هذا حدث فريد فى بريطانيا منذ وعد بلفور، أقرب إلى المستحيل من دولة تفنن سياسيوها فى إهدار القيم الإنسانية فى ثلاثة أرباع المعمورة منذ أسست بريطانيا أولى مستعمراتها الخارجية فى أيرلندا فى القرن السادس عشر، تحديدا فى عام 1556، لم يحدث أن اهتمت النخبة فى الإمبراطورية بأحوال الناس خارج حدودها الأصلية، ولم يرتعش لهم جفن أو يهتز لهم ضمير وقواتهم ترتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية فى آسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية، بل إن بطلهم العظيم ونستون تشرشل تسبب عامدا متعمدا فى مجاعة البنجال الشهيرة، التى أودت بحياة أكثر من ثلاثة ملايين هندى فى عام 1943، لم تكتب عنها الصحافة الحرة كلمة واحدة! والحدث هو رسالة خاصة موجهة من قضاة سابقين فى المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف، إلى كير ستارمر رئيس الوزراء البريطانى، والقضاة هم كريمة المجتمع البريطانى وأحد مصادر فخره القومى، وبالرغم من بعض «الألفاظ المخففة والتعبيرات الاحتمالية»، فإن القضاة يحكمون بأن ثمة أدلة متزايدة على وقوع إبادة جماعية أو على الأقل خطر جدى بوقوعها، مستندين إلى أدلة دامغة، منها تصريحات وزير المالية الإسرائيلى بتسلئيل سموتريش بأن الجيش الإسرائيلى سيمحو ما تبقى من غزة الفلسطينية. وبالطبع هذه تصريحات لا ينطق بها إلا مجرم حرب محترف! وتقول الرسالة أيضا وهى من صفحتين ومدعمة بمذكرة قانونية من 35 صفحة: «جميع الدول بما فيها المملكة المتحدة ملزمة قانونا باتخاذ جميع الخطوات المعقولة، فى حدود سلطتها، لمنع جريمة الإبادة الجماعية وبمعاقبة مرتكبيها، وضمان احترام القانون الإنسانى الدولى، وإنهاء انتهاكات الحق فى تقرير المصير، يجب أن يكون الجميع أحرارا من الاضطهاد والتهجير والتطهير العرقى، ومن الدمار والموت المتعمدين، إن إجراءات المملكة المتحدة حتى الآن لم تستوف تلك المعايير، إن فشل المجتمع الدولى فى دعم القانون الدولى فيما يتعلق بالأراضى الفلسطينية المحتلة يسهم فى تدهور المناخ الدولى المتمثل فى الفوضى والإفلات من العقاب، ويعرض النظام الدولى نفسه للخطر، يجب على حكومتكم أن تتحرك قبل فوات الأوان». وتضيف أن المساعدات المحدودة التى سمحت إسرائيل بدخولها إلى أهل غزة لا تزال غير كافية لمعالجة الكارثة الإنسانية المتفاقمة. أى أن قضاة بريطانيين سابقين فى المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف أوجعهم ضمائرهم، إلى الحد الذى أجبرهم على كسر نظرية القردة الثلاثة: «لا أرى، لا أسمع، لا اتكلم» التى أدمنتها الحضارة الغربية تجاه القضية الفلسطينية، وأصدروا توصيفا قانونيا: أولا: إسرائيل قوة محتلة لأرض فلسطينية، والاحتلال عمل ضد القانون الدولى. ثانيا: الأفعال الإسرائيلية تعمل على تدهور البيئة السياسية والإنسانية التى يعيش فيها العالم. ثالثا: نشر الفوضى دون عقاب. رابعا: تعريض النظام الدولى لخطر عدم الاحترام الذى قد يؤدى إلى غياب معايير ضبط العلاقات الدولية. وهذا التوصيف يمكن لنقابات المحامين العرب ومنظمات المجتمع المدنى أن يستعينوا به فى قضية شديدة التماسك أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإحكام قبضة جريمة الإبادة الجماعية على رقبة حكومة إسرائيل وقادة جيشها! صحيح أن وزير الخارجية البريطانى «ديفيد لامى» أعلن تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل قبل الرسالة، لكن الرسالة تحث الحكومة البريطانية على أن تذهب أبعد من مجرد مراجعة الروابط التجارية أو فرض عقوبات تجارية على إسرائيل، إلى عقوبات فورية على الوزراء الإسرائيليين وكبار قادة الجيش الإسرائيلى الذين يحرضون على الإبادة الجماعية أو دعم وتسريع بناء المستوطنات