بين حياتى الفنية وحياتى الصحفية حلقة تصل ما بينهما كما تفصل الواحدة عن الأخرى. كانت هذه الحلقة، «جلسة» فى حلوانى «كسّاب» الذى تقوم مكانه الآن سينما ديانا.. وكان ذلك فى ليلة من ليالى أغسطس الحارّة سنة 1925، وهو مكان كنت أرتاده أنا ونفر من أصدقائى الصحفيين والأدباء والنقاد، كلما انتهيت من عملى الفنى المسرحى. وفى تلك الليلة كان الموسم المسرحى قد انتهى، وشعرت بعودة حريتى إلىّ، وتخلصى من عناء البروفات ودراسة الأدوار المطولة. وتأهبت لاستقبال فصل الكسل والخمول.. وكان يبدأ من هذه الليلة بالذات. كانت الساعة الثامنة مساء حين جلست فى ركن من الحلوانى المذكور، وحولى حضرات الأساتذة، زكى طليمات وإبراهيم خليل، ومحمود عزى وأحمد حسن، وجلسنا نتحدث كعادتنا كل مساء، فى كل شىء وفى لا شىء. ودخل أحد باعة الصحف وهو يصيح بصوته الداوى: ((الحاوى.. الحاوى بتاع الليلة..). وألقى البائع نسخة من هذه المجلة التى كان يصدرها- إذ ذاك- الأستاذ حافظ نجيب.. ولم أشأ أن «أكسف» البائع فألقيت إليه بثمن النسخة وأخذت أقلب صفحات المجلة حتى وصلت إلى القسم الفنى لأطالع ما يكتب عن الفنانين والفنانات بالحق وبالباطل أيضًا. وكانت حملة «النقاد» على الفنانين بالغة نهاية القسوة، فلم يكن ما يُكتب فى الصحف نقد مسرحى؛ بل مهاجمات على طول الخط، فإذا أعوز الكاتب ما يدلل به على صدق مهاجماته، لم يتورع على اختلاق الأكاذيب وسردها على أنها حقائق وصل إلى معرفتها بجده وخبرته الصحفية!! وطالعت «الحاوى» قليلاً فثارت نفسى لما كتب عن الممثلين، وقلت لنفسى ترى إلى من يلجأ الفنان ليرد عنه حملات النقاد المغرضين!! وإذ ذاك، خطر لى خاطر هو لماذا لا يكون للفنانين مجلة تنتصف لهم من خصومهم.. وتردد هذا السؤال فى مخيلتى برهة، فلم يلبث أن جر إلىّ سؤال آخرهو: لماذا لا أقوم أنا بإصدارهذه المجلة؟ وأعجبتنى الفكرة الأخيرة، فأطلت التأمل فيها، وذهلت برهة عن أحاديث الأصدقاء وضحكاتهم العالية. ولم أتردد أن طرحت الفكرة على الأصدقاء، فماأسرع ما تناولوها على أنها فكاهة، وأمعنوا فى «القفش والتنكيت»، ولكنى تغلبت على هذرهم ومجونهم وأرغمتهم على بحث الفكرة جديًا. وسرعان ما أخد كل منهم يبدى رأيًا، واختلفت الآراء، لكنها اجتمعت حول نقطة معينة، أن إصدار مجلة فى الوقت الحاضر يستلزم نفقات لا قِبَل لى بها! وأحزننى أن تتبدد هده الفكرة التى سررت منها هنيهة، بهده السرعة، فأخذت أناقش آراءهم بحدة وأتهمهم بالجهل وسوء التقدير. وكأنما حفزتنى المناقشة.. لأن أدعم أقوالى بدليل مادى فطلبت إلى الصديق «إبراهيم خليل».. وهو الصحفى الوحيد الذى كان بينهم- أن يبين لى مقدار ما تتكلفه مجلة من «ملزمتين». ولست أدرى هل أراد الصديق مجاملتى ونصرتى على خصومى، أم أنه لم يشأ أن يُميت الأمل فى صدرى كالآخرين. فقد أعمل قلمه برهة، ثم قال إن ثلاثة آلاف عدد من الحجم الذى عينته له يكلف نحو اثنى عشر جنيهًا، فإذا بيعت كلها كان ربحها خمسة جنيهات. ووجم الجميع إزاء هذا التصريح الخطير وأخذوا ينظرون إلى المسألة بعين الاهتمام، وكنت أنا أكثرهم اهتمامًا، فرحت أنادى نفسى فأقول: خمسة جنيهات فى كل أسبوع أو عشرون جنيهًا فى كل شهر ربح جميل إذا أضيف إلى مرتبى الفنى وقدره 70 جنيهًا شهريًا اجتمع لى 90 جنيهًا.. ثروة طائلة ولا ريب!!.. إذن إلى الأمام! وعرضت لنا مشكلة الاسم، فأخذ كل من الحاضرين يعتصر قريحته ويطلق اسمًا معينًا فلا يلاقى من زملائه سوى الاستهجان والتوبيخ! وصمت الأستاذ زكى طليمات برهة طويلة ثم قال: - أنتو عايزين مجلة تروج تمام.. فأجبت: - طبعًا.
