بينما يقف العالم متفرجًا على مأساة تتكرر دون خجل لمشاهد إنسانية كارثية تتجاوز فيها المعاناة كل توصيف، أصبح الحديث عن إعادة الإعمار بعد الحرب معركة أخرى، تقف فيها طموحات مشاريع البناء، واسترداد الحق، والكرامة، والسيادة، فى وجه 4 مخططات غربية تُخفى تحت عباءة التنمية أطماعًا استعمارية جديدة. الخطة الأولى خطة «غزة 2035» التابعة لحكومة الاحتلال الإسرائيلى والتى تسعى لإعادة هيكلة القطاع بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية عبر إنشاء منطقة تجارة حرة كبيرة، تشمل «غزة» والاستحواذ على احتياطيات الغاز والنفط فى شرق البحر المتوسط وتحويل القطاع إلى مركز نقل إقليمى مرتبط بمشاريع اقتصادية إقليمية. الخطة الثانية خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة تعتمد على فكرة «نهج البناء، والتشغيل، ونقل الملكية» ، أو (BOT) الأمريكية، التى أعدها «جوزيف بيلزمان» بجامعة «جورج واشنطن» وقدمها لفريق عمل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوليو 2024، تقترح فرض إدارة مدنية تحت سيطرة مستثمرين أجانب يملكون حقوقًا اقتصادية فى «غزة»، عبر عقود إيجار طويلة الأمد، مع التركيز على خصخصة الخدمات العامة وتحويل الأصول الفلسطينية إلى أرباح خاصة، كما توصى بحفر «غزة» بالكامل لإزالة الأنفاق، ما يشير إلى نية تطهير عرقى. الخطة الثالثة هى خطة فريق مستقبل غزة، لمعهد الأمن القومى اليهودى وائتلاف «فاندنبرج» وهما مركزان أمريكيان من التيار المحافظ الداعم لإسرائيل، التى تطرح إدارة دولية لإعادة الإعمار عبر صندوق دولى، مع دور محدود جدًا للفلسطينيين، وفرض ترتيبات أمنية تحافظ على السيطرة الإسرائيلية. الخطة الرابعة خطة مسارات إلى سلام إسرائيلى-فلسطينى دائم والتى أعدتها مؤسسة «راند» الأمريكية، التى تعتمد إطارًا مشابهًا، عبر سلطة ائتلاف دولى تدير إعادة الإعمار والموارد، مع غياب تام للسيطرة الفلسطينية وتركيز على الأمن كآلية لضمان الاستقرار السياسى والاقتصادى وفق مصالح إسرائيل وحلفائها. الرأسمالية الكارثية تتفق المخططات الأربع على آليات رئيسية، بشكل عام تعزز مفهوم «الرأسمالية الكارثية»، عبر إنشاء هياكل حكم تهمش الفلسطينيين وتمنعهم من السيطرة على مستقبلهم السياسى والاقتصادى، إلى جانب عمليات استيلاء على الأراضى والموارد وتحويل إعادة الإعمار إلى مصدر ربح خاص للمستثمرين الأجانب، بالإضافة إلى فرض ترتيبات أمنية تضمن استمرار السيطرة السياسية والاقتصادية لإسرائيل وحلفائها على القطاع، عقب تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم لصالح التوسع الاستيطانى. منطقة تجارة علقت الباحثتان بمعهد «كارنيجى للسلام الدولى»، «نور عرفة، وماندى تيرنر» على الأربع مخططات بأنها تسعى لفرض إدارات دولية، لا تتضمن مؤسسات فلسطينية ذات سلطة حقيقية وتُنفذ ترتيبات أمنية تضمن السيطرة الإسرائيلية المستمرة، ما يقوض -تمامًا- حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم، ويفرض واقعًا جديدًا من التبعية الاقتصادية والسياسية. بشكل أكثر وضوحًا وفيما يخص -تحديدًا- الأراضى والموارد، فإن خطة (غزة 2035) الإسرائيلية، تستهدف استغلال احتياطيات الغاز الضخمة فى شرق المتوسط لمصلحتها فقط، وتحويل «غزة» إلى منطقة تجارة حرة بمساحة 141 ميلاً مربعًا، مرتبطة بمشاريع إقليمية كبيرة، ما يحول القطاع إلى مركز لعمليات رأس المال الإقليمى ويهمش الاقتصاد الفلسطينى المحلى. أما خطة «BOT» الأمريكية فتذهب أبعد من ذلك، إذ تفترض بيع الأراضى الفلسطينية للمستثمرين الأجانب عبر عقود إيجار طويلة تصل لأكثر من 50 عامًا، مع استثمار شامل فى البنية التحتية والاقتصاد الخاص وتحويل خدمات عامة إلى