رئيس جامعة المنصورة يتفقد أعمال تجديد المدرجات بكلية الحقوق    إهداء درع معلومات الوزراء إلى رئيس جامعة القاهرة    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    خالد صبري: إقبال كبير على سوق العقارات المصري    انطلاق فعاليات الجلسة الرابعة «الثورة العقارية في مصر.. الواقع والمستقبل»    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    رئيس الرقابة المالية: الانتهاء من المتطلبات التشريعية لإصدار قانون التأمين الموحد    عاجل| أحد مرافقي الرئيس الإيراني: الآمال كبيرة في انتهاء الحادث دون خسائر بالأرواح    وزير الدفاع البريطاني: الحكومة البريطانية قلقة بشأن المسيرات المؤيدة للفلسطينيين    مشاهدة مباراة آرسنال وإيفرتون في جولة الحسم بالدوري الإنجليزي| مباشر    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    عاجل.. براءة متهم من قتل سيد وزة ب "أحداث عنف عابدين"    تسلق السور.. حبس عاطل شرع في سرقة جهاز تكييف من مستشفى في الجيزة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    مصطفى قمر يتألق بأغانيه في حفل زفاف نجلة سامح يسري.. صور    «يا ترى إيه الأغنية القادمة».. محمد رمضان يشوق جمهوره لأغنيته الجديدة    قومية قنا تقدم "المريد" ضمن عروض الموسم المسرحي بجنوب الصعيد    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    جوائز مهرجان لبنان السينمائي.. فوز فيلم "الفا بات" بجائزة أفضل فيلم روائي    ما هو الحكم في إدخار لحوم الأضاحي وتوزيعها على مدار العام؟    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    الجبالى مازحا: "الأغلبية سقفت لنفسها كما فعلت المعارض وهذا توازن"    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    وزير الصحة: تقديم القطاع الخاص للخدمات الصحية لا يحمل المواطن أعباء جديدة    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    موعد انعقاد لجنة قيد الصحفيين تحت التمرين    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    متى تبدأ العشر الأوائل من ذي الحجة 1445 وما الأعمال المستحبة بها؟    أكبر مدن أمريكا تفتقد إلى الأمان .. 264 ألف قضية و4 آلاف اعتداء جسدى ضد النساء    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دماء على البالطو الأبيض.. «الوطن» تفتش في آلام سيدات الأطقم الطبية بقطاع غزة (تحقيق خاص)
نشر في الوطن يوم 01 - 03 - 2024

«على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات، كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين».. قد لا تكفى تلك الأبيات المليئة بالشجن والحزن والأمل التى نظمها الشاعر الفلسطينى محمود درويش، وصف المشاعر الإنسانية المتضاربة بين القهر والضغط النفسى والفقد وتلبية نداء الواجب لدى بطلات الأطقم الطبية فى قطاع غزة، اللائى يتحملن ما لا يتحمله بشر، «نورا، روان، دعاء وغادة» ليست مجرد أسماء لأم وزوجة وطبيبة وممرضة لكن كل اسم منها يحمل ملحمة إنسانية ونضالية ضمن الآلاف بل الملايين من سيدات الأرض، فمنذ الحرب التى شنها الاحتلال الإسرائيلى على غزة فى السابع من أكتوبر 2023، والمرأة الفلسطينية تناست جميع همومها وتستبدل بها فى كل دقيقة تحدياً جديداً، فهى الأم الثكلى التى فقدت أبناءها فى قصف العدوان والزوجة المكلومة التى خرج رفيق دربها من منزله ولم يعد فى محاولة منه كانت تبدو يائسة لسد جوع فلذات كبده وكى يُسكت بكاءهم، لكنه قد يكون مفقوداً أو شهيداً أو أسيراً، والفتاة التى ضاعت زهرة شبابها فى قصف، جميعهن أصبحن بلا مأوى، دون سند، لم يفقدن شيئاً واحداً هو «الإيمان»، الذى تداوى به الجرحى قبل أن تجد مَن يداوى جراحها أو يصلح الشرخ بداخلها، لتسطر بذلك صفحات مضيئة ضمن السجل الفلسطينى الذى يعج بأسماء نساء تركن بصمات واضحة فى نضالهن ضد الاحتلال الإسرائيلى، وقاومن كما الرجل، وخضن غمار الكفاح، واستُشهدن، واعتُقلن.
طبيبة بالمستشفى الإندونيسى وجدت ابنتها ضمن ضحايا مجزرة «جباليا»: لم أتمالك نفسي.. ورفضت ترك المستشفى وقت قصفه فى اليوم ال45 للحرب
خلال الأشهر الماضية وتحديداً منذ السابع من أكتوبر 2023، فتشت «الوطن» وسط المجازر والقصف والانتهاكات عن بطولات المرأة الفلسطينية فى القطاع الصحى بغزة، لم يكن ذلك بالأمر الهين، مع انقطاع الكهرباء والاتصالات وشبكة الإنترنت، ومع هذا توصلنا لحالات إنسانية وقصص متنوعة، جميعها تُبرز بطولات أولئك السيدات اللائى لم يشغلهن سوى الحفاظ على النبض المتبقى فى قلوب الجرحى أو إخراج جنين من رحم أمه ليقبل على حياة ليس على علم بها سوى خالقها، فمن الولادة من دون مخدر مروراً بإجراء عمليات جراحية على أضواء الهواتف المحمولة، وصولاً إلى استكمال رسالة مهنية وإنسانية أمام جثمان الابن أو الأب أو الزوج، سنحاول سرد قصصهن، كما قمن برواية تجاربهن من المستشفى الإندونيسى ومستشفى غزة الأوروبى ومستشفى ناصر ومجمع الشفاء الطبى ومراكز الإيواء فى القطاع.
