تعيش الأحزاب التاريخية مثل الوفد والتجمع والناصرى، حالة من الجدل حول موقعها الحالى فى المشهد السياسى، وذلك بعد تراجع حضورها سواء على مستوى المنافسة الانتخابية، أو على مستوى التفاعل مع الشارع وتكوين قواعد شعبية فاعلة، وهذا ما تظهره المؤشرات الأولية لنسب تمثيلهم بالقائمة الوطنية لانتخابات مجلس النواب. أظهرت انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة ضعف قدرة تلك الأحزاب على المنافسة وتحقيق مكاسب انتخابية، حيث غابت عن المشهد بشكل مؤثر، الأمر الذى عزز لدى قطاعات واسعة من المواطنين انطباعا بأنها لم تعد قادرة على لعب الدور السياسى الذى يواكب التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التى يفرضها السياق الراهن. وأصبح البعض يرى أنها أصبحت مجرد «أسماء تاريخية» تفتقر إلى قواعد شعبية حقيقية، وأن خطابها السياسى لم يعد قادرًا على جذب الشباب أو التفاعل مع هموم المواطن اليومية. فيما يرى خبراء العلوم السياسية أن مسئولية تلك الأحزاب لا تزال قائمة، وأنها مطالبة بتجديد خطابها والتكيف مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعليها استعادة ثقة الشارع من خلال استثمار وسائل التواصل الاجتماعى، وتوسيع قاعدتها الشعبية فى المحافظات، والانخراط بشكل أكبر فى قضايا المواطنين. من جانبه أكد الدكتور حسن سلامة، أستاذ العلوم السياسية، رفضه القاطع لفكرة تصنيف الأحزاب السياسية وفقا لتاريخ نشأتها بين قديمة وحديثة. وأوضح أن معيار الزمن ليس هو الحاكم الأساسى فى قدرة أى حزب على التواصل مع الشارع، أو تكوين قواعد شعبية حقيقية، لأنه من المفترض بحكم الزمن أن يكون الحزب كيانًا قادرا على تجاوز التحديات، والتكيف مع المستجدات، وتعميق وجوده داخل الشارع. وأشار إلى أن الواقع الحالى يشير إلى عكس ذلك، حيث غرقت كثير من الأحزاب القديمة فى مشاكلها الداخلية وفشلت فى مواكبة التطورات السياسية والاجتماعية، مؤكدا أن لغة الخطاب التى تستخدمها تلك الأحزاب مع الأجيال الجديدة باتت بعيدة تماما عن أفكارهم وتطلعاتهم، وهو ما يعد أحد أبرز أسباب ضعف قواعدها الشعبية. وأضاف سلامة: إن الأحزاب مطالبة بأن تدرك أن التركيبة السكانية فى مصر تغيرت، وكذلك المدخلات الجديدة فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانتخابية، وعدم قدرتها على فهم التحولات يمثل أزمة «عويصة» لها. وأوضح أن التركيبة الداخلية للعديد من الأحزاب التاريخية ما زالت أسيرة أفكار قديمة، مما جعلها مجرد أحزاب «قديمة بأفكار قديمة»، فى حين كان من المفترض أن تطبق مبدأ تداول السلطة داخليًا، وتعزز مناخ التوافق، وهى أمور غائبة عنها حتى الآن.. على سبيل المثال فإن عددًا من الأحزاب ذات التاريخ السياسى مثل حزب الوفد، والحزب الناصرى المرتبط باسم الرئيس جمال عبد الناصر، وحزب التجمع باعتباره أحد أوائل الأحزاب فى التجربة الحزبية الثانية، جميعها «فاقدة للبوصلة» – على حد تعبيره – حيث لا تزال بعيدة عن احتياجات المواطن فى الشارع، وتكتفى بخطابات النخبة داخل المكاتب المغلقة. وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن على هذه الأحزاب أن تثبت جدارتها السياسية إذا أرادت خوض الانتخابات المقبلة بفاعلية، لافتا إلى أن وجودها فى «القائمة الوطنية» خلال انتخابات مجلس الشيوخ عكس حجمها الحقيقى، حيث لم يحصل حزب الوفد سوى مقعدين داخل القائمة، وهذا يعكس ثقله الفعلى، ولذلك إذا أراد أن يثبت حضوره فعليه أن