منذ السابع من أكتوبر 2023، لم تصبح اليوميات الفلسطينية مجرد أخبار بعيدة؛ بل تحولت إلى أزمة أخلاقية أوروبية داخلية، تناقلتها تقارير منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستى إنترناشونال، وبثت وسائل الإعلام صور الأطفال تحت الأنقاض، الأمر الذى دفع النخبة الإعلامية والسياسية لإعادة النظر فى مسألة السردية غير القابلة للنقاش وهى «إسرائيل ضحية دائمة». خرج ما يقرب من مليون متظاهر فى لندن خلال أسبوعين فقط، وفق تقديرات The Guardian، بينما امتلأت ساحة الجمهورية فى باريس بمئات الآلاف، رغم محاولات السلطات الفرنسية حظر التظاهرات. وفى مدريد، رفرفت الأعلام الفلسطينية فوق البرلمان نفسه. وقال البروفيسور جيل دولوز، المتخصص فى الفلسفة السياسية بجامعة السوربون: «ما نشهده ليس مجرد غضب عاطفى؛ بل لحظة انكشاف لمخزون النفاق الأوروبى... أوروبا التى رفعت شعار «لن يتكرر أبدًا» تجد نفسها صامتة على إبادة جارية». هل يكتب المتظاهرون سياسة خارجية جديدة؟ وبيّن فرناندو موراليس، الباحث فى معهد «إلكانو» الإسبانى: «الحكومات الأوروبية باتت أمام اختبار: إما أن تترجم شعاراتها عن حقوق الإنسان إلى سياسات، أو تواجه موجة من فقدان الثقة الشعبى، قد تنفجر فى صناديق الاقتراع». وقالت الكاتبة البريطانية نعومى كلاين فى تعليقها على ما يحدث فى غزة فى The Intercept بأن: «القضية الفلسطينية تفضح ازدواجية الغرب، الذى يطالب بالعدالة فى أوكرانيا ويتغاضى عنها فى غزة»، مشيرة إلى أن «النظام القيمى الغربى يعيش ارتباكًا وجوديًا حادًا». الخروج من العباءة الأمريكية لم تعد «تيك توك» و«إنستجرام» و«تويتر» مساحات ترفيهية؛ بل ساحات اشتباك سياسى وشهود رقميين على المأساة، بات مؤثرون فلسطينيون ينافسون المؤسسات الإعلامية الغربية فى التأثير. تقول د. كلير رينولدز، الباحثة فى الإعلام الرقمى بجامعة إدنبرة: «جيل Z لا يصدق رواية الBBC أو CNN عن «الطرفين»، هو يرى فى الزمن الحقيقى كيف تُقصف المستشفيات وتُباد العائلات». وتشهد السياسية الخارجية فى المملكة المتحدة، تحولًا ملحوظًا تجاه القضية الفلسطينية؛ حيث أعلنت الحكومة البريطانية، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، عن استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين كجزء من حل الدولتين، بالتعاون مع فرنسا وكندا، خلال المؤتمر الدولى الذى تستضيفه الأممالمتحدة فى يونيو الجارى. وأظهرت استطلاعات الرأى أن غالبية البريطانيين يدعمون وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل خلال النزاع فى غزة، فيما كشف استطلاع أجرته YouGov، أن 71 % من البريطانيين يؤيدون وقف إطلاق النار الفورى فى غزة. وبحسب تحليل مجموعة الأزمات الدولية: «بدأت أوروبا تدرك أن مصالحها الإقليمية تستلزم استقلالًا سياسيًا، وأن الصمت لم يعد خيارًا ممكنًا أمام شعوبها». خطوة «سعودية- فرنسية» وتستعد الأممالمتحدة لاستضافة مؤتمر دولى لتسوية القضية الفلسطينية، برئاسة مشتركة «سعودية- فرنسية»، يتوقع