«بنتى يا الله.. بنتى يا عالم بنتى يا غزة»
البداية من «جباليا»، أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة، والذى أنشئ بمحاذاة بلدة جباليا بعد نزوح آلاف الفلسطينيين إليه قادمين من قرى ومدن جنوب فلسطين عقب النكبة عام 1948، وهو أيضاً الذى انطلقت منه شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى المعروفة كذلك باسم انتفاضة الحجارة من مخيم جباليا فى 8 ديسمبر عام 1987 لتستمر الانتفاضة إلى توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، حيث شهد المخيم ذاته بعد 36 عاماً، القصف الأعنف من مقاتلات جيش الاحتلال، وتحديداً فى الأول من نوفمبر من عام 2024، ليطغى اسم المخيم على كل الأنباء، بعد أن خلّفت سلسلة الغارات 400 ضحية بين شهيد وجريح.
«بنتى يا الله.. بنتى يا عالم.. بنتى يا غزة.. تانى واحدة يا الله»، كانت تلك صرخات الطبيبة الفلسطينية غادة أبوعيدة التى غلبتها عاطفتها بعدما اختبرها القدر من جديد فى ابنتها، التى وقعت ضمن ضحايا الاحتلال بعد استهدافه مخيم «جباليا» فى الأول من نوفمبر.
وجدت «غادة» ابنتها على حمالة المصابين، بينما كانت تتفقد الجرحى داخل المستشفى الإندونيسى شمال قطاع غزة، إذ لمحت عيناها ملامحها، هنا تبدلت حالتها من طبيبة لأم انفطر قلبها على فلذة كبدها حتى هاجت وهرولت مسرعة تلاحقها حتى تتحسس جسدها النائم فى سكون، ليهز صراخها أرجاء المستشفى.
مدير تمريض «غزة الأوروبي»: الممرضات داوين جروح أولادهن وهناك من شَهدت استشهاد ابنها.. ونفاد الموارد الطبية وانقطاع الكهرباء أثر على إجراء العمليات
التف الطاقم الطبى وأسرع المسعفون لطمأنة غادة، أو «أم أحمد» كما ينادونها داخل المستشفى، حتى لحق بها أحدهم وأخذها بين أحضانه بعدما فقدت السيطرة على دموعها وصارت تصرخ صراخاً هستيرياً، لتقع على الأرض مغشياً عليها: «لم أدرك ذاتى فور رؤيتى لابنتى، نسيت مَن أكون، فقط كل ما كان يدور فى ذهنى هو ابنتى، خشيت فقدانها مثلما فقدت أحد أبنائى، الفاجعة كانت مؤلمة، إذ كيف لقلبك ألا ينفطر لفلذة كبدك؟، فهى النفَس الذى أتنفسه وأعيش به، استهدفتها طائرات الاحتلال الإسرائيلى فى مخيم «جباليا».
«والله بخير يا أم أحمد.. عايشة عايشة اطمنى»، كلمات ربما لم تطمئن فؤاد «غادة» حتى تلك اللحظة التى وجدت ابنتها لا تزال تتنفس، هنا بدأت الاسترخاء قليلاً واستجاب جسدها حتى نقلها الممرضات والطبيبات على سرير داخل إحدى الغرف لتهدئتها بعدما فقدت وعيها.
تكرار مصير الفقد لم تقوَ «غادة» على تحمله، بعدما استشهد زوجها وابنها بينما يعيش عدد من أفراد أسرتها الباقين بين الجروح والإصابات العميقة.
ومع بزوغ فجر اليوم ال 45 من الحرب على غزة، استهدف الاحتلال المستشفى الإندونيسى، بالرصاص وقصف محيطه، فى الوقت ذاته توقّف فيه المولد الرئيسى للمستشفى عن العمل، ووصل الدخان إلى ساحة وغرف المستشفى، وهنا باشرت «غادة» مهامها كطبيبة وواحدة من الطواقم الطبية رغم ما حل بها من آلام وفراق الأحبة: «يوم قصف المستشفى رفضت المغادرة ومنذ اليوم الأول للحرب وأنا وزملائى نواجه الموت فى أى لحظة، على أمل أن نؤدى الواجب الإنسانى على أتم وجه، لكن الوضع أصبح مأساوياً ويفوق التحمل، جرحانا يموتون بالبطىء، فمن نجا من الموت أصبح بقايا إنسان، لم تبقَ فينا قوة، نحن تدمرنا، والوضع يُرثى له، إسرائيل ترتكب أفظع الجرائم فى حق أسرنا وأطفالنا وشهدائنا.. لن ننسى أبداً ما فعلوه بنا».
الحياة غير آمنة وننتظر خبر استشهاد أحدنا بين الفينة والأخرى
فى بلدة الفخارى بالقرب من مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تأسس المستشفى الأوروبى بمنحة من الاتحاد الأوروبى فى عام 1989 بواسطة وكالة «أونروا»، وافتُتح فى 15 أكتوبر 2000 استجابةً لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعلى مساحة بلغت 20 ألف متر مربع، شهد روايات تقشعر الأبدان لسماعها من هول أحداثها، لكنها تحدث بين الثانية والأخرى على أرض الواقع فلم يعد المشهد بمستشفى غزة الأوروبى، بمعزل عما يحدث خارجه، الموت لم يعد يحاصر المدنيين وحسب بل ينتظره الطواقم الطبية بين اللحظة والأخرى، وهو ما وصفه الدكتور صالح الهمص، مدير التمريض بالمستشفى الأوروبى ل«الوطن»، الذى كشف الصلابة التى تقوى فؤاد الموظفات والممرضات اللواتى يؤدين واجبهن على أكمل وجه والمجازفة بأرواحهن: «تتعرض الأمهات العاملة والمرضعات لفقد أسرهن واستشهاد صغارهن أمام أعينهن.. الحزن أصبح رفاهية».