غير القانونية. ورسالة القضاة ليست هى العمل الأول من المجتمع القانونى فى بريطانيا، إذ سبق أن رفع أعضاء فى هذا المجتمع دعوى فى العام الماضى ضد الحكومة يطالبون فيها بوقف مبيعات السلاح إلى إسرائيل، لأنه يعد انتهاكا للقانون، ولا تزال القضية منظورة أمام المحكمة العليا. وعموما الدعوى والرسالة تشى بأن ثمة جديدا يحدث، وأن اللوم العنيف لجرائم إسرائيل صار حالة شائعة فى الدول الأوربية التى تتجرع سموم «الوفاق العاطفى» مع إسرائيل بالرضى أو بالإكراه، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا، فالألمان لم يعودوا يقبلون تبرير الجرائم ضد الفلسطينيين بأنها عوارض معركة ضد إرهاب حماس، وإن غلفوا وصف الجرائم ب«الأذى الذى لحق بالمدنيين»، أما بريطانيا وفرنسا وكندا فقد أصدروا بيانا مشتركا هاجموا فيه «توسع» إسرائيل فى العمل العسكرى فى قطاع غزة، وقالوا إن الأوضاع فى غزة لا تطاق، وكالعادة حاول نتنياهو ابتزازهم بسلاح تقليدى نابع من خدعة «معاداة السامية» ذات الفاعلية الهائلة، وهو «إن قادة لندن وباريس وإتاوا يقدمون جائزة ضخمة لهجوم الإبادة الجماعية على إسرائيل فى 7 أكتوبر، مع دعوة للمزيد من هذه الفظائع»! لكن لم تفلح محاولة الابتزاز.. والسؤال: ما الذى عدل أو غير موقف هذه الدول من التأييد الأعمى الكامل إلى بعض اللوم وإعادة التقدير؟ طبعا لا نستطيع بالرغم من كل هذا أن نقول إن هذه الدول سوف تدير ظهرها لإسرائيل تماما أو تأخذ موقفًا حادا منها، لكن استجابت إلى ضغوط الرأى العام داخلها، أو بمعنى أدق لانت قليلا وبدأت تلقى ببعض الحجارة على إسرائيل، لعلها تتخفف من هذه الضغوط الداخلية، التى قد تؤثر على صندوق الانتخابات مستقبلا، خاصة بعد أن أحيت الجرائم الإسرائيلية فى غزة «موجات العداء الكلاسيكى» لليهود، حتى إن بعضا من التراث الشعبى العالمى فى هذه العلاقة المعقدة بين اليهود والآخرين قد عاد من غياهب النسيان إلى ذاكرة البشرية، تحت وطأة الصورة الرهيبة لمعاناة أهل غزة وحجم الدمار الهائل الذى لحق بالقطاع، بما فيها المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ومراكز الإغاثة والبنية التحتية. وصحيح أن إسرائيل تشعر بالقلق، وقال يائير جولان وهو سياسى يسارى ونائب سابق لقائد الجيش الإسرائيلى «إن إسرائيل فى طريقها إلى أن تصبح دولة منبوذة، مثلما كانت جنوب إفريقيا، إذا لم نعد نتصرف كدولة عاقلة، والدولة العاقلة لا تشن حربا على المدنيين ولا تقتل الأطفال كهواية»، لكن إسرائيل أيضا لا تشعر بالخوف، ما دامت الولاياتالمتحدة تقف خلفها وأحيانا أمامها، وتشاركها فى كل أفعالها بالسلاح والمال والدبلوماسية، ولهذا دعا نيتناهو قادة بريطانيا وفرنسا وكندا إلى اتباع رؤية «ترامب» لإنهاء الصراع بين إسرائيل وحماس، بدلا من إصدار بيانات هجوم على إسرائيل! وهذا لا يعنى أن أمريكا عصية على بعض التعديل، فالجريمة التى ارتكبها المواطن إلياس رودريجيز قبل أسبوعين ضد اثنين من موظفى السفارة الإسرائيلية فى واشنطن أمام المتحف اليهودى هى علامة من علامات كثيرة غاضبة داخل المجتمع الأمريكى مما ترتكبه إسرائيل من جرائم، وإن التأييد الذى حظيت به من الرأى العام الأمريكى بعد طوفان الأقصى تقلص إلى حد ما، خاصة بين الأجيال الجديدة، وإن ظل التأييد الأعمى على حاله بين السياسيين فى الحزبين الجمهورى والديمقراطى، فدور اللوبى الصهيونى فى الانتخابات الأمريكية ما زال حاكما بالمال والإعلام ونشاط مئات المنظمات التابعة له فى الحياة العامة، وكلها تعمل على تشويه سمعة معارضى إسرائيل. مؤكد أن إسرائيل لن تستطيع ركوب قطار الرأى العام العالمى مرة ثانية، لأن القطار تحرك بالفعل عكس أهدافها، لكن يبقى العرب سؤالا حائرا أشبه بسكين فى القلب! 1