وهنا أخذ زكى يلقى علينا محاضرة طويلة يدلل بها على تعطش الجمهور إلى «الأدب العالمى» ويؤكد لى أنه إذا صدرت مجلة وخصصت لهذا النوع من الأدب لنام القراء على باب المطبعة فى انتظار صدورها. واختتم محاضرته باقتراح تسميتها باسم «الأدب العالى»! وهنا وجد أصدقائى المجال فسيحًا للقفش والتنكيت، فمن سائل يسأل صاحب الاسم: - والأدب العالى ده مش يطلعوا له بسلم برضه؟!.. وآخر يردف: يمكن يا أخى مش عالى قوى.. ثم يلتفت لزكى ويقول: هوه كام دور يا أستاذ؟! واشتد مجونهم.. وكثرت الأسماء المقترحة.. ولكن كلها لم ترق لى، وأخيرًا خطر لى خاطر فما عتمت أن قلت. - ولماذا لا أسميها باسمى «روزاليوسف»؟! ولكن هذا الاسم لقى اعتراضًا من الجميع.. وكل منهم يؤيد اعتراضه بما يحضره من العبارات. ولم أجد من يوافقنى على رأيى من المجتمعين سوى أحمد حسن! وقد عودنى هذا الصديق على الموافقة دون أى اعتراض حتى ولو كان الرأى الذى أبديه واضح الخطأ.. ولم أره يعارض رأيى قط.. وهى ميزة لما تتوفر فى أحد من الناس ولكنها كانت الميزة الوحيدة التى كنت أراها فى هذا الصديق.
وانتهت السهرة عند هذا الحد، وانصرف كل منا لشأنه، وقد ترك الجميع حديث «المجلة» على عتبة القهوة. ولكنى كنت على العكس من ذلك! فقد دخلت الحلوانى فنانة لا أعنى بغير الفن، وخرجت منه وقد خلفت فنى، مستقبلة حياة جديدة! ففى اللحظة التى تركت فيها المقهى، بدأت حياتى الصحفية، وظللت طيلة هذه الليلة، وأنا أقلب بيد الخيال صفحات مجلتى «روزاليوسف».. كما تترقب الأم مولودها القادم وتتخيل فيه كل الصفات المحبوبة! ولم يكد يتنفس الصبح، حتى ارتديت ملابسى ووجهتى إدارة «البلاغ»، حيث يعمل صديقى «إبراهيم خليل».. صاحب ميزانية العدد الأول من «مجلة روزاليوسف» التى كانت لا تزال تتخذ لها محلاً مختارًا فى خيالى. وبوغت الصديق بهذه الزيارة المفاجئة، وقبل أن أبدأه بالتحية، سألته عن الإجراءات المتبعة لإصدار مجلة. فحدجنى الصديق بنظرة ملؤها الدهشة وقال: - انتى بتتكلمى جد؟! ونفد صبرى لهذا السؤال، فانفجرت أعنفه وأنحى عليه قائلة: - منذ متى أمزح معك؟إ أنا أسألك سؤالاً.. فأجب عليه أوانصرف! وخفف الصديق من حدتى وبادر بإحضار «استمارة» ملأت خاناتها بحذر شديد ورفضت أن أعهد إلى صديقى بإرسالها إلى الداخلية؛ بل حملتها بنفسى حتى لا يكون هناك مجال للشك فى وصول الاستمارة! ورحت أترقب صدور الترخيص يومًا بعد آخر.. حتى مضى أسبوع وأنا على أحر من الجمر. ولم أكن أفكر خلال هذا الأسبوع إلا فى المجلة وطرق ترويجها وتبويبها.. ولم أتوانَ عن نشر إعلانات بالصحف عن قرب صدور مجلة «روزاليوسف» التى «صرّحت لى بها الداخلية».. ولم تكن الداخلية قد صرّحت بعد، فثارت لهذا الإعلان، وأرسل فى طلبى مدير قلم «المطبوعات»، وكان فى ذلك الحين حضرة الأديب الكبير والعالم المحقق محمد بك مسعود فما إن دخلت مكتبه حتى بادرنى