ألوان تتراقص فى عيون الأطفال، ورائحة الحلوى تعبق الشوارع والأزقة، وزينة تتدلى من الشوادر، وعروس ترتدى فستاناً من الماضي، تقف بشموخ على رفوف الذكريات.. مشهد يتكرر كل عام، لكنه لا يفقد بريقه للحظات، ولا تهتز مكانته فى قلوب المصريين. احتفال المصريين بالمولد النبوى الشريف يعتبر عادة تاريخية.. احتفال تتصدره» حلاوة المولد» التى لا تمثل فقط أحد مظاهر البهجة بل هى رمز للهوية المصرية. فالحديث عن أفضل الأماكن التى تبيع «حلاوة المولد» وأفضل الأسعار يدور فى أى تجمع للمصريين، وأيادٍ تتسابق بفرح الطفولة لانتقاء قطعها المفضلة، كأنها تقتنص لحظات من الفرح، أو تستعيد طعم الحنين. «حلاوة المولد» ليست مجرد حلوى بل مرآة لتراث شعبى ضارب فى الجذور، مفعم بالحكايات، والموروثات. طقس شعبى بنكهة التاريخ منذ أكثر من ألف عام، بدأ المصريون يحتفلون بذكرى المولد النبوي، لكنهم اختاروا أن يكون لهذا اليوم طابعه الخاص، فصار «المولد» مناسبة دينية بطابع شعبي، لا تخلو من الغناء، والإنشاد، والموالد والمواكب، والأهم «الحلوى»؛ التى لا يخلو منها بيت مصرى خلال أسبوع الاحتفال بالمولد النبوى الشريف. رغم انتشار الكثير من الروايات حول بداية استخدام الحلوى فى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، إلا أن الرواية الدارجة تقول إن حلوى المولد ارتبطت بدخول الفاطميين إلى «مصر» فى القرن الرابع الهجرى مع دخول عام 973 ميلاديًا، حين عمد الخلفاء إلى توزيعها على الجنود والناس فى يوم المولد، كجزء من مواكبهم الاحتفالية التى كانت تجوب الشوارع؛ بينما كان ديوان الحلوى التابع للخليفة يصنع كميات كبيرة من الحلوى. ومن هنا، تحولت الحلوى إلى عادة، والعادة إلى طقس، والطقس إلى ذاكرة جماعية مصرية تنبض بالحياة حتى يومنا هذا تتوارثها الأجيال، جيل بعد جيل. ولكن، وسط كل أشكال الحلوى، تبقى «عروسة» المولد الأكثر سحرًا وروعة فى وجدان الفتيات تحديدًا، مهما كان عمرهن. ورغم تعدد الروايات عن أصل عروسة المولد وبداية ظهورها، إلا أن الرواية الشعبية الأكثر شهرة –فى هذا الصدد- تقول إن الحكاية بدأت عندما خرج «الحاكم بأمر الله» فى موكب المولد بصحبة زوجته، التى ارتدت ثوبًا أبيض، فاستلهم صناع الحلوى فكرتهم، وصنعوا تمثالًا سكريًا لامرأة ترتدى تاجًا وفستانًا ملونًا، وأهدوه للأطفال؛ وإلى جانبها، وقف حصان المولد، الذى يعتليه فارس رافع سيفه، فى مشهد أسطورى لا يخلو من البطولة. على كل، كانت تصنع العروسة والحصان طوال العقود الماضية من السكر المذاب، ثم يُصبان فى قوالب خشبية محفورة بعناية، وتُزين العروسة بورق (الكريشة) اللامع، وقطع القماش البسيطة، بينما تُرسم ملامح وجهها بقلم، وتُلبس التاج فى احتفال مصغر داخل كل بيت. وحدة الروح وتنوع الطقوس بالأقاليم رغم أن القاهرة الكبرى تظل أيقونة الاحتفالات بالمولد النبوى الشريف منذ قديم الأزل حتى الآن، إلا أن الأقاليم تحتفظ –أيضًا- بطقوسها الخاصة التى تُضيف إلى المشهد مزيدًا من التنوع