من بين النساء جميعًا، لم أحب سوى سيدة واحدة لا تُرَى، لا تَسكن بيتًا ولا ترتدى فستانًا، لكنها تملك قلبًا من حبر، وصوتًا من ورق، وعينين تريان ما لا يراه أحد. اسمها «روزاليوسف»، السيدة التى أحبتنى حتى صرتُ امتدادَها، والتى احتلتنى وسكنت تحت جلدى وتجرى فى دمى. دخلت مِحرابَها شابًا يافعًا، أحمل حقيبة من أحلام ومخاوف، وخرجت منها ولم تخرج منّى- بعد خمسة وعشرين عامًا- ممتلئًا بندوب المعارك، وضياء التجربة، وعبَق المهنة التى لا تشبه سواها. لم تكن «روزاليوسف» مجرد مؤسّسة صحفية؛ بل امرأة كاملة الملامح، تعرف كيف تُغريك بالكلمة، وتختبرك بالموقف، وتُحبك بشروطها الصارمة؛ أن تكون حرًّا، نزيهًا، شجاعًا، وأن تدفع من روحك ثمَن الكلمة التى تكتبها.. هكذا أدخلتنى إلى محرابها عفيفًا طهورًا، وهكذا جعلتنى واحدًا من أبنائها المشاغبين، أولئك الذين لا ينامون على ضفة واحدة، ولا يكتفون بما يُقال؛ بل يغامرون ليعرفوا، ويكتبون ليغيِّروا. كانت «روزا» بالنسبة لى أكاديمية للتمرُّد الراقى. فى صالات تحريرها تشبَّعت بمَدرسة لا تعرف التملقَ، ولا تقبل أنصافَ المواقف، ولا تُساوم على الحقيقة. تعلمت أن الصحافة ليست نقلًا للوقائع؛ بل خوض فى جوهرها، ليست وصفًا للأحداث؛ بل تفسير لمغزاها. على مكاتبها عرفت معنى أن ينام الصحفى فى انتظار عدد الغد كما ينام الجندى فى انتظار المعركة.
طوال ربع قرن من الزمان، كانت السيدة تأخذنى من يدى، وتلقى بى فى قلب النيران؛ لأعود أكثر صلابة وأكثر امتنانًا لها. خضنا معًا معارك الفكر والسياسة والثقافة، من ملفات ظلت دهورًا مسكوتًا عنها، إلى قضايا شائكة كنا أول مَن أضاءَها، كأننا نكسر ظلمة التاريخ بمُشكاة من الحبر. خضت فى «روزاليوسف» قضايا الأقباط المُهمشة حين كان الحديث عنهم محفوفًا بالألغام، وفتحت مع زملائى صفحات المجتمع المدنى حين كان الحديث عن الدولة والمجتمع مغامرة فكرية. استخدمنا سيف الكلمة لنفصل بين الدين والدولة، بين العمامة وكرسى العرش، بين المُقدس والمُدنس. واجهنا السلطة حين تستبد، واصطففنا معها حين تقاوم المؤامرة، وظللنا دائمًا فى صف الوطن- لا النظام ولا المعارضة- بل صف الضمير الوطنى الذى لا يساوم على الحقيقة.
وحين هبّت رياح ما سُمِّى بثورة يناير 2011؛ لم أكن يومًا من المصفقين ولا من الحالمين. رأيت فيها- منذ لحظتها الأولى- خطرًا مُحدقًا بالدولة المصرية؛ لا محاولة لإصلاحها كما روّج البعض. كنت أرى أن ما جرى لم يكن ثورة للحرية؛ بل فوضى تلبَّست ثوبَها؛ وأن مَن ركبوا الموجة أرادوا إسقاط الدولة لا إصلاحها. كتبت آنذاك ما يمليه عليّ ضميرى المهنى والوطنى؛ أن الوطن أكبر من الغضب، وأن الهدم ليس طريقًا للبناء. وكانت «روزاليوسف» المنبر الذى حمل هذا الصوت المخالف للسائد، فكتبنا ضد التيار، ووقفنا فى وجه العاصفة؛ لأننا أدركنا أن ما يُراد لمصر كان أخطر من أن يُقال.
