فى أولى محطاته الخارجية بعد عودته إلى سدة الحكم، اختار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الشرق الأوسط وجهة استراتيجية، فى زيارة حملت من الدلالات أكثر مما حملت من التصريحات، ومن الرسائل غير المعلنة أكثر مما كشفت عنه البيانات الرسمية. زيارة لم تكن بروتوكولية عابرة، بل تندرج ضمن سردية كبرى تسعى لإعادة إنتاج الدور الأمريكى فى الإقليم، وربما ترسم معالم «صفقة استراتيجية جديدة» شبيهة بتلك التى أرساها الرئيس روزفلت والملك عبدالعزيز فى أربعينيات القرن الماضى. زيارة ترامب لم تكن مجرد زيارة دبلوماسية تقليدية، بل جاءت محمّلة برسائل سياسية غاية فى الوضوح، وبتوقيت بالغ الدقة، فى ظل اشتعال بؤر التوتر من غزة إلى صنعاء، ومن بيروت إلى دمشق. الأسئلة الكبرى تتصدّر المشهد: هل تمثل هذه الزيارة تحولًا استراتيجيًا فى توجهات واشنطن؟ وهل نشهد ميلاد معادلة جديدة لموازين القوى الإقليمية؟ وكيف ستتفاعل القوى الدولية الكبرى مع هذا الحضور الأمريكى المتجدد؟ عودة وتراجع لعلّ أبرز ما يميز زيارة ترامب هو هذا التوقيت الحرج الذى تمرّ به المنطقة: حرب غزة التى طالت، استقطاب إقليمى متصاعد، وشلل غير مسبوق فى الدبلوماسية الأمريكية خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن، والذى فُسّر بأنه تراجع عن الدور التقليدى للولايات المتحدة كضامن استقرار فى الشرق الأوسط. من هنا تأتى زيارة ترامب كإشارة انقلابية فى المعادلة. يوضح د.سمير التقى – الخبير السياسى والباحث بمعهد الشرق الأوسط فى واشنطن– ل«روزاليوسف»: أن «زيارة الرئيس ترامب تشكل انعطافًا استراتيجيًا كبيرًا، بعد أن شلت الدبلوماسية الأمريكية بالكامل بسبب السياسات الصفرية لنتنياهو، ورهانه على تهميش الفلسطينيين وفرض تصور أحادى للمنطقة. اليوم تعود واشنطن لإعادة رسم الإطار الاستراتيجى للإقليم، ولكن هذه المرة دون أن تكون إسرائيل وحدها فى مقعد القيادة». وأكد التقى، أن هذه الزيارة كوجهة أولى للرئيس الأمريكى منذ توليه رئاسة المكتب البيضاوى تعكس محاولة واشنطن لاستعادة دورها الاستراتيجى فى المنطقة بعد سنوات من الجمود بسبب التعقيدات التى فرضتها السياسات الإسرائيلية المتشددة. فالولاياتالمتحدة، التى ظلت لفترة غير قادرة على إطلاق مبادرات دبلوماسية مؤثرة، تعود الآن بطرح جديد يسعى لإحداث توازن بين القوى الفاعلة فى الإقليم، مع التركيز على الدور العربى فى إعادة تشكيل المشهد الإقليمى. ويتابع التقى: «نتنياهو، الذى ظنّ أنه يستطيع تشكيل المنطقة استراتيجيًا بمفرده، تجاوز حدوده. عودة ترامب تأتى لتؤكد أن واشنطن لن تسمح لإسرائيل بتفرد غير محسوب. المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر أصبحوا اليوم الحلقة الرابطة لتوازن جديد لا تمرره تل أبيب وحدها». من جانبه، أوضح حازم الغبرا، المستشار السابق فى الخارجية الأمريكية، أن اختيار ترامب للشرق الأوسط كأول وجهة خارجية فى ولايته الثانية لم يكن قرارًا عشوائيًا، بل يمثل استمرارًا لعلاقاته القوية مع دول الخليج. ويؤكد أن توقيت الزيارة جاء لتعزيز تفاهمات أمريكية – عربية تهدف إلى استقرار الإقليم من خلال شراكات اقتصادية وتقنية، بعيدًا عن نهج الصراعات العسكرية المباشرة. «كوينسى جديد» ثمة إجماع بين الضيوف على أن الزيارة تحمل ملامح «عقيدة ترامب الثانية»، والتى تقوم على مزيج من الواقعية السياسية والتوازن الإقليمى. وفى هذا السياق، يشبه د.