طبيبة نساء وتوليد تكشف معاناة الفتيات: «الفوط الصحية» رفاهية والسيدات يعانين بكتيريا عنقودية بسبب المناديل الورقية وقطع القماش تسمم فى الدم والتهابات فى جدار الرحم
ومنذ بداية الحرب على قطاع غزة فى أكتوبر من العام المنصرم، استهدفت غارات جوية إسرائيلية محيط المستشفى فى 31 أكتوبر 2023، وفى 19 نوفمبر 2023، بعد انتهاء حصار مجمع الشفاء الطبى وسيطرة القوات الإسرائيلية عليه، ذكرت منظمة الصحة العالمية أنها تخطط لإرسال بعثات لنقل مرضى الشفاء المتبقين إلى المستشفى الأوروبى ومجمع ناصر الطبى فى الفترة المقبلة، ليصرح رئيس لجنة الإنقاذ الطبى فى حالات الطوارئ فى المستشفى الإندونيسى بأنه تم إجلاء المرضى والموظفين فى المستشفى الإندونيسى إلى «الأوروبى» يوم 23 نوفمبر 2023.
«الوضع تغير بعد الحرب كلياً من ناحية دوام الموظفات مع تخطى اليوم ال 148 على الحرب، فهن يعملن بنظام ال24 ساعة»، هكذا شرح «الهمص» الدور البطولى للطاقم الطبى من المسعفات والممرضات وعاملات النظافة، اللواتى شهدن على فظائع الاحتلال الإسرائيلى، إذ كنّ هنّ ضمن ضحاياه إذ تجدهن ضمن قوائم الشهداء فى أى لحظة: «الحياة غير آمنة وفى أى وقت نتعرض للقصف أو نتلقى خبر استشهاد أحد منا، هناك ممرضات داوين جروح ذويهن وأخريات لقى أبناؤهن الشهادة».
«قبل الحرب كان مستشفى غزة الأوروبى، مجهزاً على أكمل وجه، إذ بلغ عدد الأسِرة 250 سريراً والطاقم الطبى 360 فرداً، بينهم 180 من القوى الناعمة، ومع السابع من أكتوبر انقلبت الموازين رأساً على عقب، حيث تمت مضاعفة عدد الأسِرة لتصل ل800 سرير، وأصبح الاعتماد بشكل كلى على المتطوعين من خريجى كليات التمريض فى قطاع غزة، لاستيعاب الكم الهائل من الجرحى بمختلف الأعمار الذين يتعرضون لإبادة الجماعية على مرأى ومسمع من الجميع دون شفقة أو رحمة، وصل عدد الموظفين الآن لحوالى 550 متطوعاً وموظفاً»، بحسب حديث «الهمص» ل«الوطن».
يكشف «الهمص» حجم الكارثة التى يتعرض لها سكان القطاع خاصة الطواقم الطبية، إذ تعرض البعض لترك منازلهم وأجبروا قسراً على مغادرة محل عملهم الذين ظلوا به لأعوام كمستشفى الشفاء والإندونيسى، بعد تعرضهم للقصف من قبل الاحتلال الغاشم، ليصبحوا ضمن قوائم النازحين واللاجئين الباحثين عن مأوى ومسكن لهم ولذويهم.
نفاد الموارد الطبية والمساعدات الغذائية والماء وانقطاع الكهرباء والوقود، معاناة تضيف للحرب ثقلاً داخل المستشفيات، إذ يفتقر إليها البعض حتى جعلهم يخرجون عن دائرة العمل، بجانب الحصار الذى تفرضه إسرائيل على القطاع، مع استهدافها للعديد من عناصر الجهاز الطبى والمسعفين، ما أسفر عن شطب عائلات بأكملها من سجلات القيد، مع قطع أوصال العائلات بسبب القصف والنزوح من منازلهم قصداً لأماكن الإيواء.
يؤكد «الهمص» أن النساء يمثلن نحو 50% من الطاقم الطبى من الموظفات والمتطوعات، اللواتى يخضن رحلة معاناة فى كل شىء، خاصة الأمهات المرضعات، فبعد غلق حضانة العاملات بالمستشفى أصبح الوضع كارثياً، ما تسبب فى تغيب البعض منهن كما عجزنا عن دفع رواتبهن، موضحاً بالقول: «اضطررنا لغلق حضانة الأطفال كونها اتُّخذت ملجأ لبعض العائلات التى فقدت منازلها».
يختتم مدير التمريض بالمستشفى الأوروبى حديثه ل«الوطن»: «تخصصات بعينها يفتقر إليها المستشفى الذى يعجز طبيباته والأطقم الطبية عن تدارك العجز فيها ما يتسبب فى وفاة الجرحى خاصة السيدات والأطفال، وأقولها بكل أسف نحن نعانى من مشكلات فى التخصصات، خاصة العظام، لأن عدد الإصابات مهول بشكل لا يقوى على الاستيعاب، بخلاف تخصص الأوعية الدموية والأعصاب وإصابات العمود الفقرى قد تحتاج للسفر خارج قطاع غزة، وتخصصات الولادة وأطباء التخدير، ليس هناك مقدرة على تأمين الأدوية والشاش وأدوات التعقيم».
