فى موقف لافت أصدرت وزارة الأوقاف المصرية بيانًا بمناسبة مرور أكثر من قرنين على اكتشاف (حجر رشيد) فى 19 يوليو 1799، ما أثار تفاعلًا إيجابيًا واسعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعى. مزج البيان ببراعة بين الإشادة بالحضارة المصرية القديمة، والربط الواعى بقيم الإسلام الداعية للعلم والتنوع وحفظ الهوية، ليقدم نموذجًا لخطاب دينى وطنى مستنير. خطاب مُستنير ما قدمته وزارة الأوقاف لم يكن مجرد احتفاء أثرى، بل اعتُبر نموذجًا حيًا لخطاب دينى وطنى مستنير يربط الماضى بالمستقبل، ويثبت أن الإسلام الحقيقى لا يناقض الهوية، بل يعمقها ويثريها. وقد جاء البيان بلغة رصينة، بعيدًا عن الشعاراتية أو الخطاب الدينى التقليدى الجامد، ليقدم رؤية معاصرة للدين تعكس فهمًا عميقًا للصلة بين الإيمان والهوية، وبين الانتماء الحضارى والدعوة إلى العلم والمعرفة. فى الوقت الذى يُستخدم فيه الدين أحيانًا لتكريس الانغلاق أو التجريح فى التراث الإنسانى، خرجت وزارة الأوقاف بخطاب ينظر إلى حجر رشيد بوصفه رمزًا للانفتاح والتعدد والنهضة العلمية المبكرة، مستشهدة بقيم الإسلام التى تحث على التفكر والتعلم و«السياحة فى الأرض». تفاعل ودعم جماهيرى مع نشر البيان عبر الصفحات الرسمية للوزارة، تزايدت التعليقات الداعمة والمشجعة من المواطنين والنشطاء المهتمين بالشأن الدينى والثقافى. اعتبر كثيرون أن هذا الخطاب «يمثل الوجه الحقيقى للإسلام الوسطى الذى يتكامل مع الهوية المصرية»، خاصة مع رسائل واضحة مثل: «الإسلام يدعو إلى حفظ الكيان الحضارى للأمة»، و«الوعى بالتاريخ واللغة جزء أصيل من الرسالة الدينية والوطنية»، و«حق مصر فى استعادة آثارها». وقد أشاد عدد من المعلقين ب«اللغة الراقية» و«المضمون العميق» للبيان، مطالبين بمزيد من مثل هذه الرسائل التى تربط الدين بالعلم والهوية والثقافة بشكل إيجابى. ومن خلال التفاعل الشعبى على السوشيال ميديا، تأكد أن الجمهور متعطش لخطاب دينى راقٍ يعبر عن حضارة ضاربة فى الجذور، ويقدم الإسلام فى صورته السمحة الراقية. رسائل ضمنية لم يكتفِ بيان وزارة الأوقاف بإحياء ذكرى الاكتشاف الأثرى الشهير، بل تضمن رسائل استراتيجية مهمة، أبرزها: الإسلام ليس ضد الحضارات، بل يؤمن بتراكمها وبالاعتبار بتاريخ الأمم. الهوية المصرية لا تتعارض مع الدين، بل تتكامل معه. الدعوة إلى استرداد حجر رشيد جاءت بصيغة عقلانية حقوقية، تُعزز الحس الوطنى والوعى بقضايا السيادة الثقافية. يأتى البيان، وإن بدا للوهلة الأولى ثقافيًا رمزيًا، فى سياق بالغ الأهمية، إذ يشهد الخطاب الدينى على السوشيال ميديا فوضى فى الفتاوى والتوجهات، بينما تسعى مؤسسات رسمية كوزارة الأوقاف لإعادة ضبط البوصلة نحو الاعتدال والارتباط بالواقع. كما يسهم فى مواجهة سرديات الجماعات المتطرفة التى ترفض الحضارات الأخرى، أو تنزع عن الإسلام أبعاده الثقافية والتاريخية. تجديد الخطاب الدينى من جانبه، صرح الدكتور أسامة رسلان، المتحدث الرسمى ومدير عام المكتب الإعلامى بوزارة الأوقاف، ل«روز اليوسف»، بأنه تابع ب«مزيد من الإعجاب والارتياح الحفاوة التى استقبل بها جموع القراء بيان الوزارة يوم 19 يوليو 2025 بشأن الذكرى السنوية لاكتشاف حجر رشيد». وأشار إلى أن البيان لاقى استحسانًا خاصًا من فئات الشباب والمفكرين والمؤثرين، حتى اعتبره بعضهم شكلًا من أشكال تجديد الخطاب الدينى، فيما اعتبره آخرون تحولًا فى الخطاب الدينى الصادر عن مؤسسة دينية رسمية. وأوضح الدكتور رسلان أن البيان قرر حقائق هى فى