خدمات خاصة تحقق أرباحًا لمالكيها، وذلك بعد ضرورة إفراغ المكان حرفيًا وحفره من الصفر وبشكل عام يشترط المخططان ضرورة تهجير السكان الفلسطينيين -قبل أى شىء- من «غزة». إدارة دولية أما مخططا المعاهد الفكرية فلا يتطرقان بشكل مباشر إلى الاستيلاء الاقتصادى، لكنهما وضعا شروطًا إدارية قد تؤدى لذلك عبر طرحهما سيطرة إدارية لدول أخرى وبيروقراطيين، بدلاً من مؤسسات فلسطينية محلية مسئولة أمام الشعب. وفيما يخص الجانب الأمنى، فتؤكد المخططات الأربع على استمرار هيمنة إسرائيل واستخدامها لقواتها العسكرية، إلى جانب فرض بعض الترتيبات الأمنية متعددة الجنسيات، تضمن بقاء الفلسطينيين -إن وجدوا- تحت سيطرة صارمة وتعيق أية محاولات للحراك السياسى أو الاستقلال الاقتصادى. مصر تتمسك بغزة وفى مقابل المخططات الغربية والإسرائيلية، جاءت المبادرة المصرية كصوت عاقل فى زمن الغطرسة وكفعل مسئول يعكس تاريخًا من المواقف المصرية الراسخة تجاه القضية الفلسطينية، فخطة إعادة إعمار «غزة» المصرية لا تقتصر فقط على عمليات البناء وإعادة الترميم بل تمثل نموذجًا عمليًا للتضامن العربى والدولى، استراتيجية متكاملة تهدف إلى استعادة الحياة الطبيعية لسكان «غزة» وتحقيق التنمية المستدامة فى القطاع. النازحون ضمن المحور الأول من الخطة، وضعت «مصر» أولوية عاجلة لتوفير سكن مؤقت للنازحين، إدراكًا منها لخطورة الوضع الإنسانى الذى يعيشه أكثر من 1.5 مليون فلسطينى بلا مأوى.. حيث تشمل الخطة إقامة 7 مواقع سكنية مؤقتة يتم فيها تسكين النازحين فى وحدات سكنية «حاويات» تستوعب كل منها نحو 6 أفراد. وُزعت هذه المواقع لتغطى مختلف مناطق القطاع، مثل «رفح الفلسطينية بعدد 213 ألف شخص، خان يونس 223 ألف شخص، دير البلح 184 ألف شخص، غزة 353 ألف شخص فى موقع واحد، 176 ألفًا آخرين فى موقعين إضافيين، شمال غزة 197 ألف شخص» ولا تعد هذه الخطوة ملاذًا آمنًا للنازحين فحسب، بل تضع الأساس لبناء مجتمعات مؤقتة منظمة، إلى حين اكتمال مراحل الإعمار الدائم. التعافى والإعمار يتميز المخطط المصرى بالوضوح والدقة فى تحديد المدى الزمنى، حيث يقسم الخطة إلى 3 مراحل رئيسية كالتالى: 1 -مرحلة التعافى المبكر ومدتها 6 أشهر بتكلفة 3 مليارات دولار، تشمل كلاً من إزالة الركام من المحور المركزى «محور صلاح الدين وباقى المناطق المتضررة وتهيئة المحاور الحيوية لأعمال الإعمار، كما سيتم خلالها توفير 200 ألف وحدة سكن مؤقت لتسكين نحو 1.2 مليون فرد، إضافة إلى ترميم 60 ألف وحدة مدمرة جزئيًا، بهدف إعادة تأهيلها لاستيعاب 360 ألف شخص. 2 - مرحلة إعادة الإعمار مدتها عامان بتكلفة 20 مليار دولار تتضمن الانتهاء من إزالة الركام وترميم الوحدات السكنية جزئيًا، بناء 200 ألف وحدة سكنية دائمة تستوعب 1.6 مليون نسمة، تشمل هذه المرحلة استصلاح 20 ألف فدان من الأراضى الزراعية، إنشاء مرافق البنية التحتية الأساسية من محطات تحلية، معالجة مياه الصرف وشبكات كهرباء واتصالات. 3 - مرحلة إعادة الإعمار مدتها سنتان ونصف بتكلفة 30 مليار دولار، تسعى لاستكمال البنية التحتية وإنشاء 200 ألف وحدة سكنية دائمة إضافية ليرتفع إجمال الوحدات الدائمة إلى 460 ألفًا قادرة على استيعاب نحو 3 ملايين نسمة سيتم خلالها البدء فى إنشاء منطقة صناعية على مساحة 600 فدان وميناء للصيد البحرى وميناء تجارى ومطار «غزة»، بالإضافة إلى تطوير الواجهة الساحلية. فروق جوهرية الفرق الجوهرى بين الخطة المصرية والمخططات الغربية لإعادة إعمار «غزة»، هو أن الخطة المصرية تركز -فى الأساس- الحفاظ على السيادة الفلسطينية وحقوق السكان ،بينما تسعى المخططات الغربية لتعزيز السيطرة الإسرائيلية والأجنبية على الأراضى الفلسطينية والموارد، مع