ولادة مبكرة دون تخدير و«الرضيع» فى حاجة إلى حَضّانة
بعد مرور شهرين على الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة، أعلنت «أونروا» أن مراكزها فى قطاع غزة تؤوى 4 أضعاف طاقتها من النازحين، مشيرة إلى أن نحو 1.7 مليون نازح يلتجئون داخل 155 منشأة تابعة لها. جاء ذلك فيما أعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تعرض 343 مدرسة حكومية وأممية للقصف والتدمير والتخريب فى القطاع الفلسطينى.
بعد ظهيرة الحادى والعشرين من ديسمبر الماضى، ومع استمرار الحرب على غزة، فاجأها ألم المخاض وهى فى منتصف شهرها السابع، ليهرول زوجها بها مسرعاً إلى أحد المراكز الصحية التى كانت لا تزال تعمل وتستقبل حالات الولادة المبكرة وفور وصولها تعرفت عليها إحدى صديقاتها من الممرضات حيث تعمل نورا مروان، مسعفة فى إنقاذ المرضى ومداواة الجرحى، بعد قصف منزلها ووفاة عدد من أفراد أسرتها، بينهم والداها وأشقاؤها، وأصدقاؤها المقربون.
حالة نفسية سيئة تضاف للمعاناة الجسدية التى سيطرت على «نورا» نتيجة النزوح إلى أحد مراكز الإيواء، فالوضع ليس فى أحسن حالاته فهى تعيش مع زوجها وما تبقى من أسرتهم داخل خيمة، يفترشون الأرض وينامون على حصيرة صلبة لا تتناسب مع وضعها الصحى، بخلاف ندرة الطعام وأدوات التدفئة، فلم يكن بوسع زوجها تأمين أكثر من هذا، لتحاول الزوجة التعايش مع الوضع غير الآدمى، حتى أثّر على حالتها الصحية وعجّل بالولادة المبكرة قبل موعدها المحدد.
«شعرت بألم شديد فى جسدى لم أستطع تحمله أبداً، وهنا أيقنت بأننى على موعد مع ولادة مبكرة، حاولت تحمله لساعات حتى باءت محاولاتى بالفشل، كونى ممرضة وأعلم تلك الأعراض جيداً»، بحسب وصف «نورا» ل«الوطن» تلك الليلة القاسية التى عاشتها قبل وضع طفلها الثانى، إذ تختلف الولادة هذه المرة عن الأولى، إذ فرضت ظروف الحرب وضعاً استثنائياً، واحتمالية فقدانها لحياتها وجنينها محتملة فى أى لحظة، بحسب كلامها.
بصعوبة بالغة أمَّن زوج نورا سيارة لتنقل زوجته إلى أحد المراكز الصحية القريبة حيث تبعد مسافة 45 دقيقة عن المخيم الذى يعيشان به، وهناك استقبلتهما إحدى صديقاتها التى وفرت لها أدوات بسيطة حتى يتسنى إجراء عملية الولادة القيصرية.
نورا مروان «مسعفة» تحملت آلام الولادة من دون بنج وفقدت طفلها بعد ساعات من الإنجاب: الولادة فى القطاع طرأت عليها تغيرات غير آدمية
جرى تجهيز «نورا» للولادة القيصرية بتخدير موضعى، وبعد مرور أكثر من ساعتين ونصف الساعة، قرّت عيناها بطفلها الذى سمته «كرم»، لكن سرعان ما تطلب الأمر تحويله إلى حضّانة لتلقى الرعاية الصحية.
حالة المولود الذى أتى للحياة قبل شهرين من موعد ولادته، جعلته يعانى مشكلات فى التنفس. لم تتمالك «نورا» أعصابها وأجهشت بالبكاء وهى تصف مشهد الولادة والآلام التى فاقت طاقتها وقدرتها، لتروى «نورا» أصعب لحظاتها: «عانى ابنى من مشكلة بالتنفس أشبه بالحشرجة حدثت معه وقت الولادة.. أعطونى شاشاً معقماً للعض عليه وقت العملية لتخفيف حدة الألم».
تصلب زوج «نورا» مكتوف الأيدى، يحاول إجراء الاتصالات حتى يؤمّن لطفله سريراً فى حضّانة الأطفال بمستشفى الشفاء، لكن دون جدوى، حيث أبلغته إحدى الممرضات من صديقات زوجته بأن الوضع لا يتحمل استيعاب الأطفال الخدج: «صديقتى أجهشت بالبكاء بسبب عدم قدرتها على تأمين مكان ليتلقى فيه طفلى الرعاية، وأقسمت أن معظم الأطفال تم جمعهم على سرير واحد، بسبب قلة الإمكانيات وانقطاع الكهرباء، وأنهم يحاولون تدفئتهم بالبطانيات، رغم حاجة كل طفل منهم للبقاء فى حضّانة خاصة مجهزة لرعاية أوضاعهم».
ضعف جسد الطفل وخفة وزنه، وحالته الصحية التى ساءت بعد ساعات من ولادته فضلاً عن حالة الأم التى لم تقوَ على إرضاعه طبيعياً أو توفير الحليب الصناعى بسبب الظروف القاسية للحرب، جعلتها تفقده ليودع الحياة قبل أن يخطو خطواته الأولى بها وقبل أن تقر عيناها به، وعبّرت عن حسرتها على رضيعها الذى قتلته فظائع الاحتلال الإسرائيلى ووحشيته فى التعامل معهم: «ابنى مات.. ابنى فاضت روحه.. لن ننسى يا إسرائيل ما فعلتِه بنا وبفقيدى وفلذة كبدى».
