ما كنا نراه فى الإعلام الغربى عن دول العالم الثالث يحدث الآن فى قلب لوس أنجلوس، مدرعات تجتاح الشوارع، وقوات خاصة بأسلحتها تحاصر كل زاوية، ورش الغاز المسيل للدموع والدماء تتطاير، والهواتف المكسورة تغطى الأرصفة، المظاهرات تتسع والسلطات تدفع بالحرس الوطنى فى لوس أنجلوس لتفريق الحشود. عانت لوس أنجلوس فى الأيام الماضية من الاشتباكات العنيفة مع الشرطة بسبب المزيد من المداهمات لإلقاء القبض على المهاجرين غير الشرعيين فى المدينة، الذين رفع بعضهم الأعلام المكسيكية. وعلى بُعد أمتارٍ من السجن الفيدرالى الذى يضمّ فى المقام الأول مئات المعتقلين الذين ينتظرون المحاكمة تجمعت مجموعة من المحتجين للدفاع عن حقوق المهاجرين والتنديد بوجود الحرس الوطنى لقمع المتظاهرين. تسعة أسئلة تسعة أسئلة طرحتها الرسامة والمصورة الأمريكية باربرا كروجر حول «من له حرية الاختيار؟» «من يتكلم؟» «من صامت؟» أُعيد تعليق جدارية بدون عنوان (أسئلة) هذه الجدارية التى كتبتها كروجر عام 2018 فى خضمّ التوترات السياسية والنقاشات حول العدالة الاجتماعية، على الواجهة الخارجية لمتحف الفن المعاصر بلوس أنجلوس الوطنى، بالألوان الأحمر والأبيض والأزرق - ألوان العلم الأمريكى حثّت من خلالها مواطنيها، كما أوضحت آنذاك، على تحمّل المسئولية الفردية فى مواجهة تدهور الديمقراطية فى عهد دونالد ترامب، وقالت: «من المحزن والمؤسف أن هذه الأسئلة لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم»! الحرس الوطنى نشر القوات كان قرارًا مثيرًا للجدل واعتبر رد فعل مبالغًا فيه مستفزًا ومدروسًا، مشكوكًا فيه قانونيًا، وعواقبه غير متوقعة هذا يلخص استخدام دونالد ترامب للحرس الوطنى ونزول الدبابات والاسلحة الثقيلة، ردًّا على مشاهد عنف محلى واسع النطاق اندلع فى مدينتين بمنطقة لوس أنجلوس الكبرى، بكاليفورنيا، الذى يسمح للرئيس بتجاوز الحاكم الديمقراطى جافين نيوسوم، من خلال نشر أول 300 جندى لحماية المبانى الفيدرالية استباقيًّا. وبعد وصول المتظاهرين وقبل بدء المحاكمات بساعاتٍ قليلة، تمركز ثلاثون جنديًّا أمام السجن، يرتدون بزاتٍ قتاليةً، وخوذات، ومدافع رشاشة فى أيديهم. لماذا هذا الاستعراض للقوة فى حين أن المتظاهرين الذين تجمعوا هنا يُحصون على أصابع اليد الواحدة، وتفوقهم كاميرات الصحفيين عددًا. استمر المتظاهرون فى التجمع فى منطقة وسط المدينة للتنديد بالزيادة الأخيرة فى مداهمات الهجرة بالتزامن مع الحظر الذى فرضه ترامب على مواطنين من 12 دولة تم الاعلان عن تجمع غير قانونى فى وسط مدينة لوس أنجلوس. ووصف البيت الأبيض الاحتجاجات ضد ترحيل المهاجرين غير الشرعيين بأنها أعمال شغب يقودها متمردون يرفعون أعلام المكسيك ويحرقون سيارات الشرطة فى وضح النهار. السلطات بكاليفورنيا تصفها ب«مظاهرات سلمية»، بينما الحقيقة أن ما يجرى هو حرب أهلية تتفجر فى شوارع كاليفورنيا. المسيرات، كانت سلمية