يبرهن على ذلك خارج إطار القائمة. وأكد سلامة أن تقديم الأحزاب لمرشحين حزبيين مستقلين عن القوائم الرسمية، ودعمهم بشكل فعّال عبر جولات انتخابية فى المحافظات والدوائر، هو الطريق لإثبات قوتهم الحقيقية، حيث إن الأولوية الآن هى للأحزاب التى تستطيع مخاطبة الشارع، وتواكب المستجدات، وتستثمر وسائل التواصل الاجتماعى بمهارة لتصل إلى الشباب وكافة الفئات المجتمعية. وأكد أن المنافسة الحزبية اليوم حادة جدًا، ولا أتصور أن الأحزاب القديمة قادرة على خوضها أو تحقيق الفوز فيها ما لم تغير من أدواتها وآلياتها. وقال اللواء الدكتور رضا فرحات، أستاذ العلوم السياسية ونائب رئيس حزب المؤتمر، إن الأحزاب السياسية القديمة ما زالت تحمل رصيدًا سياسيًا ضخمًا، وذاكرة نضالية ممتدة لعقود طويلة، جعلتها فى فترات تاريخية محركا رئيسيا للحياة العامة وصاحبة مواقف بارزة فى الدفاع عن الحقوق والحريات، لكنها فى السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا فى قدرتها على المنافسة الانتخابية، وهو ما انعكس فى ضعف حضورها البرلمانى وانكماش قاعدتها الشعبية فى كثير من المحافظات، الأمر الذى دفع قطاعات واسعة من المواطنين إلى التشكيك فى قدرتها على لعب دور مؤثر. وأكد فرحات أن أسباب هذا التراجع متعددة، وفى مقدمتها غياب التجديد فى الخطاب السياسى، والاكتفاء بالاعتماد على الإرث التاريخى دون تطوير أدوات عملية تتناسب مع تغيرات المجتمع، كما أن غياب التواجد الميدانى الفاعل، والاكتفاء بالأنشطة المركزية فى العاصمة حرم هذه الأحزاب من التواصل المباشر مع المواطنين فى الأقاليم، حيث تكمن الكتلة الانتخابية الأكبر. وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن الساحة شهدت فى المقابل صعودا لأحزاب جديدة تمكنت من بناء هياكل تنظيمية واسعة فى المحافظات، واقتربت أكثر من قضايا الناس اليومية، ما عزز من رصيدها الشعبى ومنحها فرصا أكبر للمنافسة على المقاعد البرلمانية. واعتبر أن هذا الصعود لم يكن نتيجة فراغ سياسى فحسب، بل جاء استجابة لمساحة واسعة احتاجت إلى من يملأها بكوادر جديدة أكثر حيوية وحضورًا. ورغم تلك التحديات شدد فرحات على أن وجود الأحزاب القديمة لا يزال ضروريا للحفاظ على التعددية السياسية وإثراء النقاش العام، مؤكدا أنها تمتلك رصيدًا فكريًا وتاريخيا لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه بسهولة، بل يمكن أن يشكل قاعدة قوية لإعادة الانطلاق إذا ما نجحت تلك الأحزاب فى إعادة الهيكلة التنظيمية والانفتاح على الأجيال الشابة. وأوضح أستاذ العلوم السياسية أن المطلوب من هذه الأحزاب اليوم هو تجاوز الاعتماد على التاريخ وحده، والعمل على صياغة برامج سياسية عصرية تعكس هموم المواطن اليومية وتفعيل أدوات التواصل المباشر مع الشارع ليس فقط عبر الخطابات، وإنما من خلال مبادرات اجتماعية وخدمية ملموسة. وأضاف : الحضور فى البرلمان انعكاس طبيعى للتواجد الفعلى فى الشارع، وبالتالى فإن استعادة الدور السياسى مرهونة بقدرة هذه الأحزاب على إقناع المواطن بأنها شريك حقيقى فى صناعة القرار وليست مجرد شاهد على الأحداث. وأكد على أن الفرصة ما زالت قائمة أمام هذه الأحزاب لاستعادة مكانتها، لكن نجاحها مشروط بقدرتها على التغيير والتجديد والتحول من الاعتماد على الماضى إلى صناعة المستقبل، وحذر من أن استمرارها على نهجها الحالى سيجعلها مجرد أسماء تاريخية يتذكرها المواطن أكثر مما يراها فاعلة على أرض الواقع.