قِطع الكارتون والمناديل الورقية بدائل للفوط الصحية
كارثة أخرى أثارتها الحرب على غزة، تتمثل فى «الفوط الصحية»، فبحسب الجهاز المركزى الفلسطينى للإحصاء؛ يعيش فى قطاع غزة 2.2 مليون نسمة، تُشكل النساء من بينهم 49%، ما يتجاوز المليون امرأة، أغلبهن اعتماداً على إحصاءات أعمار النساء الفلسطينات يحتجن للفوط الصحية.
«اللى مماتش من القصف هيموت من المرض وقلة الحليب والطعام وحفاضات الأطفال والفوط الصحية للنساء»، معاناة جديدة يضيفها الاحتلال للكارثة التى حلت بشعب غزة، التى تواجه الأطفال والسيدات، فلم تعد هناك وفرة تؤمّن احتياجاتهم وتحافظ على سلامتهم الصحية والجسدية، فضلاً عن تفشى المرض والعدوى البكتيرية، هكذا كشفت نسرين مجد، طبيبة النساء والتوليد فى مستشفى الشفاء، عن تفاقم الوضع المأساوى الذى يلتهم جسد المرأة الفلسطينية.
أرحام النساء أصبحت مادة خصبة لنشاط العدوى البكتيرية
أصبحت أرحام النساء مادة خصبة لنشاط العدوى البكتيرية، فلم تعد الفوط الصحية من مستلزمات الرفاهية، فى ظل غياب أدوات النظافة والماء فى أنحاء القطاع، ما خلق حلولاً بديلة لحظية تؤدى الغرض وتنقذ الموقف لكنها ليست آمنة، إذ لجأن لاستخدام المناديل الورقية وقطع القماش وأحياناً الكارتون.
حال طبيبة النساء لم يختلف كثيراً عن غيرها من سيدات القطاع، فهى واحدة ممن عانين من شُح الفوط الصحية وقت العُذر الشهرى، ما جعلها تلجأ للحلول البديلة فى ظل العدوان الغاشم على غزة وافتقار الرفاهية التى كانت قبل السابع من أكتوبر: «البكتيريا العنقودية فتاكة وأنهت حياة شابة مراهقة بعد استخدام قطعة قماش بالية، وصلت للرحم وقناة فالوب وأحدثت التهاباً فى الحوض وعليه تعرضت لتسمم فى الدم».
الولادة فى القطاع ليست كما كانت من قبل، إذ طرأت عليها تغيرات غير آدمية، إذ تُجرى فى الهواء الطلق وداخل المخيمات بعدما تعطلت بعض المستشفيات عن العمل لنقص الإمكانيات وتعرض أجزاء منها للقصف ونفاد الأدوية والتخدير: «إحدى السيدات لفظت أنفاسها الأخيرة قبل ولادة طفلها بعد تعرضها لنزيف حاد وأخرى لم يلتئم جرحها واضطرت للنزوح إلى الجنوب وعانى رضيعها من الحمى وبعد ساعات من الولادة ودّع الحياة».
الوضع داخل مستشفيات الولادة ربما لم يختلف عن خارجها، فى ظل غياب أدوات التعقيم والتخدير وحضّانات الأطفال، إذ تتعرض العمليات الجراحية للفشل بسبب نفاد الوقود وانقطاع الكهرباء: «الإجهاض والولادة المبكرة حال معظم السيدات وقمت بتوليد سيدة حامل فى توأم ونجت من الموت بعدما حفظتها العناية الإلهية هى وطفليها، وما هى إلا ساعات حتى توفيت وهى تحتضنهما»، حسبما اختتمت الطبيبة الفلسطينية، نسرين مجد، حديثها ل«الوطن».
ومنذ يوم السابع من أكتوبر 2023، استشهد أكثر من 28650 مواطناً فلسطينياً على يد الاحتلال الإسرائيلى، حوالى 70% منهم نساء (نحو 7800) وأطفال (أكثر من 13000) وحتى ذلك الحين أصيب أكثر من 68500 فلسطينى، نسبة كبيرة منهم من الأطفال، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 8000 شخص مفقودون تحت الأنقاض، مع عدم الحصول على أرقام دقيقة عن المفقودين بسبب الهجمات المستمرة وعدم كفاية مهمات الإنقاذ.
يوسف «أبو شعر كيرلى» فى ثلاجة الموتى
«يوسف شعره كيرلى وأبيضانى وحلو.. شوفتم ابنى.. ابنى يوسف»، كلمات مؤلمة لفظت بها أم مكلومة على طفلها الذى لا حول له ولا قوة، لم يكن همه فى الحياة سوى اللعب واللهو وتناول الحلوى، إذ قُدر له أن يولد فى وطن كُتب عليه الاستعمار والاحتلال الإسرائيلى، يتلهف لسفك دماء شعبه دون التفرقة بين طفل وامرأة أو شيخ.
داخل مستشفى ناصر، بدأ المشهد الذى أبكى ملايين القلوب فى شتى بقاع الأرض، بطلته الأم روان حسين، وزوجها طبيب الأشعة محمد حميد أبوموسى، الذى شهد على مدار 14 يوماً من اندلاع الحرب على غزة، آلاف الجرحى والشهداء، حتى أصبح ابنه «يوسف» آخر العنقود واحداً من بين الشهداء.
20 دقيقة كانت تلك مدة رحلة البحث عن «أبو شعر كيرلى» بين طرقات المستشفى وغرف الإنعاش والطوارئ حتى ثلاجة الموتى، القلب ينبض والعقل يترجم إشارات المخ والتى لا تقوى الأم وزوجها على تصديقها، حتى وجد آخر العنقود ذو ال7 أعوام، جثة هامدة بلا حراك وبإصابة طفيفة، الأب فى صدمة يحتسب ابنه شهيداً، والأم انهارت من البكاء وبين أحضانها نجلها الأوسط «حميد» الذى رأى بعينه شقيقه وسط الشهداء.
