على أنقاض مدينة رفح جنوب قطاع غزة، تمضى دولة الاحتلال الإسرائيلى فى الترويج لمخطط جديد للتهجير القسرى لأهالى القطاع، عبر تشييد ما تسميه مدينة «الإنسانية». المخطط يهدف عمليا لتهجير 600 ألف إلى 700 ألف من سكان القطاع فى المرحلة الأولى، بين محور فيلادلفيا الحدودى مع مصر ومحور موراج بين خان يونس ورفح. ووفقا للمخطط، فإن «المدينة الإنسانية» من المنتظر أن تضم جميع سكان القطاع والبالغ عددهم مليونين و100 ألف فى مساحة رفح التى لا تتجازر 64 كيلومترا مربعا. من النكبة إلى «غيتو رفح» منذ النكبة الكبرى عام 1948، ظل التهجير القسرى واحدًا من الأعمدة المؤسسة للمشروع الصهيونى. اليوم، يعيد التاريخ نفسه، لكن بآليات أقل فجاجة وأكثر احترافًا. كشفت وثائق استخباراتية إسرائيلية مسربة، نقلتها صحيفتا «هآرتس» و«الجارديان»، عن خطة ثلاثية المراحل يتم بموجبها: تفريغ شمال غزة من سكانه بالكامل، ثم تحويل رفح إلى منطقة احتواء أمنية، تمهيدًا للمرحلة الأشد خطورة: التسهيل «الطوعي» لخروج الفلسطينيين إلى دول الجوار. ورغم استخدام مفردات إنسانية مثل «منطقة آمنة» و«إيواء مؤقت»، فإن الواقع يكشف أن الأمر لا يعدو كونه هندسة سكانية موجهة، تستند إلى ضغط معيشى وتجويع ممنهج، يسحب آخر ما تبقى من قدرة الفلسطينيين على الصمود. يقول مراد حرفوش، الكاتب والباحث السياسى الفلسطيني، ل«روزاليوسف» إن هذه «المدينة الإنسانية» هى مجرد اسم، لكن فى حقيقتها هى عبارة عن مشروع تهجير، وسجن ومعتقل كبير لنحو 600 ألف فلسطيني، لوضعهم فى «غيتوهات»، وهى مقدمة لترحيلهم إلى خارج القطاع. وأشار إلى أن هذه الخطة واجهت صعوبات ميدانية تعرقل تنفيذها، باعتراف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى الرفض العارم من دول العالم والمؤسسات الدولية. معسكر مغلف بالرايات البيضاء كشفت تقارير لمنظمات دولية، مثل «هيومن رايتس ووتش» و«مجموعة الأزمات الدولية»، أن ما يُبنى قرب خان يونس ليس ملجأ، بل منشأة أمنية محاطة بجدران إلكترونية ونقاط تفتيش، تُدار بكاميرات مراقبة وتشرف عليها وحدات من الجيش الإسرائيلى. ووصف أحد باحثى مركز كارنيغى المشروع صراحة بأنه «حظيرة بشرية»، تدفع إليها العائلات الجائعة والنازحة تحت وقع القصف. ويقول الدكتور صلاح عبدالعاطي، مدير الهيئة المستقلة لدعم الشعب الفلسطيني، إن «المدينة الإنسانية ليست سوى معسكر اعتقال موسع، هدفه فصل المدنيين عن المقاومة ثم دفعهم للهجرة عبر مراحل متعددة تحت عنوان النجاة». ويضيف ل«روزاليوسف»: «إسرائيل تستخدم التجويع كوسيلة ضغط، والمدينة الإنسانية مجرد غلاف ناعم لخطة تهجير قسرى منظمة». الإغاثة أداة تهجير تتظاهر واشنطن بتبنى خطاب «الحياد الإنساني»، بينما تكشف الوثائق والتحقيقات عن تورط مباشر فى تمويل المشروع. ففى تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، وردت إشارات إلى تمويل أمريكى لوجستى للموقع تحت بند «المساعدات العاجلة». واعتبر السفير الأمريكى الأسبق فى تل أبيب، دانيال كيرتزر، أن الولاياتالمتحدة «تغض الطرف عن مشروع التهجير حفاظًا على حكومة نتنياهو ومنعًا لانهيارها». المبعوث الأمريكى الخاص، ديفيد ويتكوف، لم يكن أقل وضوحًا، فخلال لقائه بمسئولين إسرائيليين، اكتفى بالقول إن واشنطن «تثمن الجهود لتأمين المدنيين»، دون الإشارة إلى رفض واضح للمخطط. بل ذهب أبعد حين قال إن «التركيبة السكانية فى غزة لم تعد قابلة للاستمرار»، ما فُهم ك«تفويض ضمني» لإسرائيل بترتيب تهجير ناعم. فى حديثه ل«روزاليوسف»، قال اللواء حابس الشروف، مدير معهد فلسطين للأمن القومي، إن «ازدواجية المعايير ليست جديدة على المجتمع الأوروبى والولاياتالمتحدة»، موضحًا أن أى قضية تتعلق بإسرائيل تبدأ التبريرات لإعطاء شرعية لأفعال