.. من يكتب للأجيال الجديدة ويقودها إلى عالم القراءة الآن؟ البطل الذى يصنع المستحيل بأقل الإمكانيات لم يكن نبيل فاروق مجرد صانع لمغامرات بوليسية أو قصص خيال علمى للتسلية؛ لقد كان يمتلك بوصلة لتوجيه جيل عانى لوقت طويل من غياب من يسمع صوته. كان الأبطال لديه أدوات لترسيخ المفاهيم، أبرزها فى شخصية أدهم صبرى. فى أكثر من 300 عدد هو مجموع سلسلتيه الأشهر، أكد صاحب «رجل المستحيل» أن بإمكان الجيل التائه أن يحول المستحيل إلى ممكن. جاءت مشاركة أدهم صبرى فى مغامراته ضد أجهزة المخابرات العالمية لترسخ مفهومًا جوهريًا لطالما أكد عليه فاروق؛ أن تنمية مهاراتك الذاتية هى سلاحك الأقوى. يمكنك التغلب على خصم يتفوق عليك تكنولوجيًا وماديًا بذكائك الفردى وقدراتك المكتسبة. لهذا كان أدهم صبرى بطلا حتى بأقل الإمكانيات فى مواجهة أبطال الروايات الغربية، فاستحق عن جدارة أن يكون رجل المستحيل. هذه الأفكار التى صاغها نبيل فاروق بذكاء، سواء فى حبكة القصص أو تفاصيل مغامرات أبطاله، جعلت أعماله صالحة ومدهشة عبر الأجيال، فى تتابع «جيل يسلم جيل»، من «رجل المستحيل» إلى «ملف المستقبل» ثم «كوكتيل 2000». كان فاروق يجلس فى السابعة صباحًا كل يوم ليكتب، لكنه لم يكن يريد لقارئه أن يتوقف عنده. كان عالمه السحرى بمثابة «بوابة لعالم القراءة الكبير»، يقودك بكل سهولة لقراءة يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ. كان هدفه المعلن: «أن أدفع من لا يقرأ للاستمرار، وأعمل على جذب شريحة أخرى لعالم القراءة». قراء لا دراويش.. و«سر المهنة» حافظ فاروق على مساحة تواصل وقرب شديدة مع قرائه، بل ووصل به الأمر إلى احتضان الموهوبين فى الكتابة والقصص القصيرة فى سلسلة «مختارات نبيل»، التى سعى من خلالها لتقديم قراء وكتّاب جدد لا أتباع له يرددون ما يقول فقط. لذلك لم يكن غريبًا أن يختلف قراؤه معه ويشتبكون مع أفكاره، وهو ما كان يهدف إليه ويردده دائمًا «أن أرى عقولا قادرة على التفكير والاختلاف والمناقشة بوعى ومعرفة». وفى سلسلة «ملف الأسرار» المصورة، قدم فاروق ما يمكن أن نطلق عليه «سر المهنة»؛ إذ كشف عن القصص الواقعية حول العالم التى كانت تعد المادة الخام لرواياته، من راسبوتين إلى جواسيس المخابرات العالمية. بل كشف عن سر ولادة أدهم صبرى نفسه، المستوحاة من لقاءاته برجال المخابرات العامة المصرية فى السبعينيات أثناء دراسته للطب. وحتى عندما تنبأ بوجود فيروس قاتل فى قصته «هشيم»، لم يدع البطولة، بل كشف سرًا جديدًا من أسرار المهنة، قائلًا «هذا طبيعى لمن يُفكر بمبادئ التفكير العلمى.. وبمد الخط على استقامته يُشير ذلك إلى احتمالية كبيرة لوجود فيروس مختلف قد يواجهه البشر»، لقد كان التفكير العلمى هو طريقه ومبدأه. الخيال العلمى.. الفرصة المهدرة! فى زمن نبيل فاروق، كانت سلاسل الخيال العلمى «ملف المستقبل» والروايات البوليسية المثيرة «رجل المستحيل» هى الجسر الذى يعبر عليه المراهقون والشباب إلى عالم القراءة الجادة. لكن، أين اختفت كتابات الخيال العلمى الموجهة للشباب اليوم؟ ومن يكتب ل«جيل زد»؟ هذا الجيل الغارق فى المحتوى المرئى، والألعاب الإلكترونية، وعوالم الميتافيرس، يحتاج إلى كاتب يمتلك نفس بوصلة نبيل فاروق، لكن بأدوات مختلفة تواكب العصر. كاتب يجمع بين التسلية والجذب والرسالة بعيدًا عن الوعظ المباشر. غياب هذه النوعية من الكتابات يترك فراغًا ثقافيًا هائلًا وكل فراغ تتركه مؤسساتنا الثقافية فالعالم كفيل بملئه وفقا لمصالحه وأهدافه. لذلك من الضرورى أن تتبنى وزارة الثقافة مشروعًا حقيقيًا يعمل على تثقيف الأجيال الجديدة والتواصل معها بلغة العصر، وإعادة إحياء سلاسل النشر التى تخاطب عقولهم مباشرة. نحتاج لمشروع قومى لإنتاج «أبطال» جدد فى الرواية العربية يشبهون أدهم صبرى فى الروح والكفاءة، لكنهم يواجهون تحديات الألفية الثالثة؛ الذكاء الاصطناعى، الأمن السيبرانى، ومستقبل الطاقة. على خطى نبيل فاروق لحسن الحظ، لا يزال الأمل موجودًا، رغم تأخير مؤسساتنا الثقافية كثيرًا.. لكن من المهم أن نبدأ بشكل عاجل فى مشروع ثقافى كبير ومنفتح ومتطور يهتم برؤية الأجيال الجديدة. وإيمانًا بأهمية وضرورة هذا المشروع، تطلق «مجلة روزاليوسف» مبادرة، وتفتح الباب أمام كتّاب الخيال العلمى، وأقلام المستقبل، لاكتشاف جيل جديد من الكتّاب القادرين على فتح مساحة مختلفة والتواصل مع جيل «زد» بأسلوب يجمع بين التشويق والعمق. خطوة على طريق إعادة إحياء المشروع الذى بدأه نبيل فاروق.. مشروع تحويل القارئ إلى مفكر وناقد ومستشرف للمستقبل. رحل نبيل فاروق جسدًا قبل خمس سنوات، لكن وصيته معلقة فى أعناقنا جميعًا. رحل نبيل فاروق، وبقى السؤال الذى يحتاج إلى إجابة عاجلة: متى نرى الوارث الحقيقى لمشروعه وأفكاره؟ 1664