بالعودة لساعات قليلة للوراء من اليوم الخامس عشر للحرب على قطاع غزة، ستكتمل الصورة بمشهد استشهاد الطفل «يوسف أبوشعر كيرلى»، الذى كان يقبع داخل منزله رفقة أشقائه ووالدته، بعدما ودع قبلها والده طبيب الأشعة، وطبع على جبينه قبلة واحتضنه للحظات فلم يعرف آخر العنقود بأنه يودع أباه للأبد.
«خرج زوجى كعادته لأداء مهامه، وقبلها يوسف حضنّا كلنا وباسنا، وقعدنا نتفرج على التليفزيون، وبعدين حصل قصف ما شفت شىء»، هكذا استرجعت «روان» تفاصيل ليلة القصف على منزلها واستشهاد «أبو شعر كيرلى» وسط تنهيدة وصوت حاول حبس دموعه والتحلى بالقوة حتى غلبتها عاطفتها: «طلب منى ياكل كيك.. أبوه اشتراه كان بيحبه وبعد 10 دقائق صار القصف».
فى تلك اللحظة أثناء القصف فقدت الأم حاستى السمع والبصر، وما هى إلا دقائق حتى بدأت تستوعب وتعى ما يحدث حولها، حتى سمعت صوت ابنتها الكبرى: «كانت تحت السجادة، مسكت إيدى ووقتها لقيت ابنى حميد».
بعدها هرولت الأم مسرعةً إلى مستشفى ناصر، حيث مقر عمل الزوج، بحثاً عن فلذة كبدها بين المصابين والجثث بعد عملية القصف، مرددةً: «يوسف شعره كيرلى وأبيضانى وحلو وينه حبيبى»، حتى وقعت عيناها على زوجها الذى تلقى الصدمة قبلها بثوانٍ وظل يفكر كيف يمهد لها الأمر بعد دخوله غرفة الإنعاش وهناك ترجم نظرات صديقه الذى تعرَّف على «يوسف» من صور فوتوغرافية التقطها أحد المصورين الصحفيين ليتعرف عليه من ملابسه، ليجده جثة هامدة رفقة أبناء شقيقه وزوجته التى تقطعت لأشلاء.
حديث منفرد دار فى ذهن الطبيب والأب الذى وجد ابنه ضمن عشرات من الجثامين داخل المشرحة، كيف يخرج به جثة هامدة لوالدته وأشقائه، الذين نجوا من القصف ليرحل هو ويودع الحياة بطريقة مأساوية وقاسية، الأم استعادت لحظة عثورها على طفلها ل«الوطن» كأنها تحدث للتو رغم مرور أشهر على الحرب: «أصريت أشوفه وأبوسه قبل الدفن وآخده فى حضنى.. حميد أخوه دخل فى حالة من الانهيار العصبى وظل يضرب أباه ويكذّب ما رأى».
تحاول «روان» لملمة شتاتها وتقوية أطفالها الذين لا يعرفون الفقد ولم يذوقوا مرارته يوماً ولا تعى عقولهم وقلوبهم حجمه، فمع استمرار الحرب على غزة، والانتقال لغرفة يعيشون بها داخل منزل أحد الجيران المحيطين بهم، الذين عرضوا عليهم العيش بها بعد فقدانهم منزلهم ليلة القصف: «استضافنا ناس فى منزلهم عايشين فى غرفة ومحبوسين وفيها حمام فقط، زوجى يعيش فى حالة نفسية سيئة يحاول ألا يظهر ما بداخله لكنه لا يقوى من ألم الفراق».
«نعانى نقص الطعام، أغلبه معلب يفتقر إلى أى معادن وفيتامينات»، معاناة أخرى تواجه أسرة «أبو شعر كيرلى» بعد استشهاده، والتى تحاول الأم تخطيها رغم قلة الحيلة، للحفاظ على ما تبقى من أطفالها: «جورى وحميد ما قدروا يتخطوا وفاة يوسف، بيصحوا من النوم مفزوعين من أصوات القصف وبيحلموا بحدوث قصف ويتكرر نفس المشهد، صاروا عصبيين جداً وحساسين من كل كلمة تقال لهم خائفين أن نتركهم أنا وأبوهم، ابنى ما تخطى يوم استشهاد يوسف وما حدث داخل المستشفى، ودائماً يحكى لى بدى أخوى يلعب معى بدى أخوى يكون معى».
وصفت «روان» الحالة التى أصبح عليها زوجها، فهو لا يزال يستكمل مهامه ويؤديها على أكمل وجه داخل المستشفى، رغم ما حل به من آلام وأوجاع لا يستطيع الزمن محو تفاصيلها من الذاكرة: «نفسيته تعبانة جداً، صار يخاف علينا أكتر من الأول، يرى ناس مقطعة وجروح وحروق بتخوف، ويشعر بخوف الناس الهاربة من القصف، ويطمئن علينا من وقت للآخر».
«حى الزهراء» تحول إلى كومة من الركام: فقدان الأهل والأحبة
فى عام 1998 أنشئت مدينة الزهراء بجوار مستوطنة نتساريم بقرار من الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وذلك بهدف إيقاف زحف المستوطنة، والتى يحدها غرباً البحر المتوسط وشرقاً قرية المغراقة، أما جنوباً فوادى غزة، إذ بدأت بحوالى 30 برجاً قبل أن تتوسع فى الأبراج السكنية العصرية والفيلات وتصبح من أكثر المدن فى القطاع المخططة بنظام حديث.