استبعاد سكانها. يمكن رصد أبرز الفروق بين المخططين فى عدد من النقاط، أهمها: السيادة والحوكمة تسعى المخططات الغربية،لإلغاء السيادة الفلسطينية، لخلق هياكل حكم دولية لا تشمل الفلسطينيين بشكل حقيقى، كما تهدف إلى أن تتم العمليات السياسية والإدارية عبر إشراف دولى مع فرض سلطة أمنية إسرائيلية، ما يحد من تأثير الفلسطينيين على حياتهم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. أما الخطة المصرية فتدعم السيادة الفلسطينية، ووجود سلطة فلسطينية شرعية فى «غزة» وتشجع فرص إصلاح الوحدة الفلسطينية الداخلية بالتوازى مع التعاون الإقليمى والدولى إلى جانب تشجيعها لوجود هيئات فلسطينية محلية، تحت إشراف السلطة الوطنية الفلسطينية، ما يسمح للمجتمع الفلسطينى بالمشاركة فى اتخاذ القرارات التى تخص مصيرهم. الفلسطينيون المخططات الغربية تهدف لتهميش واستبعاد الفلسطينيين بشكل غير مباشر من عملية إعادة الإعمار واستبعادهم من أى دور أساسى، مع اقتصار مشاركتهم على تمثيل موثوق تحت إشراف خارجى؛ فيما تشدد بعض المخططات على مراقبة من قبل جهات أجنبية -تحديدًا إسرائيل والولايات المتحدة- ضمن شروط قاسية فى حال حدثت مشاركة فلسطينية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فتضمن مخططان من الأربعة -الإسرائيلى و(BOT)- خطة غير مباشرة لتفريغ «غزة» من سكانها، عن طريق التهجير القسرى، خاصة الأمريكى الذى يرغب فى إعادة بناء غزة من الصفر، ما يفتح المجال لتغيير التركيبة السكانية فى المنطقة. أما المخطط المصرى فرفض -تمامًا- التطهير السكانى وأى سياسة من شأنها إخلاء «غزة» من سكانها، إذ يحترم المخطط حق الفلسطينيين فى العودة لأراضيهم وإعادة إعمارها، مع الحفاظ على حقوقهم السكانية والاجتماعية؛ فضلًا عن تشجيع العودة الآمنة للفلسطينيين إلى بيوتهم وحفظ حقوقهم فى إطار منظمات الأممالمتحدة. كما يؤكد المخطط على شمولية المشاركة الفلسطينية ومشاركة كل الفصائل الفلسطينية، المجتمع المدنى والمؤسسات الأكاديمية لضمان انطلاق العملية من احتياجات المجتمع المحلى؛ مشددة -أيضًا- على ضرورة مشاركة الفلسطينيين فى كل مراحل إعادة الإعمار من التخطيط إلى التنفيذ، مع ضمان تمثيل حقيقى لجميع الفئات من (النساء، الشباب، الأحياء المحرومة). الأراضى والموارد بالنسبة للمخططات الغربية، فمن الواضح أنها تسعى للاستيلاء على الموارد الطبيعية، مثل: الغاز والنفط.. فعلى سبيل المثال، تستهدف (Gaza 2035) الغاز الطبيعى فى البحر المتوسط، وتضع خططًا لاحتكار هذا المورد؛ فضلًا عن رغبة المخططات الأربع لتحويل «غزة» إلى مجرد منطقة اقتصادية يمكن للمستثمرين الأجانب السيطرة عليها ودعم الاحتلال الإسرائيلى بالعوائد. أما الخطة المصرية، فركزت على حماية الموارد فى «غزة» لصالح الشعب الفلسطينى، تجنب تحويلها لمصدر ربح خارجى؛ كما تشجع الخطة على استثمار هذه الموارد بشكل يعزز الاقتصاد الفلسطينى، ويعطى الأولوية للاحتياجات الفلسطينية؛ تهدف الخطة لتطوير البنية التحتية الحيوية فى «غزة» دون السماح بتحويلها إلى ملكية خاصة للمستثمرين الأجانب، مما يضمن استفادة الفلسطينيين من الموارد الطبيعية بشكل عادل ومستدام. الأمن والسيطرة واضح من المخططات الغربية، أنها تؤكد على الأمن الإسرائيلى المطلق وأن يظل الاحتلال الإسرائيلى هو القوة الأمنية الرئيسية فى «غزة» بعد إعادة الإعمار؛ فيما أشارت بعض المخططات لإبقاء قوات متعددة الجنسيات أو قوات إسرائيلية تحت مسمى «قوات حفظ الأمن». أما الخطة المصرية فأكدت على ضرورة ضمان الاستقرار الأمنى، وأهمية إشراك الأمن الفلسطينى فى جميع عمليات إعادة الإعمار، والتعاون مع السلطة الفلسطينية، لضمان عدم الهيمنة العسكرية الخارجية. 2