فى حياتها، وبَعد رحيلها، بقيت هدى سلطان «1925 - 2006» حليفة للزمن. حين نتتبع مسيرتها الفنية نجد خطا مستقيمًا، يكاد يخلو من التعرجات الحادة. صحيح أن شعبيتها، سواء كممثلة أو مطربة، كانت محدودة مقارنة بنجمات الصف الأول؛ ولكن سواء على مستوى التمثيل أو الغناء، هناك اعتراف لدى المتخصِّصين والمتذوقِين أنها لم تكن تقل موهبة أو إمكانيات عن هؤلاء النجمات. لقد أحبها الجمهور، بالتأكيد، كمُغنية وممثلة، وإلا ما كانت حصلت على كل هذه الأدوار والأغنيات ولما استمرت مطلوبة ومقدَّرة حتى آخر حياتها. ولكن ذلك الحب لم يتحول إلى افتتان، أو إطلاق ألقاب، أو إضفاء هالة من الخيال. لم يَعبُر اسم هدى سلطان تلك المساحة الفاصلة بين الواقع والأسطورة التى يعيش فيها نجوم الصف الأول.. ذلك أنها بقيت دومًا ملتصقة بالأرضى واليومى. فى مئويتها تحتاج هدى سلطان إلى إعادة اعتبار كمُغنية وممثلة. مَن فى عصرها، مثلًا، كان يمكن أن يغنى الكلمات الآتية: «الشرط نور وأنا شارطة عليه.. من قبل كتابى عليه. أصل الكسل طبع الحلوين وأنا طالعة حلوة وكسلية. وقبل ما آخدك عشت سنين معرفش أطبخ ملوخية. ولا يوم غسلت صحون.. ولا حتى بَرّاد شاى. ولا أعرف الكَمُّون..بيغربلوه إزاى»! أو هذه الكلمات: «قلبى انشبك به بين المَشابك واللى بحبه خاطب وشابك.. سألت عنه الجميل مين شاغل باله.. قالوا دى بنت عَمه»! وبالطبع أغنيتاها الشهيرتان «إن كنت ناسى أفكرك» و«من بحرى وبنحبوه» وكثير من أغانيها الأخرى، تحمل كلمات اليومى والعامى، وفى معظم الأحيان، على الأقل فى أغانيها الأشهَر، ينطلق صوتها من موقع القوة والجرأة. الأمر نفسه نجده كممثلة. صحيح أنها لعبت دور الزوجة أو الحبيبة القانعة المظلومة فى عدة أفلام؛ ولكن الأدوار التى صنعت خصوصيتها هى المرأة القوية الجريئة. فى أول فيلم تلعب بطولته وهو «حكم القوى»، حسن الإمام، 1951، يفترض أن دورها ثانوى نمطى: مغنية المَلهى الليلى التى يخدعها الشرير، فريد شوقى، ويعدها بالزواج، لكنها تكتشف خداعه وتقرر أن توقع به. فى النصف الثانى من الفيلم تصبح هى الشخصية الرئيسية التى تحرك الأحداث، وتنقذ البطل البرىء، محسن سرحان، من حبل المشنقة. كانت هدى سلطان تخوض معركتها الخاصة فى ذلك الوقت، ضد إرادة عائلتها الريفية التى ترفض عملها بالفن وشقيقها النجم محمد فوزى الذى اعترض على عملها كممثلة، وزوجها الذى قام بتطليقها بسبب عملها بالسينما. أثناء تصوير «حكم القوى» وقع فى حبها فريد شوقى، وكان زواج الاثنين بداية نقلة كبيرة فى حياة كل منهما الفنية: بدأ فريد يلعب أدوار البطولة بداية من «الأسطى حسن»، الذى لعبت فيه هدى دور زوجته الطيبة، وكانت فترة تألق لها أيضًا؛ وبخاصة بعد دورها الفارق فى فيلم «امرأة فى الطريق»، إخراج عز الدين ذو الفقار، 1958. كثيرات لعبن شخصية «المرأة الفتاكة» femme fatale، القوية، الشهوانية، التى تدمر الرجال. للوهلة الأولى تبدو هدى سلطان بملامحها وتكوينها كنسخة من هند رستم، ولكن نظرة أقرب لأدائها للشخصية تبين أنها أكثر طبيعية وأقل اصطناعًا للإغراء أو التعبير عن الرغبة. ومثلما فى صوتها الغنائى، تبدو اللوعة والبحة الخشنة أكثر أرضية وشعبية. الغواية هنا أكثر خطرًا؛ لأنها أكثر واقعية. لا تمثل هدى سلطان شخصية المرأة الشعبية، ولكنها تعيشها ببساطة، ومَن يخشون هذه القوة البدائية التى توشك على الانفجار فى أى لحظة، بالتأكيد قد لا يحبون السلاطة التى تتبدى أحيانًا فى صوتها ولغة جسدها. فى «امرأة فى الطريق»، مثلما فى «شباب امرأة»، بأداء تحية كاريوكا، تمثل المرأة الغاوية مشكلة لكل الرجال، لا تستقر الحياة، فى تصورهم، إلا بالقضاء عليها. مع مرور الزمن اكتسبت هدى سلطان وأداؤها ثقة متزايدة، وأصبحت مؤهلة أيضًا للعب أدوار أكثر تنوعًا. يعثر يوسف شاهين على جانبها المصرى المميز، فيعطيها دور «بهية» (التى غالبًا ما يرمز بها إلى مصر) فى «الاختيار»، 1970، المراة التى يتجمع فى بيتها المثقفون، والتى نصفها أم ونصفها أنثى. لاحقًا سيوظفها فى دور عمرها، فى «عودة الابن الضال»، 1976، الأم والجدة المتسلطة، التى تُحرِّك الرجال كقطع الشطرنج؛ زوجها، وولديها، وتقامر بكل شىء من أجل الحفاظ على الأرض والثروة فى يد العائلة. فى العقدين الأخيرين من حياتها لعبت هدى سلطان شخصية الأم كثيرًا، ولكنها دائمًا ليست الأم التقليدية. حتى عندما أعادت لعب شخصية «أمينة» فى المسلسل المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ، أعطت للشخصية وعيًا وقوةً تختلف عن الضعف الذى جسّدت به آمال زايد الشخصية. فى «أرابيسك»، 1994، تلعب أيضًا دور أم حسن النعمان، صلاح السعدنى، وهى مُحبة وحنون؛ لكن قوية وقادرة على إخافة ابنها ونهره وقت اللزوم. وبينما تفعل هدى سلطان أى شىء، فى الغناء أو التمثيل؛ فإن لديها هذا التحكم المميز فى صوتها وملامح وجهها ولغة جسدها، دون مبالغة، أو افتعال.