عندما بدأت الأخبار تتوالى عن القصف العنيف على غزة وبدأ دم الأطفال القتلى والجرحى يتناثر فى كل مكان حتى وصل لصفحات التواصل الاجتماعى وأصاب المجتمع المصرى بالحزن والاكتئاب والشعور بالعجز وقلة الحيلة.. رأت سلمى طبيبة أمراض النساء حديثة التخرج أن واجبها الإنسانى يناديها.. وأنها كطبيبة مصرية تؤمن برسالتها ودورها الإنسانى لا بد أن تفعل شيئا وأن مكانها الحقيقى بين أطفال غزة تسهم فى إغاثتهم وعلاجهم وإنقاذ ما تستطيع إنقاذه. وقررت أن تسافر إلى غزة غير ملتفتة لأى شىء آخر ولا حتى إلى خطيبها الذى تحبه والذى بدأ يستعد للزواج لكنها لم تعد ترى لشىء قيمة أو معنى فى ظل المذابح الوحشية التى تسود غزة وأشلاء أبنائها التى تتناثر فى كل مكان على مرأى ومسمع من عالم طالما صدعنا بحقوق إنسان لا وجود لها. عندما أخبرت الطبيبة الشابة سلمى والدها برغبتها فى السفر إلى غزة، اعترض الأب بشدة وقال لها بنبرة قلق: «سلمى الحرب هناك لا ترحم. ماذا لو أصابك مكروه لا سمح الله». لكنها أجابته بثقة: «العمر مكتوب يا أبى، وأنت من علمتنى أن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.. كيف يمكننى أن أرى أهالينا فى غزة يعيشون فى هذا الجحيم وأبقى هنا؟». تلمح الدموع فى عيون الأب الذى ضمها لصدره بحب قائلا: لن أستطيع أن أمنعك عن تلبية نداء الإنسانية وأنا من حرصت دائما على أن أعلمك معنى الإنسانية منذ نعومة أظافرك وتمنيت أن أراك إنسانة حقيقية تشعرين بالآخرين وتشاركيهم معاناتهم.. والآن تحقق ما تمنيته وابنتى كبرت وصارت إنسانة تحمل قلبًا من ذهب.. وفقك الله يا غاليتى. أما خطيبها، فقد رفض الفكرة من الأساس وقال لها: هذا جنون.. هل تريديننى أن أوافق على ذهابك للموت؟! لا يمكننى أن أسمح لكِ بالسفر إلى منطقة حرب.. كما أننى أريدك معى وبجوارى نبنى حياتنا معا.. أنسيت موعد زفافنا الذى تم تحديده؟. قالت بلهجة قاطعة: يمكننا تأجيله. لكنه أصر على الرفض، فقررت فسخ خطبتها وأصرت على السفر إلى غزة. واستطاعت من خلال طلب قدمته لوزارة الصحة أن تصل إلى غزة.. ورغم ذلك شعرت بأنها صامدة وشامخة وسط كل هذا الدمار الهائل والمستشفيات المكتظة بالنساء الحوامل والأطفال الجرحى. وتبدأ عملها على الفور.. فتساعد النساء على الوضع وتعتنى بالأطفال حديثى الولادة. لم تكن سلمى مجرد طبيبة بل كانت صديقة للأطفال تحتويهم وتحتضنهم وتغنى لهم وتسمع ومعاناتهم فربما استطاعت أن تخفف عنهم ألم لا ذنب لهم فيها. وفى أحد الأيام وصلت إلى المستشفى سيدة غارقة فى دمائها بعد أن تم إخراجها من تحت أنقاض بيتها الذى تم قصفه وهدمه فوق رؤوس سكانه.. ففقدت زوجها وأبناءها الثلاثة أثناء القصف.. كانت السيدة حاملا فى شهرها الأخير، وبعدما وصلت للمستشفى لفظت أنفاسها الأخيرة بينما كانت يدها على بطنها كأنها تحاول حماية جنينها. وتبكى سلمى من هول المشهد، ودموعها لم تتوقف. وتقر إجراء عملية قيصرية عاجلة لإنقاذ الجنين. وكم كانت تشعر بثقل المأساة التى تحملها هذه الأم وأمهات كثيرات فى غزة. عندما خرج الجنين إلى الحياة، كان سليمًا معافى وأمسك بإصبع سلمى الصغيرة، وكأنه يقول لها: «أنا هنا، رغم كل شيء». بكت سلمى أكثر، وأصرت على أن يشعر بحضن أمه حتى بعد وفاتها.. فتضع الطفل على صدر أمه، ليشعر بدفء حضنها للمرة الأولى والأخيرة. لم تكتفِ سلمى بدورها كطبيبة.. بل قررت أن تكون صوتًا قويا نشطا عاليا قادرا على أن ينوب عن نساء وأطفال غزة فى توصيل مأساتهم الحقيقية إلى العالم الذى تراه ظالما بلا عدالة. فأنشأت صفحة مترجمة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، حيث كانت تنشر يوميًا صورًا ومقاطع فيديو توثق المآسى التى يعيشها أهل غزة. كانت تكتب عن النساء اللواتى فقدن أسرهن، وعن الأطفال الذين يعانون من الإصابات النفسية والجسدية. وبفضل جهودها، أصبحت صفحتها تجمع ملايين المتابعين من جميع أنحاء العالم. حيث تنشر صورًا تفضح الجرم الإسرائيلى وقسوة العالم والمذابح اليومية للمدنيين الأبرياء.. مما أثار غضبًا عالميًا كبيرا ضد إسرائيل. كما بدأ الناس فى مختلف الدول بتنظيم مظاهرات لدعم غزة، مطالبين بوقف القصف وإنهاء المعاناة ومحاكمة نتنياهو.. ورغم الحزن الذى ملأ قلب سلمى، شعرت أن عملها كان له تأثير كبير.. كانت تقول لنفسها: «القضية لن تموت، والأمل سيبقى..وإن كل طفل أنقذته هو شهادة على قوة الروح الإنسانية». تستمر سلمى فى عملها فى غزة، تقدم المساعدة بكل حب وإخلاص، وتؤمن بأن وجودها هناك هو جزء من رسالة أكبر. فأصبحت رمزًا للتضحية والإنسانية، وشعرت أن كل طفل ساعدته هو شهادة على قوة الروح الإنسانية. 2