لم يَعُد حضور مصر فى المؤشرات الدولية الكبرى مجرد خبر عابر؛ بل صار انعكاسًا لحراك علمى ومَعرفى متواصل يضع البلادَ فى موقع جديد على خريطة البحث والابتكار العالمية. إعلان القاهرة ضِمْن قائمة أفضل 100 كتلة ابتكار عالميًا لعام 2025، وتحديدًا فى المركز 83؛ لم يكن نتيجة صُدفة؛ بل ثمرة تراكم سياسات وجهود متصلة جعلت من العاصمة المصرية الكتلة الوحيدة عربيًا وإفريقيًا فى هذا التصنيف المرموق. القفزة من المركز 95 فى عام 2024 إلى المركز 83 هذا العام تُعَبّر عن نقلة نوعية، ليس فقط من حيث الرقم؛ بل من حيث الدلالة. ففى ظرف زمنى قصير، تمكّن النظام البحثى فى مصر من إثبات فعاليته، بعد أن راكم أكثر من 1115 مقالاً علميًا منشورًا فى دوريات دولية، وسَجّل 7 طلبات براءة اختراع، وأبرم 21 صفقة فى مجال رأس المال المخاطر لكل مليون نسمة خلال خمس سنوات. ما يجسد رؤية الدولة فى أن يكون البحث العلمى أداة للتنمية، وليس مجرد تراكم أكاديمى. الجامعات المصرية الكبرى لعبت دورًا محوريًا فى هذا الإنجاز.. جامعة القاهرة ساهمت بنسبة 24 % من النشر العلمى، تلتها عين شمس بنسبة 14 %، ثم المركز القومى للبحوث بنسبة 13 %. هذه الأرقام تُظهر أن المؤسَّسات الأكاديمية الوطنية تتحول تدريجيًا إلى مراكز إنتاج مَعرفى عالمى، تتفاعل مع دوائر البحث الدولية وتبنّى شراكات عابرة للحدود.. ويكفى أن نلحظ أن نحو %39 من الأبحاث العلمية المنشورة من القاهرة جاءت بالتعاون مع جامعات ومراكز فى الرياض، إسلام آباد، وبكين، وهو ما يعكس عمق الحضور المصرى فى شبكات التعاون العلمى الدولى. أمّا على مستوى الابتكار الصناعى والتقنى؛ فقد برزت شركات مصرية خاصة ضِمْن المتقدمين ببراءات اختراع، فى إشارة إلى أن قطاع الصناعة والقطاع الخاص تحول تدريجيًا لشريك فاعل فى منظومة البحث العلمى، وليس مجرد مستفيد من نتائجها. الدولة بكل مؤسَّساتها لعبت دور المايسترو فى تنسيق هذه الجهود، عبر تبنّى السياسة الوطنية للابتكار المستدام 2030، وربط الجامعات بالصناعة، ودفع الباحثين نحو النشر الدولى والتعاون متعدد الأطراف؛ حيث صار «الابتكار وريادة الأعمال» مبدأ أساسيًا فى الاستراتيجية الوطنية للتعليم العالى والبحث العلمى، ما يعنى أن الدولة باتت تنظر إلى الجامعات ليس فقط كمؤسّسات تعليمية؛ بل كمصانع للأفكار والحلول والاختراعات. إن دخول القاهرة نادى أفضل 100 كتلة ابتكار عالميًا هو بمثابة رسالة مزدوجة.. للخارج؛ تؤكد أن مصر ليست على هامش حركة الابتكار العالمى؛ بل باتت فى قلبها، تسهم بأبحاثها وشراكاتها فى صياغة مستقبل العلم والتكنولوجيا.
وللداخل؛ بأن الاستثمار فى البحث العلمى لم يعد خيارًا ثانويًا؛ بل ضرورة استراتيجية لبناء اقتصاد وطنى قادر على المنافسة عالميًا. التحدى القادم هو الاستمرارية.. فكيف يمكن تحويل هذه المؤشرات الرقمية إلى نهضة ابتكارية شاملة تنعكس على الصناعة، والزراعة، والطب، والطاقة، وسائر قطاعات الاقتصاد؟ وكيف يمكن أن تصبح الأبحاث المنشورة منتجات ملموسة وخدمات تنافسية تسهم فى تحسين حياة المواطن المصرى وتدعم مكانتنا عالميًا؟ لقد أكدت نتائج مؤشر الابتكار العالمى أن مصر تسير فى الاتجاه الصحيح. ويبقى الرهان على أن يتحول هذا التقدم إلى حركة معرفية متواصلة تعيد للعقل المصرى مكانته التاريخية كأحد صُناع الحضارة والابتكار. وهذا يثبت أن مصر مَهما واجهت من تحديات؛ لا تفقد أبدًا قدرتها على أن تكتب اسمها فى سِجِل الأمم الرائدة.