التقى ما يجرى اليوم باتفاق كوينسى التاريخى، قائلًا: «الاتفاق الذى تم بين الرياضوواشنطن يتجاوز مجرد ترتيبات أمنية، بل يمتد إلى ملف الذكاء الاصطناعى، وتكامل المنظومات المعلوماتية، وتعاون بنيوى جديد يتخطى السياسة إلى الاقتصاد والتقنية. إنها بنية جديدة لعقود مقبلة» مؤكدًا أن تعامل ترامب مع المنطقة يتشابه مع اتفاقية كوينسى التى تمت بين الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت عام 1945، والتى صاغت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. كما يوضح بشار جرار، المحلل السياسى المتخصص فى الشئون الأمريكية، أن رؤية ترامب ليست مقتصرة على إعادة العلاقات التقليدية بين حلفائه فى الشرق الأوسط، بل تمتد إلى إحداث تغييرات جوهرية فى السياسة الإقليمية، خصوصًا فيما يتعلق بمسار القضية الفلسطينية، حيث يسعى إلى إنهاء الصراع المستمر من خلال خلق شراكات جديدة بين الولاياتالمتحدة والدول العربية، بما يضمن ضغطًا حقيقيًا على الحكومة الإسرائيلية المتشددة بقيادة بنيامين نتنياهو. الدول العربية تتقدم خطوة إلى الأمام من وجهة نظر عربية، الزيارة تعكس تحولًا عميقًا فى دور دول الإقليم، لاسيما السعودية ومصر، حيث باتتا لا تنتظران حلولًا مفروضة من الخارج، بل تسعيان لصياغة الحلول وفرضها كأطراف فاعلة فى مستقبل المنطقة. يقول التقى: «الوضع لم يعد يحتمل مزيدًا من الانتظار. هناك ملفات على الطاولة لا تحتمل التأجيل: إعادة إعمار غزة، استقرار الضفة، مصير لبنانوسوريا، تقوية السلطة الشرعية فى عمان، وكلها اليوم أصبحت ضمن رؤية عربية - أمريكية مشتركة تُفرض على الجميع بمن فيهم إسرائيل». كما أن التحولات الجيوسياسية فى المنطقة كانت بحاجة إلى إعادة ضبط، وهو ما تمثّله زيارة ترامب فى هذه المرحلة الحساسة. وفقًا للمحلل السياسى فى الشأنين الأمريكى والشرق أوسطى بشار جرار، فإن الزيارة تحمل أبعادًا مهمة تتجاوز الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية، إذ تهدف إلى بناء شراكة أكثر توازنًا مع القوى العربية الرئيسية، خصوصًا المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر. هذا التوجه الجديد يعكس تحولًا فى سياسة واشنطن بعيدًا عن الاعتماد المطلق على إسرائيل، إلى استراتيجية تضع مصالح الحلفاء العرب فى قلب المعادلة السياسية. فيما يؤكد الدكتور سمير التقى أن هذه التحولات ستفرض واقعًا جديدًا على إسرائيل، حيث لم تعد قادرة على إعادة تشكيل المنطقة وفق رؤيتها الخاصة. فمحاولات نتنياهو لفرض سيادة إسرائيل المطلقة على الإقليم تواجه الآن تحديًا أمريكيًا واضحًا، يضع الدول العربية كلاعب رئيسى فى تحديد مستقبل المشهد السياسى، لا سيما فيما يتعلق بإعادة ترتيب الوضع فى غزة والضفة الغربية. حروب وحلول الكاتب السياسى بشار جرار، يرى أن زيارة ترامب تأتى ضمن رؤية متكاملة لما يسميه «حلحلة الحروب». يقول ل«روزاليوسف»: «موقف الرئيس ترامب من حرب غزة لا ينفصل عن مقاربته الأوسع. نجاحه فى إطلاق سراح المواطن الأمريكى عيدان ألكسندر كان رمزيًا، لكنه يندرج ضمن استراتيجية إنهاء الصراع وليس الاكتفاء بتهدئته». ويتابع جرار: «ترامب لا يريد وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار، بل حلًا جذريًا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى. رؤيته تتجه نحو دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مدعومة