ثم جاءت المعركة الكبرى، حين خرجت من باطن الظلام جماعةٌ ظنت أنها امتلكت مفاتيح السماء والأرض. جماعة أرادت أن تُعيد التاريخ إلى الوراء، وأن تجعل من الحرية ذَنبًا، ومن الكلمة تهمة. حينها كانت «روزاليوسف» فى مرمى النيران؛ لأنهم لم ينسوا معركتها التاريخية ضد فكرهم المغلق، وضد منطقهم الوصى على العقول. حاصرونا سياسيًا، خنقونا اقتصاديًا، وحاولوا تعطيل صدور المجلة، أرادوا تدجين السيدة التى علّمت المصريين كيف يكتبون بلا إذن. لكنها لم تخضع. كنا نكتب تحت الحصار، ونعمل تحت التهديد، ونطبع بأظافر الإرادة. كانت المجلة تُصدر عددها بعَرق المحررين وبإصرار الروح؛ لا بوفرة الإمكانات. ولمّا جاء يوم أرادوا فيه ذبحها على مذبح «الحرية والعدالة»؛ قاومنا حتى آخر حرف. كنا نعلم أن سقوط «روزاليوسف» يعنى سقوط الحبر كالدم فى مصر، وأن موتها يعنى انتصار الظلام. ومن رحم تلك الأيام خرجنا شهودًا على معركة العقل والهوية، التى انتهت بثورة الثلاثين من يونيو؛ حيث استعادت مصر وجهَها، واستعادت المجلة دورَها بوصفها صوت الدولة الوطنية الحديثة.
تجربتى مع «روزاليوسف» ليست مجرد سيرة مهنية؛ بل تاريخ عاطفى. لقد أحبّتنى هذه السيدة على طريقتها.. أرهقتنى، واختبرتنى، وجرحتنى؛ لكنها لم تخذلنى يومًا. علمتنى أن الورق يمكن أن يصير وطنًا. علّمتنى أن الصحفى لا يُقاس بعدد مقالاته؛ بل بعدد الجراح التى تركتها معاركه. فكل انفراد خضته، وكل مواجهة دفعتُ ثمنَها، وكل فكرة قاومت لأجلها، كانت وشمًا آخر على جسد التجربة.
إننى اليوم، بعد خمسة وعشرين عامًا من العشق والكتابة، ما زلتُ أتنفسها كما أتنفس الهواء. حين أفتح عددها الأسبوعى، أشم رائحة الماضى والمستقبل فى آنٍ واحد. وحين أكتب عنها، أشعر أننى أكتب عن نفسى. لقد سكنتنى هذه السيدة حتى لم أعد أفرِّق بين قلمها وقلمى وقلبها وقلبى.
تلك المرأة التى جعلتنى أرى الوطن بعين ناقدة محبة، وأعيش بين الحقيقة والمجاز كمَن يمشى على خيط من ضوء. هى التى منحتنى المَجد حين كتبت، والمغفرة حين أخطأت، والبقاء حين كدتُ أضيع. واليوم، وأنا أنظر إلى ربع قرن من الزمن، أبتسم للقدَر الذى قادنى إليها، وأقول كما يقول العاشق لمَن غيّر مصيره: شكرًا للسيدة التى أحبّتنى.
أقولها اليوم إلى كل مَن يخطو الآن أولى خطواته فى ممرات «روزا»، اعلموا أن هذه السيدة لا تُحب إلاّ مَن يُخلص لها. إنها لا تمنح مَجدها مجانًا، ولا تُغرى بالشهرة العابرة، لكنها تمنح الخلود لمَن يصدقها. فى رحابها لا يُقاس الصحفى بما يملك من نفوذ؛ بل بما يملك من موقف، ولا بما يكتب من كلمات؛ بل بما يدافع عنه من قيم. هى مَدرسة لا تُخرِّج كتّابًا فحسب؛ بل تصنع رجالاً ونساءً من نور ونار وشجاعة. احذروا أن تتصالحوا مع الزيف، أو أن تساوموا على الحقيقة، فالسيدة التى أحبّتنى لا تحتمل أنصاف الولاء ولا أنصاف الشجاعة ولا أنصاف الموهبة. كونوا أوفياء لها كما كانت هى للوطن، واذكروا دائمًا أن الصحافة ليست حرفة؛ بل أمانة ومسئولية وضمير. وإن سألكم أحد يومًا: ما الذى تعلّمتموه فى «روزاليوسف»؟ فقولوها ببساطة: تعلّمنا أن نكتب لنُبقِى الوطنَ حيًّا وتبقَى «روزاليوسف» شابّة حتى لو بلغت ألف عام.