قبل اندلاع الحرب بساعات، كان الرئيس محمد أنور السادات فى منزله بالجيزة، يراقب بقلق أخبار تحركات العدو وتحركات الحلفاء، وصلته أنباء عن إرسال الاتحاد السوفيتى إحدى عشرة طائرة لإجلاء عائلات المستشارين فى مصر وسوريا، وصدرت تعليمات غريبة لطائرات مصر للطيران بأن تقضى لياليها فى عواصم أجنبية، ما كان يكشف نية الهجوم. لكن مصر نجحت فى إحباط كل المؤشرات التى قد تكشف خطتها، تدخل الفريق سعد الدين الشاذلى أكّد للرئيس أن العدو لم يلحظ شيئًا، مما منح السادات الاطمئنان وحرية التحرك، الإسرائيليون فسّروا تحركات الروس وطائرات مصر للطيران بسذاجة على أنها سوء تفاهم، واعتقدوا أن مصر لن تجرؤ على الحرب، وأن السادات لن يصدر قرار الهجوم بسبب المخاطر. على الجبهة السورية، واجهت الخطة اختبارًا صعبًا خلال معركة جوية فى 13 سبتمبر 1973، لكن القيادة السورية تصرفت بحكمة، وحافظت على ضبط النفس، مما مكّنها من حشد قواتها دون كشف نواياها، المخابرات الإسرائيلية فسّرت ذلك على أنه استعداد انتقامى سوري، بينما الواقع كان جزءًا من خطة خداع استراتيجية محكمة. بهذا الذكاء الاستراتيجي، نجحت مصر وسوريا فى التحرك بحرية، مفاجئة العدو، وضبط توقيت الحرب لصالحهما، مؤكدتين أن التخطيط والدهاء يمكن أن يعادل القوة العسكرية المباشرة فى قلب النزاعات الكبرى. لم تكن مصر وسوريا وحدهما من يخطط لتحرير أراضيهما؛ فقد كانت إسرائيل فى المقابل تعد لتوسيع سيطرتها على الأراضى العربية. يوضح ذلك «ديفيد أليعازر»، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلى آنذاك، فى مذكراته التى نشرت بعد وفاته، مشيرًا إلى خطة وزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان لعام 1973، التى أطلق عليها اسم «الحزام الأسود». تشمل الخطة الطموحة: ضم جنوبلبنان بالكامل إلى إسرائيل. احتلال أجزاء إضافية من سوريا. إنشاء خط حصين يشبه خط بارليف فى غور الأردن لحماية المستعمرات. تحويل سيناء إلى مركز لتجارب المفاعلات النووية. كان ديان يهدف من وراء «الحزام الأسود» إلى هدفين رئيسيين: تأمين إسرائيل ضد أى هجمات عربية مستقبلية، وضمان المبادرة العسكرية لإمكانية ضم أراضٍ عربية أخرى. وأراد أن يُخلد اسمه عبر هذا المشروع، على غرار «خط بارليف» الذى سُمى باسم رئيس الأركان السابق حاييم بارليف. وكشف أليعازر أن ديان عرض الخطة على مجلس الوزراء المصغر برئاسة جولدا مائير فى الخامس من أكتوبر 1973، تضمنت ضربات متزامنة: الجنوباللبناني، القوات السورية، ثم مصر بهدف تدمير صواريخ الدفاع الجوى والمطارات قبل أى تدخل مصري. كان من المخطط تنفيذ ذلك بين 22 و25 أكتوبر، بعد عيد الغفران وقبل انتخابات الكنيست فى 28 أكتوبر. لكن المعلومات التى وصلتها الأجهزة الإسرائيلية عبر مدير المخابرات إلياهو زاعيرا أظهرت مؤشرات على استعدادات عربية لهجوم مضاد، هذه الموازنة بين الخطط الإسرائيلية والطموحات العربية وضعت المنطقة على حافة صراع شامل، لتبرز أهمية الدهاء والاستراتيجية فى قلب الحرب، وهو ما أثبتته العمليات المصرية والسورية فى أكتوبر 1973. قبل اندلاع حرب أكتوبر، حددت القيادة الإسرائيلية موعد الهجوم بدقة، وفق مذكرات ديان، فقد قال بعد تفكير لموافقة جولدا مائير: «سأجعل ضربتى مبكرة جدًا، ستكون صباح الثامن من أكتوبر». فى المقابل، كان على القوات المصرية والسورية مواجهة جيش إسرائيلى متفوق عددًا ونوعًا، ففى الجو وحده،لم تتجاوز طائرات مصر وسوريا المقاتلة الخمسمائة، معظمها من طراز ميج 21، مع طيار واحد لكل طائرة. بينما امتلكت إسرائيل أكثر من خمسمائة طائرة، بينها طائرات فانتوم أمريكية تفوق الميج 21 أربع مرات، ويملك كل منها من اثنين إلى ثلاثة طيارين. ولا يختلف الحال كثيرًا على الجبهة البرية، حيث امتلكت إسرائيل