رغم قصف الاحتلال لقطاع غزة منذ يوم السابع من أكتوبر، فإن حى الزهراء لم يتعرض للقصف لأسبوعين تقريباً، وقد حاول بعض السكان البقاء والتعايش بين الأنقاض، ولكن معظمهم أخذوا ما استطاعوا إنقاذه من ممتلكاتهم وتفرقوا فى جميع أنحاء القطاع الفلسطينى.
طبيبة فلسطينية تروى المعاناة داخل المخيمات.. «نعيش على الخبز وننام على الحصير»
بعد مرور نحو 12 يوماً من اندلاع الحرب واستهداف غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلى، وتحديداً فى يوم 19 أكتوبر 2023، بدأت مأساة طبيبة الأسنان الفلسطينية دعاء نعيم الكحلوت، التى تخرجت فى إحدى الجامعات المصرية، إذ عاشت فى منزلها المجهز بأحدث الأجهزة أكثر من 25 عاماً، والآن تقبع داخل خيمة بدائية غير آمنة وتفترش الحصير وتنام على الأرض.
ابتعدت «دعاء» عن المخيم الذى انتقلت إليه هى وأسرتها مسافة لا تقل عن 15 دقيقة سيراً على قدميها، علّها تستطيع التقاط شبكة للهاتف المحمول، حتى يتسنى لها سرد معاناتها فلم تعد تلك الطبيبة المرفهة التى تعيش حياتها كما يحلو لها، فبعد قصف منزلها، اضطرت هى وأسرتها للعيش فى مخيم اللاجئين والنازحين، بعدما تحولت الأبراج السكنية فى منطقة الزهراء فى غزة إلى كومة من الركام.
«تحولت من طبيبة لنازحة هدفها فى يومها الحصول على قوتها ومكان يؤويها بعد النزوح، أجبرنا على إخلاء منزلنا بعد 25 عاماً وطلب منا تركه خلال 10 دقائق وتم قصف 30 برجاً سكنياً فى منطقتنا»، هكذا روت ل«الوطن» الشابة العشرينية «دعاء»، التى تحولت حياتها وانقلبت رأساً على عقب باندلاع الحرب على غزة، وكشفت مأساتها وكيف تجد صعوبة فى أبسط الأشياء التى كانت تقوم بها بكل سهولة، كارتداء الملابس النظيفة ودخول الحمام فى أى وقت والتدفئة من برد الشتاء القارس.
منزل «دعاء» حينما تنظر إليه فى الماضى وكأنك ترى لوحة فنية مكتملة الأركان، لا ينقصه شىء مجهز على أحدث طراز، لكنه تحول لرماد فى لمح البصر: «كان تأسيسه صعب وأبوى ضل 25 سنة حتى قدر يدبره لينا، كان يحوى أكثر من 20 عائلة غيرنا، جميعنا خرج منه لا يحمل غير الملابس التى يرتديها ما أخذت أى شىء».
قبل الحرب كانت الطبيبة الفلسطينية تعمل فى أكثر من مركز وعيادة أسنان، تستطيع من خلال راتبها الشهرى مساعدة أسرتها فى تدبير شئون حياتهم ودفع ما عليهم من أقساط، لكن الآن هى لا حول لها ولا قوة، بعد قصف منزلها ومحل عملها، فضلاً عن الوضع المأساوى الذى أصبحت عليه: «كنا فى بيتنا أملك غرفة خاصة وبعرف أشحن هاتفى المحمول من كُبس الكهرباء جنب السرير، الآن أفترش الحصير وأنام على الأرض الرطبة ومياه الأمطار تحيط بنا وتتسلل لداخل الخيمة فلا وسيلة للتدفئة ونعيش على الخبز».
كانت منطقة حى الزهراء، واحدة من أجمل مناطق قطاع غزة، أبنيتها يغلب عليها طابع الأبراج والفيلات، تمتاز بالشوارع الواسعة، المناطق الغربية منها والجنوبية تغلب عليها الأراضى الزراعية، كما يوجد بها جامعة تحوى عدداً هائلاً من الطلاب، بجانب المدارس والخدمات والمراكز الصحية لخدمة الأهالى، والتى أسسها الرئيس ياسر عرفات، فى تسعينات القرن الماضى، ومع الحرب تدمرت بشكل كامل جراء غارات الاحتلال الإسرائيلى، وفقاً للطبيبة الفلسطينية دعاء الكحلوت.
ذاقت الشابة الفلسطينية مرارة الفقد وآلامه بعدما تعرض منزل شقيق والدتها للقصف ليستشهد خالها وأبناؤه، كما يمكث عدد من أفراد الأسرة داخل العناية المركزة فى حالة حرجة، وفى شمال غزة حيث يقبع عمها تعرض هو الآخر للإصابة إثر قذيفة دبابة من قبل الاحتلال الإسرائيلى.
«عمى أحمد الكحلوت، مدير مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة، اقتاده الاحتلال إلى جهة مجهولة خارج المستشفى وهو الآن يقبع داخل السجون لا نعرف عنه شيئاً»، كان ذلك الجانب المأساوى الذى تعيش به عائلة «الكحلوت»، فمع مرارة الفقد وفراق الأحبة، كانوا يتوقون إلى سماع أخبار تطمئنهم على فرد آخر من أسرتهم، الذى يعتبر واحداً من أهم الكوادر الطبية فى القطاع، الذى احتجز هو و70 شخصاً آخر من الطواقم الطبية بعد اقتحامها، وعبرت عن حزنها وقلة حيلتها: «انقطع الاتصال أيضاً عن زوجته وأبنائه.. لا نعرف عنهم شيئاً ولا نستطيع الاطمئنان عليهم».