حقيقتها رسائل صريحة وضمنية، بمنطق «تعددت الرسائل والحجر واحد»، ومن أبرزها: أولًا: شمولية الخطاب الدينى فالمناسبات المحتفى بها ليست دينية فحسب، فلولا الوطن المستقر لما استقام الدين. ثانيًا: استرداد حقوق الوطن. الوزارة والخطاب الدينى حريصان على استرداد حقوق الوطن، وهو مطلب له تأصيل شرعى فى نفوس المصريين. ثالثًا: الربط بين التاريخ والقيم الدينية، تأكيد أن مصر لم تنفك يومًا عن روح الوحى السماوى. رابعًا: محورية الحضارة المصرية. واجبنا جميعًا حماية هذا التاريخ ومقاومة أى استئثار بطبقة دون سواها. خامسًا: العلم واجب، الحكمة ضالة المؤمن، وعلينا إنتاج صنوها اليوم فى صورة علوم فى شتى التخصصات. سادسًا: التعاون على البر والتقوى، اليد المصرية الممدودة بحفظ التراث وإهدائه للعالم يلزم أن تسندها اليد الأخرى بجهد أبناء العصر. سابعًا: رفض المساس بالحضارة المصرية، وهذا مبعث فخر فى التكوين الحضارى للشخصية المصرية التى تتمتع بالسماحة والانفتاح، وحمل رسالة كونية عنوانها العلم والسلام. ثامنًا: حماية الارتباط بالوطن، أى مساس بارتباط المصرى بوطنه يبدأ من تحقير تاريخه وتسفيه حضارته. ثم ينفصم ارتباطه الفطرى ببلده، ليشابه حال نبات الإيكهورنيا (أو ورد النيل كما نعرفه فى مصر؛ فرع بلا جذر!). فيصبح مأزوم النفس، مهزوم الخاطر، تائه البصيرة، منفلت البوصلة. وهذا ما لا يرضاه دين ولا يؤيده عقل ولا يُطمَأن به لحاضر ولا يُرتجى به مستقبل. تاسعًا: تلاقى دوائر الانتماء. إن دوائر الانتماء تتلاقى ولا تتنافى. ولكل مصرى أن يتيه فخرًا بطبقات الحضارة الأصيلة فيه- روحًا ومبنى، ولفظًا ومعنى. فبهذا الفهم نرتفع فوق كل استهداف يراد به النيل من قيمة حضارتنا، التى لولا تراكمها ما نلنا فضيلة، ولا عُرِفَت لنا أسبقية، ولا اختصّنا النبى (صلى الله عليه وسلم) بوصية. عاشرًا: لا يضيع حق وراءه مطالب. حق لنا أن نقيم مقارنة منصفة بين من قوى فوهب، وبين من قوى فنهب. الدين والتاريخ من جهته، أكد الدكتور عبد الحميد متولى، رئيس المجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية بأمريكا اللاتينية والكاريبى، ل«روز اليوسف»، أن بيان وزارة الأوقاف المصرية يُعد «خطوة شديدة الذكاء فى توجيه الخطاب الدينى نحو فضاءات أوسع وأكثر اتصالًا بالهوية الثقافية والتاريخية للمجتمع». وأضاف: إن الوزارة قدمت من خلال هذا البيان نموذجًا عمليًا للربط الواعى بين الدين والتاريخ، وبين النص والمقصد، وبين الثوابت الشرعية والرموز الوطنية، وهو ما «نحتاجه بشدة فى عالم يتزايد فيه اغتراب الشباب عن هويتهم الحضارية». وأوضح متولى أن البيان لم يكن مجرد مناسبة للاحتفاء بحدث أثرى، بل كان توظيفًا ذكيًا لمعنى الهوية، ومناسبة لإحياء قيم العلم والمعرفة والانفتاح، التى لا تتعارض مطلقًا مع جوهر الإسلام. بل إن الرسالة الضمنية التى حملها البيان هى أن الدين يدعو إلى صون الذاكرة، والاعتزاز بالتاريخ، والتفاعل مع كل ما يعيد تشكيل الوعى الحضارى. وأشار متولى إلى حجم التفاعل الإيجابى مع البيان عبر صفحات التواصل الاجتماعى، لا سيما من الشباب الذين وجدوا فيه صوتًا معاصرًا للخطاب الدينى. كما لمس، فى أوساط الجاليات الإسلامية بالخارج، تأثير هذا البيان فى إعادة الاعتبار لصورة الإسلام الحضارى لدى الأجيال الجديدة من أبناء المهجر. وشدد متولى على «الحاجة الماسة إلى مثل هذه المبادرات، التى تعيد بناء الثقة بين الشباب والخطاب الدينى، وتؤكد أن المؤسسات الدينية قادرة على مواكبة العصر، دون التفريط فى الثوابت». 2