بقوله: - كيف تعلنين عن مجلة لم تصرّح بها الوزارة بعد؟! - وهل فى نية الوزارة عدم التصريح بها؟! - كلا، ولكن القانون يجب أن يراعى. - وهل القانون هو الذى يجعل الحكومة تتكاسل عن التصريح بالمجلة؟! لقد انتظرت أسبوعًا.. وأظن أن هذا يكفى.. فإذا لم تصرح لى الحكومة فسأصدر المجلة والسلام! وضحك مسعود بك لسذاجتى، وطيب خاطرى بقوله إن التصريح موشك الصدور.. فانصرفت وقد وثقت بحديث مسعود بك ولم يبقَ لدىّ أدنى شك فى أن ترخيص المجلة بات فى يدى. ولكن الأيام مرت، وتلتها الأسابيع فعدت أسائل مدير قلم المطبوعات عن «إهمال الحكومة» فأحالنى إلى محافظة مصر، وذهبت إلى المحافظة، وكانت هى المرة الأولى التى أذهب إليها.. فأخذت أسأل الموظفين عن «المكتب بتاع الجرايد».. وذاع خبر طلبى للمجلة بين الموظفين فالتفوا حولى، إذ كانت شهرتى الفنية قد سبقتنى إليهم، وراحوا يسألوننى: - المجلة اسمها إيه؟ - روزاليوسف. - أيوه.. ما إحنا عارفين إنك روزاليوسف.. لكن المجلة اسمها إيه؟! وبعد جهد غير يسير استطعت أن أفهمهم أنى صحيح «روزاليوسف» وأن المجلة اسمها أيضًا «روزاليوسف». وألقيت عصا التسيار فى غرفة سليم زكى بك مدير القلم السياسى، والموظفون يحيطون بى وكلهم يتوق إلى رؤيتى عن قرب لأنهم لم يشهدونى إلا على خشبة المسرح.. ومنهم من شرع يعرب لى عن إعجابه بمواقفى الفنية فى الرواية الفلانية.. ولكنى كنت فى شغل عن هذا كله بالطبع. وحدثت سليم بك عن غرضى من الحضور ولم يفتنى الاحتجاج على تعطيل مصالح الدولة على هذا النحو. فوعدنى بأن الترخيص سيصدر بعد أسبوع، ولم يمضِ الأسبوع حتى صدر الترخيص باسم المجلة، ولست أحاول هنا أن أعبر عن مقدار اغتباطى لذلك؛ بل أتركه للقراء! ورحت من فورى أعد العدة لإصدارالعدد الأول، فاجتمع الأصدقاء من جديد وأخذوا فى تبويب المجلة حسب نزعاتهم وميولهم. أما زكى طليمات؛ فيرى أن تكون المجلة خاصة بالأدب الكلاسيكى، الذى يتعطش الجمهور لمطالعته كما يز عم. ويرى أحمد حسن أن تكون مجلة فنية فقط.. وهذه هى المرة الأولى التى يبدى فيها هذا الصديق رأيًا! أمّا «إبراهيم خليل» فرجل صحفى، يرى أن المجلة يجب لضمان نجاحهم أن تكون محتوية على أبواب جديدة.. فلما سألته عن هذه الأبواب كان جوابه: «اتركونى أفكر.. وبعدين أبقى أقول لكم». ومن آخر يرى أن تصدر«روزاليوسف» قوية جدًا.. فلما سُئل قد إيه يعنى إيه، قال؛ يعنى شديدة.. ففسّر الماء بالماء! وأخيرًا استقر الرأى على إصدارها مجلة أدبية راقية، ذات أسلوب عالٍ، ولم أعارض بالطبع.. وإن كنت لم أقتنع تمامًا.. ورأيت أن أعمل وفق الحكمة القائلة: أكبر منك بيوم.. يعرف أكتر بسنة. وانتهت مشكلة «لون المجلة» الصحفى الذى تصدر به. وإذ بنا أمام مشكلة عويصة! أين الاثنا عشر جنيهًا.. التى لا بُدّ منها لتكاليف العدد الأول؟.. وأنا لا أملك درهمًا.. وأصدقائى جميعًا على الحميد المجيد؟!