من دول عربية كبرى، مع ضغط مباشر على إسرائيل، حتى لو استلزم ذلك إسقاط حكومة نتنياهو المتشددة». سياسة الحافة الخشنة فيما يتعلق بإيران، فإن سياسات ترامب تعود بنفس الحدة التى بدأت بها فى ولايته الأولى. يقول جرار: ترامب أثار استخدامه لشعار جديد وهو «لنجعل إيران عظيمة مجددًا» هى رسالة مزدوجة: ترغيب وترهيب. ترامب يريد اتفاقًا نوويًا جديدًا، ولكن بشروط خليجية وأمريكية واضحة، لا تساهل فيها مع طهران. وهو يُلمّح إلى سيناريوهين: إما السلام المؤكد، أو الضربة الساحقة. أما الحوثيون، فيراهم «جرار» ضمن الحسابات الأكثر خطورة:«إطلاق الحوثيين لصاروخ باليستى نحو إسرائيل عقب خطاب ترامب فى المؤتمر الاستثمارى بالسعودية هو تصعيد غير محسوب، والرد الأمريكى سيكون حاسمًا. السيناريو المرجّح يشبه طالبان: إما الانسحاب من المشهد، أو السحق الميدانى عبر دعم الحكومة الشرعية». خارطة الشرق الجديد الملف اللبنانى عاد بقوة إلى الواجهة، ووفقًا للتقديرات، فإن واشنطن تراهن على تحالف جديد يضم السعودية والإمارات وقطر لدعم الرئيس اللبنانى جوزيف عون وإنهاء فوضى السلاح، مع العمل المتزامن فى سوريا لطرد بقايا داعش ومواجهة النفوذ الإيرانى. وفى هذا السياق يقول جرار: «أمريكا ستدعم بقوة أى جهد لتأمين سورياولبنان، والهدف طرد المسلحين من البلدين بشكل نهائى. والسيطرة على مخيم الهول فى شمال شرق سوريا بات أولوية». من جانبه يرى المستشار السابق بالخارجية الأمريكية، حازم الغبرا، أن زيارة ترامب للمنطقة لا تنفصل عن مشروعه القديم-الجديد للشرق الأوسط. ويوضح ل«روزاليوسف»: «هذه الزيارة امتداد لرؤية ترامب فى ولايته الأولى. هى ليست نتاج المئة يوم الأولى من حكمه، بل نتاج علاقات راسخة مع الخليج تهدف لإرساء شراكة متوازنة فى منطقة مازالت تعانى من التوترات والاشتعال». ويضيف الغبرا: «ترامب لا يريد فرض الهيمنة الأمريكية، بل يسعى إلى تقديم حلول عبر تفاهمات تقنية واقتصادية تشرك دول المنطقة بفعالية. النموذج الجديد الذى يقترحه هو التعاون لا الإملاء». النظام الإقليمى من خلال تصريحات الخبراء مثل د.سمير التقى، بشار جرار، وحازم الغبرا، يتضح أن زيارة ترامب ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل هى عملية إعادة تموضع سياسى تهدف إلى فرض نهج جديد فى المنطقة. بينما يرى البعض أنها محاولة لإعادة ترتيب العلاقات الإقليمية بما يضمن استقرار الشرق الأوسط، ويرى آخرون أنها خطوة ستضع إسرائيل أمام خيارات صعبة، خاصة مع تعزيز الدور العربى فى صياغة المستقبل السياسى للإقليم. وختامًا، فان زيارة ترامب إلى الشرق الأوسط جاءت فى وقت يتغير فيه العالم: الصين تتمدد، وروسيا تستعيد دورها، وأوروبا تترنح. وسط هذا المشهد، تسعى واشنطن – بقيادة ترامب – إلى إعادة التموضع.
لكن الجديد أن واشنطن لم تعد الطرف الوحيد الممسك بالخيوط، بل أصبحت جزءًا من شبكة معقدة من المصالح والتحالفات والضغوط المتبادلة. السؤال الذى يُطرح الآن: هل بدأت ملامح النظام الإقليمى الجديد تتشكل؟ هل تشهد المنطقة نهاية حروبها المفتوحة، وتدخل مرحلة من التفاهمات العميقة؟ وهل تنجح إدارة ترامب فى التأسيس لعقيدة استراتيجية جديدة تقوم على التوازن بدل التفرد، وعلى الشراكة بدل الاستقطاب؟ الجواب، على الأرجح، لا يكمن فقط فيما قاله ترامب، بل فيما قرأته دول المنطقة من دلالات هذه الزيارة. 2