فى البداية، ثم تخللتها بعض الاشتباكات، فى المدينة وعلى الطريق السريع 101 فى جو من التوتر المتزايد. ثم تخللتها بعض الاشتباكات، فى المدينة ترسخت الرواية التى سعى البيت الأبيض إلى تحقيقها: النظام الفيدرالى فى مواجهة الفوضى، ومطاردة المهاجرين غير الشرعيين تُحبط من قِبَل مسئولين ديمقراطيين منتخبين متراخين ومثيرى شغب متطرفين. ولخّص دونالد ترامب الأمر قائلًا: «هم يبصقون، ونحن نضرب». كانت هذه العبارة اللاذعة تهدف إلى التعبير عن الشدة. كما أنها تُلمّح إلى مدى المبالغة فى التهديد الحقيقى على الرغم من الصور المذهلة لسيارات الأجرة ذاتية القيادة من شركة وايمو وهى تُحرق وتُغطى بالنيران. بدأت الاحتجاجات بإلقاء البيض على بعض عناصر الشرطة ثم زجاجات على السيارات بالتزامن مع زيادة أعداد المحتجين بصورة تنذر بانفجار وشيك مما دفع السلطات للاستعانة ب2000 من عناصر الحرس الوطنى لتفريق الحشود مع النتهديد بنزول الدبابات وبدء حرب شوارع. وبدأ المتظاهرون بالتحرك جنوبًا نحو منطقة لوس أنجلوس لايف، وأغلقوا جميع مسارات المرور فى شارعى فيجيروا والحادى عشر، وفقًا لشرطة لوس أنجلوس. سر العداء خلال فترة ولاية الرئيس ترامب الأولى، رفعت كاليفورنيا أكثر من 120 دعوى قضائية ضد إدارته، متحدية السياسات المتعلقة بالهجرة واللوائح البيئية والرعاية الصحية، وفازت بما يقرب من ثلثى هذه القضايا، مما شكل سابقة لاستراتيجياتها القانونية الحالية. وخلال حملته الرئاسية الثانية، اتهم ترامب الديمقراطيين بتدمير كاليفورنيا وجعل سان فرانسيسكو مدينة غير صالحة للعيش، كما أدعى أن سياسة الولاية «المجنونة» تسببت بارتفاع التضخم والضرائب وأسعار الغاز وأعداد المهاجرين غير النظاميين. وبعيدا عن المسار القضائى، لا يبقى إلا مسار الثورة والانفصال باستخدام القوة من الناحية الاقتصادية، يمكن لكاليفورنيا أن تكون ولاية غنية ناجحة مستقلة، فى حين أنه سيكون ضارا جدا للولايات المتحدة أن تخسر كاليفورنيا. وتأتى السياسات البيئية والمناخية على رأس القضايا الخلافية، فلطالما دافعت كاليفورنيا عن مبادرات المناخ، وهو ما يتعارض جذريا مع موقف إدارة ترامب، كما برزت مؤخرا خلافات حادة حول التجارة والتعريفات الجمركية إثر فرض تعريفات واسعة النطاق بشكل كبير، بما يؤثر سلبا على اقتصاد الولاية. وتعد «سياسات الهجرة» من القضايا الساخنة فى مواجهة الطرفين، حيث توفر قوانين الولاية فرص اقامة لملايين المهاجرين غير النظاميين، فى الوقت الذى تضغط فيه إدارة ترامب كى تتعاون شرطة الولاية مع سلطات الهجرة بالتشديد وتطبيق القوانين. ويملك ترامب القدرة على قطع الأموال للبرامج المهمة للولاية، بهدف الضغط من أجل إجراء تغييرات فى السياسة المحلية بكاليفورنيا، بما يسهم فى دعم التيارات المحافظة والجمهورية بها. حتى أثناء أزمة حرائق الغابات المروعة التى عصفت بالولاية نهاية العالم الماضى وبداية العام الحالى، هاجم ترامب حكام الولاية الديمقراطيين بدلا من تقديم الدعم، وألقى باللوم عليهم فى اندلاع الحرائق. لماذا كاليفورنيا؟ تعد هذه الولاية صاحبة رابع أكبر اقتصاد عالمى، إذ بلغ ناتجها المحلى الإجمالى العام الماضى ما يقرب من 4.1 تريليونات دولار، ويأتى ترتيبها بعد كل من الولاياتالمتحدةوالصين وألمانيا، وقبل بقية اقتصادات العالم بما فيها دول ضخمة مثل الهند واليابان وبريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا والبرازيل. ويقترب عدد سكان الولاية من 40 مليون نسمة، مما يعكس تنوعا سكانيا فريدا، وتمتلك اقتصادا قويا ومتنوعا يشمل الصناعات الرئيسية كالتكنولوجيا والترفيهية والزراعية والتصنيعية. يُذكر أن كاليفورنيا موطن «وادى السيليكون» مركز الإبداع التكنولوجى الأمريكى، بالإضافة إلى أنها توفر نسبة ضخمة من الإنتاج الزراعى الأمريكى، وتلعب موانئها مثل ميناء لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو دورًا محوريًا بالتجارة الدولية. ومن الناحية السياسية، تصوت كاليفورنيا للديمقراطيين، وفى انتخابات عام 2024 حصل ترامب على نسبة %38 فقط من الأصوات فيها، وبشكل عام تبقى الولاية معقلا للديمقراطيين والتيار اليسارى، وهو ما يضعها فى مواجهة مباشرة وفى صراع حاد مع كل ما يتخذه ترامب من قرارات ومواقف. قال توم هومان، مسئول الحدود فى إدارة ترامب: «أقول لكم الحقيقة، سنواصل تطبيق القانون يوميًا فى لوس أنجلوس سنطبق قانون الهجرة يوميًا فى لوس أنجلوس. لا يهمنى إن أعجبهم ذلك أم لا». لم يُفصِح المسئولون عن مدة المداهمات أو عن وصف العملية الأوسع، لكن فى مذكرة الانتشار التى أرسلت الحرس الوطنى إلى لوس أنجلوس، ذكر المسئولون أن مدة الخدمة ستكون 60 يومًا أو حسب تقدير وزير الدفاع، بالإضافة إلى ذلك، يجوز لوزير الدفاع توظيف أى أفراد آخرين من القوات المسلحة النظامية حسب الضرورة لتعزيز ودعم حماية المهام والممتلكات الفيدرالية بأى عدد يُحدده مناسبًا وفقًا لتقديره. لكن الأسوأ فى الاحتجاجات هو التعامل مع المحتجين بعنف مفرط لدرجة استخدام الرصاص الحى على الصحفيين منهم صحفية أسترالية وصحفى صينى أصيبوا برصاص الحرس الوطنى كما أن الرصاص المطاطى فى كل مكان والصحفيين والإعلاميين فى مرمى النيران. خسائر الشرطة فادحة، سيارات تحترق صفا بعد صف وتقدر الخسائر حتى الآن بنحو 200 مليار دولار. الصين تعلق أرسلت الصين رسالة احتجاج بعد إصابة الصحفى الصينى لإدارة الرئيس ترامب وعلقت على الأحداث قائلة: «إن ما يحدث فى لوس أنجلوس اليوم هو نسخة طبق الأصل مما فعلته عصابات هونج كونج فى 2019 تلك العصابات هاجمت القطارات على الجسور». أتذكرون لقد وصف الإعلام الأمريكى وقتها عصابات هونج كونج ب«مقاتلى الديمقراطية»، فلا غرابة أن يُطلق نفس الوصف على من يمارسون الفوضى اليوم فى أمريكا هذا الانحلال هو نتيجة طبيعية لاحتضان الفوضى تحت شعار الديمقراطية.