تفوقًا نوعيًا وعدديًا فى الدبابات والمركبات والمدفعيات والصواريخ، مدعومًا بضمان الإمداد المستمر من الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية. وكان أخطر عنصر هو امتلاك إسرائيل لأسلحة التدمير الشامل، بما فى ذلك القنابل النووية. كل هذه الحسابات تجعل الحرب تبدو انتحارية، لكن حسابات التحرير تختلف. فكما يقول التاريخ: «ساعات الحياة بعيش عز ... أجل من السنين بعيش ذلة». كان الهدف واضحًا: تحرير الأرض وهدم نظرية الأمن الإسرائيلى التى بنتها إسرائيل لتبرير توسعها، وتحقيق ما قاله دايفيد بن جوريون: «حدود إسرائيل حيث تقف أقدام جنودها». بل والتأكيد على ما قاله موشى ديان قبل الحرب بشهرين: «إن السلام الرسمى مع العرب يضر بالمصلحة الإسرائيلية ويثبت الأمر الواقع الذى فرضته حرب 1967». مصر وسوريا خاضتا الحرب رغم تفوق العدو، مع مراعاة مبادئ الحرب وقوانين القتال التى تمنح المدافع ميزة، مع الاستفادة من تحصينات استراتيجية مثل خط بارليف، الذى وصفه الخبراء الغربيون بأنه أقوى خط دفاعى فى التاريخ، واعتبره الجنرال حاييم بارليف منيعًا بما يفوق التكنولوجيا المصرية بخمسين عامًا. كانت حرب أكتوبر إذًا معركة بين إرادة تحرير الأرض والتفوق العسكرى للعدو، تُثبت أن القرار والشجاعة يمكن أن يحققا المستحيل، حتى أمام أقوى الجيوش وأكثرها تجهيزًا. الخبراء الروس الذين زودونا بالعلم والأسلحة حذرونا من صعوبة عبور خط بارليف: «التغلب على هذا المانع ليس مستحيلًا، لكنه سيكلفنا خسائر لا تقل عن 50 % من القوة المشاركة» — أى نحو خمسين ألف جندى من مائة ألف منتشرين على الضفة الغربية للقناة. نجاح العبور كان مرهونًا بتشغيل المعديات وتحويلها إلى كبارى لعبور الدبابات والأسلحة الثقيلة، شق الفتحات فى الساتر الترابى وحده استهلاك 1500 متر مكعب من الرمال لكل جسر، وساعات طويلة تحت ضغط نيران العدو، العملية كانت تتطلب ثمانى ساعات على الأقل لإنجاز التجهيزات، كل ذلك أمام يقظة المخابرات الإسرائيلية وتعاونها مع الأجهزة الأمريكية، التى كان من شأنها كشف أى نية هجومية فورا، مما يؤدى إلى ضربات وقائية عاجلة واستدعاء الاحتياط فى غضون يومين. فى هذا السياق، أدرك صانعو القرار ضرورة التفكير خارج الصندوق، لم تُكتب مبادئ الحرب على الورق، بل نُحتت بالدماء عبر التاريخ، لتكون قاعدة لا تتغير رغم تطور الأسلحة والمعدات. السبيل لتحقيق التفوق كان عبر فرض الإرادة على العدو وامتلاك المبادرة، وجعل تصرفاته كلها ردودًا على أفعالنا. المحور الاستراتيجى كان المفاجأة فى أربعة أضلاع: التوقيت غير المتوقع. المكان غير المتوقع. السلاح غير المتوقع. الأسلوب غير المتوقع. تحقيق المفاجأة فى أحد هذه العناصر أو أكثر كان يكفى لإحباط أى استعدادات إسرائيلية، وحرمانها من هجوم وقائي، وتأمين أفضل الظروف لعبور القناة على الجبهة المصرية، وبالمثل على الجبهة السورية فى الجولان، مع تقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن. لم يكن التحدى مجرد تحريك القوات أو تدريبها، بل حصر وحل كل المشكلات التكتيكية: جبهة القناة كانت على بعد 200 متر فقط من العدو، بينما القوات السورية تحت المراقبة المستمرة من هضبة الجولان، حيث يستطيع العدو رصد أى تغيير فى حجم القوات أو تحركاتها، وتوقع نواياها بدقة. إخفاء عناصر المفاجأة الأربعة (التوقيت، المكان، السلاح، الأسلوب) لم يكن سهلاً، ولكنه لم يكن مستحيلاً. لذا أضاف صانعو القرار ضلعًا خامسًا إلى مربع المفاجأة: إخفاء النوايا وتضليل العدو، فليرى العدو كل العناصر الأربعة ولكنه لا يصدق أن لدينا نية للهجوم. خطة الخداع صيغت بخبرة ودقة على يد نخبة من ضباط العمليات، مكتوبة بخط اليد، متضمنة إجراءات متنوعة على كلا الجبهتين المصرية والسورية، لتظهر أمام العدو