أن يشهد المؤتمر إعلان عدد من الدول الأوروبية، بما فى ذلك فرنسا والمملكة المتحدة، عن اعترافها الرسمى بدولة فلسطين، ودعمها لانضمامها الكامل إلى الأممالمتحدة. ووصفت مجلة Le Figaro الفرنسية هذه الخطوة ب«اللحظة التاريخية التى تكسر فيها الهيمنة الأمريكية على صياغة الموقف الغربى»، الأمر الذى دفع واشنطن إلى اتباع دبلوماسية قلق مستتر، إذ نقلت مجلة Politico الأمريكية أن السفير الأمريكى فى تل أبيب، مايك هوكابى، أعرب فى تقارير سرية عن «توتر بالغ» تجاه الخطوة الفرنسية، محذرًا من أنها قد «تفتح الباب لشرعنة الإرهاب باسم الدولة». وقال هوكابى لمجموعة من الصحفيين الأوروبيين- بحسب ما أوردته مجلة Le Monde: «إذا كانت فرنسا مصممة على إعلان قيام دولة فلسطين، فربما تنشئها فى الريفيرا، بدلاً من الشرق الأوسط». وردت عليه النائبة الأوروبية كلارا مورجان بقولها: «هذا ليس مجرد تهكم سياسى؛ بل احتقار سافر لشعوب تبحث عن الحرية». وهاجمت الحكومة الإسرائيلية الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون متهمة إياه بقيادة «حملة صليبية ناعمة ضد الدولة اليهودية»، بحسب ما نقلته صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، وقال مسئول بارز فى وزارة الخارجية الإسرائيلية إن «ماكرون يصدر مواقف استعمارية متنكرة بثوب حقوق الإنسان، ويقود جوقة أوروبا لإعادة تقسيم الشرق الأوسط». تصدع أمريكى وبينما تدافع باريسومدريد عن خياراتهما الأخلاقية، يظهر فى واشنطن انقسام متزايد، الموقف الأمريكى بدا أكثر تعقيدًا. ففى حين يتبنى الرئيس ترامب فى ولايته الثانية دعمًا مطلقًا لإسرائيل، ظهرت أصوات داخل الخارجية الأمريكية- وبخاصة فى تقرير Washington Post الأخير- تحذر من «انزلاق إسرائيل إلى العزلة الدولية». وقالت لورا روزن، مراسلة الشئون الخارجية فى Foreign Policy: «هناك ما يشبه الانقسام داخل المؤسسة الأمريكية: البيت الأبيض يسير خلف إسرائيل حتى النهاية، بينما تدرك الخارجية أن أوروبا لم تعد متطابقة مع واشنطن فى هذا الملف».ما يحدث ليس ارتباكًا؛ بل انقسام عميق بين تيار أيديولوجى يريد حماية إسرائيل بأى ثمن، وتيار دبلوماسى يدرك أن العالم تغير». إسرائيل فى مواجهة أوروبا تشعر تل أبيب بأن الغطاء الأوروبى يتآكل؛ بل إنه قد يتحول قريبًا إلى منصة مساءلة دولية. وفى الوقت الذى تحاول فيه الحكومة الإسرائيلية تشويه المواقف الأوروبية واتهامها ب«اللا سامية»، تدرك المؤسسة الأمنية- بحسب تقرير هاآرتس- أن التحول عميق، وأن أوروبا لم تعد حائط الصد التلقائى، ولا الجدار الأخلاقى الذى يصدّ قرارات مجلس الأمن. وساطات غير غربية مع تصدع الجبهة الغربية، بدأ يظهر فى الأفق مجالٌ لقوى جديدة: الصين عرضت وساطة شاملة، والجنوب العالمى- من البرازيل إلى جنوب إفريقيا- يطالب بإعادة تدويل القضية الفلسطينية. تشير Foreign Affairs إلى أن «الشرخ بين أوروبا وأمريكا قد يفتح الباب لتدويل جديد للنزاع، بعيدًا عن قبضة الاحتكار الغربى الذى حكم مصير فلسطين منذ سايكس بيكو».