والثراء. ففى صعيد «مصر» مثلًا، تتحول قرى كاملة إلى ساحات احتفال تمتزج فيها الأناشيد بالمدائح النبوية، ويتجمع الأهالى فى حلقات ذكر تسبق توزيع الحلوى؛ كما يتم تنظيم موالد صوفية حول المساجد أو القباب؛ بينما تخرج الزفة الشعبية فى مشهد لا يخلو من الحماسة والبهجة، وتوزع خلالها الأطعمة والمشروبات على الزائرين. أما فى الدلتا، وتحديدًا بمحافظة «الغربية» وبداخلها مدينة «طنطا»، تكتظ الشوارع قبل المولد بأكشاك الحلوى الملونة، والعرائس، والخيول؛ كما تبرز الساحات الشعبية التى تُقام فيها احتفالات شعبية، يتخللها الغناء والمديح، والتوزيع السخى للحلوى على الأطفال والعائلات. ومن الشمال للجنوب، تتوحد فكرة الاحتفال رغم اختلاف أشكالها بين موالد صوفية، واحتفالات شعبية، وجلسات للحكايات والزيارات، تعضد الوجدان الجماعى. «حلاوة المولد».. تطور لا ينهى الحنين كانت الحلوى قديمًا بسيطة فى مكوناتها، لكن غنية فى دلالاتها، بل ومسمياتها التى تدخل البهجة على القلوب فور سماع أسمائها، مثل: (السمسمية، الفولية، الحمصية، الملبن، النوجا)، وغيرها من أسماء كلها محفورة فى الذاكرة، وأذواق ارتبطت بالاحتفال. ومع الوقت، تطورت هذه الحلوى لتواكب تغير الأذواق، فدخلت المكسرات الفاخرة، مثل: البندق، والفستق، والكاجو، وأضيفت نكهات المشمش، وقمر الدين، وظهرت أشكال جديدة لتناسب كل الأعمار والميزانيات. لكن، التغير الأكبر جاء من نصيب العروسة، التى هجرت السكر تدريجيًا، وارتدت فستانًا من قماش (التول)، وتحولت إلى عروسة بلاستيكية أو خشبية، بعضها يتحرك، يغني، بل ويرقص، ويضيء، حتى وصل الأمر لاستخدامها كقطعة ديكور فى بعض البيوت فى محاولة لجعلها تدوم أكثر من يوم. صناعة الحلوى حرفة مصرية متوارثة وراء هذه الفرحة، لا يمكن نسيان صناعة كاملة لا تقل سحرًا.. فصناع وتجار الحلوى ينتظرون هذا الموسم من كل عام. فمع اقتراب ذكرى المولد، تبدأ ورش الحلوى، خاصة فى الأحياء الشعبية، مثل: باب البحر، والسيدة زينب، والحسين، وغيرها فى رفع وتيرة العمل، حيث تستعد الأسر والعاملون فى هذه الصناعة للموسم الذى يُعد بالنسبة للكثيرين (موسم الخير).بينما يعتمد أصحاب مصانع الحلوى على التكنولوجيا الحديثة والماكينات الآلية لتقطيع وتغليف الحلوى. رمزية الاحتفال وراء هذه الطقوس المميزة، تقف رمزية عميقة للفرح الجمعى.. فالمولد فى الثقافة الشعبية ليس فقط احتفالًا دينيًا، بل مناسبة للاندماج الاجتماعى. إنها ببساطة لحظة يتلاقى فيها الاحتفال الدينى بالفلكلور، والروحانيات بالماديات، والتاريخ باليوميات.. فبينما يحتفى الناس بمولد النبى الكريم، فإنهم أيضًا يحتفون بأنفسهم، بهويتهم، وجذورهم. فى النهاية.. ليست حلاوة المولد مجرد سكر ومكسرات، بل لغة من لغات الفرح المصري، تُقال كل عام دون كلمات، وتُفهم بالقلوب لا بالعقول.. فهى وثيقة عشق بين شعب وتاريخه، بين طقوسه وهويته، بين بساطته وقدرته العجيبة على تحويل المناسبات الدينية إلى أعياد شعبية كبيرة لا تُنسى. 2