قوات الاحتلال غير الشرعية، وهو الأمر الذى يقوض القانون الدولى ومصداقية المواثيق الدولية. وأضاف الشروف: «فى فلسطين الأمر يختلف والمعايير تختلف وحتى المواقف تختلف.. وتبدأ عقد معاداة السامية فى الظهور دون الوقوف على المذابح المستمرة ضد الشعب الفلسطيني». نتنياهو: اللعب على حبال الداخل والخارج فى الداخل الإسرائيلي، يستخدم بنيامين نتنياهو مشروع رفح كأداة للمناورة السياسية. فبحسب تسريبات صحيفة «معاريف»، فإن نتنياهو أبلغ وزراء حكومته أن «استمرار العمليات دون بديل مدنى منضبط يمثل خطرًا على تماسك الائتلاف»، معتبرًا أن المشروع يوفر «غطاءً ضروريًا» لتأجيل الانهيار. اعتبر المعلق الإسرائيلى باراك رافيد أن نتنياهو «يقدم المشروع لأمريكا كمبادرة إنسانية، ولليمين الإسرائيلى كخطوة نحو طرد سكان غزة». بذلك، يتحول المشروع إلى ورقة مزدوجة تُستثمر فى السياسة أكثر مما تخدم الإنسانية. جريمة حرب من رام الله، يقول الدكتور رمزى عودة، خبير الشئون الإسرائيلية، إن المشروع يهدف بالأساس إلى «تفريغ الشمال بالكامل واستبداله بمستوطنات جديدة أو مناطق عازلة». ويضيف: «ما يحدث ليس إغاثة، بل جريمة نقل قسرى ترتقى إلى جريمة حرب. هناك محاولة لدفع سكان الشمال للاختفاء من الخارطة السياسية والديموغرافية لغزة». أما اللواء حابس الشروف، فيصف المخطط بأنه «سجن كبير له أربعة مداخل، تتحكم به قوى دولية». ويؤكد أن الجيش الإسرائيلى نفسه متردد حول كلفة المشروع، بينما الحكومة تدفع باتجاه التنفيذ السريع، ضمن استراتيجية تهجير مدعومة أمريكيًا. ازدواجية صارخة فى مقارنة صارخة بين الموقف الدولى تجاه أوكرانيا والموقف من غزة، يقول اللواء الشروف: «عندما تكون الضحية أوكرانية، يتحرك العالم لإنقاذها. لكن حين تكون فلسطينية، تُمنح إسرائيل الشرعية وتُشيد المعسكرات باسم الإنسانية». ويضيف مراد حرفوش، الكاتب والباحث السياسي: «أمريكا ليست وسيطًا، بل شريك كامل فى مشروع التهجير. المؤسسة الإغاثية الأمريكية نفسها أصبحت بديلًا للمنظمات الدولية، وتُدار بحماية من الجيش الإسرائيلى لقتل من يقترب من المساعدات». حائط صد بينما تتراجع المواقف الغربية، حافظت القاهرة على موقف صلب ضد التهجير، ورفضت تحمل تبعات تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، معتبرة أن «المدينة الإنسانية» «خدعة كبرى». مصر، كما يقول الدكتور عبد العاطي، شكلت «حائط صد» فى وجه المخطط، وطرحت خطة إعمار تحولت إلى خارطة طريق عربية. أما قطر، فاستضافت جولات تفاوض كثيرة، وتسعى للضغط على حماس باتجاه هدنة تحفظ أرواح المدنيين، وتمنع ترسيخ الواقع الجديد المفروض بقوة الاحتلال. شريك بالصمت وصفت منظمة العفو الدولية مشروع «المدينة اللاإنسانية» بأنه «ابتكار استيطانى معكوس»، بينما اعتبر مرصد جنيف أن ما يحدث فى رفح «ينتهك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة». ومع ذلك، لم تصدر الأممالمتحدة موقفًا واضحًا، ولم تتحرك أوروبا سوى بتصريحات مترددة.، ليكونا شريكين بالصمت مع المخططات الإسرائيلية. يقول الدكتور رمزى عودة إن «المدينة الإنسانية تعيد إنتاج نكبة 1948، بصياغات جديدة تحاول اختراق القانون الدولى من داخله». أما مراد حرفوش، فيرى أن إسرائيل تسعى عبر المشروع إلى «كسر إرادة الصمود الفلسطيني»، لكن التجربة التاريخية تؤكد أن الشعب الفلسطينى يُفشل كل مشاريع الإلغاء بالثبات على الأرض.
فى الأخير، يبدو أن «المدينة الإنسانية» ليست سوى وجه آخر ل«الاعتقال الجماعي»، حيث تتحول المساعدات إلى فخ، والإغاثة إلى وسيلة تهجير، والسكوت الدولى إلى غطاء للجرائم. وبينما ينام العالم على وسادة التصريحات الفارغة، تتآكل غزة، جغرافيًا وديموغرافيًا، ويُدفع أهلها إلى هاوية النسيان القسرى. 2 3 4 5