معلومات مغلوطة بينما كانت القوات المصرية والسورية جاهزة للهجوم الفعلي. بدأ مشروع تدريبى مشترك لكل أفرع القوات المسلحة، تحولت بموجبه التدريبات إلى عمليات حقيقية طبقًا لخطة العمليات. نفذت هذه المناورات من 1 إلى 7 أكتوبر 1973، مشابهة لمناورات النصف الأول من العام، والتى أجبرت إسرائيل على إعلان التعبئة الجزئية وإنفاق ملايين الدولارات، بينما حلل العدو الأمر على أنه مجرد تدريب عادي. أما عملية التعبئة والاستدعاء فكانت تحديًا آخر، إذ شمل عددًا كبيرًا من الاحتياطيين، كان يمكن للعدو ملاحظتهم بسهولة. لذا تم إخفاء وحدات الاحتياط الفعلية فى أماكنها القتالية، بينما بدا الاستدعاء وكأنه تدريب روتيني، مع تسريح آلاف الجنود قبل الحرب، مما أبقى القوات المطلوبة فى أعلى درجات الاستعداد دون أن يشك العدو. حتى نقل اللواءات تم بذكاء: أحد اللواءات نُقل من الإسكندرية للتجميع القتالى عبر القطارات، وتم حجز قطار لإعادته بعد انتهاء المناورة يوم 7 أكتوبر، كل ذلك دون إثارة أى شك. ولم تُخلّ القيادة بالنظام المدنى والعام، فاحتفظت بجدول رحلات العمرة السنوى للضباط والصف، ونشرت الإعلان فى الصحف، مما أضاف واقعية للخداع. كما جاءت زيارة وزير دفاع رومانيا فى توقيت طبيعى تمامًا، لتكون جزءًا من التمويه الإعلامى، قبل أن تُلغى طبيعيًا بعد نشوب الحرب. بهذه الاستراتيجيات الدقيقة، نجحت مصر وسوريا فى إخفاء نوايا الهجوم وتضليل العدو، والحفاظ على عناصر المفاجأة كاملة، مما أتاح بدء الحرب بفعالية عالية وتقليل فرص الاستجابة الإسرائيلية المبكرة. لم تقتصر الاستعدادات المصرية على الأرض، بل امتدت إلى البحر والجو، حيث تم التخطيط لتحركات استراتيجية مبكرة خارج الحدود الوطنية لضمان نجاح الهجوم وتحقيق المفاجأة. قبل يوم السادس من أكتوبر، تم إرسال قطع بحرية مصرية إلى مضيق باب المندب للتعرض لخطوط مواصلات العدو، وذلك بعد تنسيق مسبق مع إحدى الدول الآسيوية الصديقة لإجراء إصلاحات عاجلة للمدمرات فى ورشتها. كما تم التواصل مع السودان واليمن الجنوبى للحصول على موافقتهم على زيارة ودية لموانئ بورسودان وعدن، مع وضع جدول دقيق للرحلات يضمن وصول المدمرات إلى المضيق صباح السادس من أكتوبر، جاهزة لأداء مهمتها. وقد أُبقى قائد هذه القطع البحرية على علم بالمهمة حتى لحظة فتح المظروف «سرى للغاية»، ما أضاف عنصر المفاجأة الكامل. على الجانب الجوى، قامت قواتنا الجوية بأهم عمليات الخداع الاستراتيجى لإعادة الانتشار وتوزيع الطائرات على مواقع تسمح لها بالهجوم على أهداف العدو بدقة متزامنة. كان اكتشاف العدو لهذه العملية سيكشف نوايا الهجوم بنسبة 100 %، ويجبره على توجيه ضربة وقائية لإحباط الهجوم قبل بدايته. تنفيذ العملية تم بسرية وذكاء بالغين، متجاوزًا أى استطلاع إسرائيلى أو أمريكي، ووصفها البعض بأنها أشبه ب «ألغاز عسكرية معقدة وبسيطة فى آنٍ واحد». أما كاتب هذه السطور.. فلا أنسى ولن أنسى، أنى أثناء تواجدى داخل كبينة الهليوكبتر مى 8 التى تنقلنا إلى خلف خطوط العدو فى عمق سيناء وكانت الشمس وقتها تخالف سيرنا مسرعة إلى الغروب ونحن نحلق فوق مياه خليج السويس يوم السادس من أكتوبر وبينما قائد الطائرة وأنا إلى جواره ندقق معًا النظر فى خط السير حمال على أذنى الطيار المساعد -وكان فى نفس رتبتى ملازم أول- وسألنى متى ستنتهى هذه المناورة؟، فلم أستطع أن أرد عليه إلا بابتسامة -ربما تكون الإجابة على قائد الطائرة اللواء طيار صلاح عارف الآن وكان وقتها برتبة النقيب، الذى لم ينس أننى شددت على يده قبل أن أهبط من الهليكوبتر وأنا أقول له: «ترجعوا بألف سلامة». والحمد لله عادوا بألف سلامة وعدت من مهمتى بعد 180 يومًا ولم ألقاه إلا بعد أكثر من 40 عامًا لنقول لبعضنا البعض «حمدلله على السلامة». 0 1