لحظات صعبة ربما تفوق قدرة تحمّل الشابة العشرينية، التى وجدت ذاتها فى دقائق معدودة بلا مأوى، الذكريات تسيطر عليها، تقارن بين حالها فى الماضى وما هى عليه الآن: «حتى الآن مش قادرة أستوعب حجم الفرق اللى كنت عايشة فيه بين الماضى والحاضر، بأبعد عن الخيمة مسافة 15 دقيقة وأمشى مع الجو البارد حتى أقدر أستخدم هاتفى وأدخل الحمام، مرت علينا أيام لا نملك شراء قوت يومنا وطعامى يكفى أسرتى المكونة من 8 أشخاص».
«القصف كان كتير قريب منا.. تعرضنا له أكثر من مرة كل اللحظات أصعب من بعضها»، لم تقوَ «دعاء» على السيطرة على دموعها التى غلبتها، وأجهشت بالبكاء بشكل هستيرى، لما وصل إليه أهل غزة، إذ ترى المقربين منها بلا حراك فى لمح البصر، معبرةً عن ألمها: «مفيش أصعب من تحول الشخص من مكانة اجتماعية مرموقة وفجأة فى يوم من الأيام تطلب المساعدة من الناس من أجل الطعام والحياة، فقدت أصدقائى وأسرتى وهويتنا وكل شىء.. ننتظر الموت فى أى لحظة».
منذ اندلاع الحرب تؤدى «الكحلوت» وأسرتها مهامهم الطبية على أكمل وجه، من مداواة المرضى والجرحى، وحتى مع قصف منزلهم والانتقال إلى مخيمات النازحين، لا تزال تستكمل مهامها لخدمة المحيطين بها، إذ تطوعت هى وشقيقها الطبيب البشرى وانضمت لنقطة طبية فى مراكز إيواء، بعد نزوحهما إلى منطقة خان يونس: «فى أيام الحرب قبل قصف المنزل، كنت أنا وأخويا مجهزين حقيبة إسعافات أولية وكانت العيادة اللى بنشتغل فيها مش بعيدة عن البيت وكان أى حد محتاج مساعدة وتعرض للإصابة نتيجة القصف كنا بنغرّز الجرح».
حال السيدات فى غزة فى أسوأ حالاته، إذ تفتقر المستشفيات والمراكز الصحية للأدوات اللازمة للولادة ليكون الاعتماد على الشاش المعقم هو الحل الذى يلجأ إليه البعض، كوسيلة للتخفيف من حدة الولادة القيصرية، ومَن حالفهن الحظ بولادة أجنة سليمة معافاة، تبقى معاناتهن هى غُرز الولادة وفكها وتنظيف وتعقيم الجرح، ما جعل «الكحلوت» تتطوع لخدمة السيدات لتضميد الجروح والحروق: «قبل قصف منزلنا كنت أذهب للمحيطين بنا من النساء داخل منازلهن للتغيير على جرح الولادة وفك الغرز، ومعالجة الإصابات الطفيفة التى لا تحتاج الذهاب للمستشفى».
لم تيأس الشابة الفلسطينية ولم تتخاذل عن القيام بواجبها كطبيبة تحافظ على أخلاقيات وميثاق المهنة السامية، إذ تعاونت مع شقيقها الأكبر بعد النزوح لخان يونس، من خلال إجراء الفحوصات على المصابين ووصف الأدوية التى تتناسب مع الوضع الصحى: «شقيقى يحدد الأدوية اللازمة وأنا أعطيهم استشارات طبية تخص الأسنان».
«اضطراب ما بعد الصدمة» يصيب نساء غزة
من جهتها حللت الدكتورة هالة حماد، استشارى الطب النفسى للأطفال والمراهقين، عضو الكلية الملكية البريطانية للطب النفسى، استشارى معتمد من المجلس الطبى البريطانى، الوضع النفسى الذى تعيشه نساء غزة، إثر العدوان الغاشم الذى لحق بهن فى السابع من أكتوبر، والآثار النفسية التى لحقت بهن وبأسرهن، خاصة سيدات الأطقم الطبية اللواتى عشن أصعب اللحظات الحالكة داخل المستشفيات ومخيمات النازحين واللاجئين، واصفةً الوضع بالمأساوى، إذ يعانى البعض منهن اضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة لأصوات الرصاص والقنابل وتعرض البعض منهن لفقدان أسرهن نتيجة القصف.
«أصوات القنابل والمدافع والمسدسات مرعبة وتؤثر بالطبع على عملية الولادة وعلى الأطفال والرضع»، بهذه الكلمات كشفت «حماد» الحالة التى تبدو عليها النساء خاصة الحوامل، فمنهن من فقدت جنينها بعد أشهر من الحمل، محاولةً تخطى ما يحدث حولها حتى تقر عينها بطفلها وأن يولد معافى، مشيرة إلى أن «الحالة المزاجية للأم يجب أن تكون مستقرة وسوية لأنها تؤثر على تكوين مخ الأجنة، فالطفل يتعرض لمادتى الأدرينالين والنورأدرينالين، اللتين ترتبطان بالإثارة والشعور بالقلق والخوف، وإصدار إشارات عصبية كرد فعل فى بعض المواقف بطريقة عكسية كما أنه يمكن أن يسبب زيادة معدل نبضات القلب وارتفاع ضغط الدم، كما يمكن أن يؤثر الكورتيزون على نمو الطفل، ناهيك عن الضغط النفسى والجسمانى خلال فترة الحمل، ومع آلام فقد الأقارب والحزن يمكن أن تُصاب الأم باضطراب ما بعد الصدمة».
تخلق أصوات المدافع والمسدسات حالة من الاضطراب واكتئاب ما بعد الولادة لدى السيدات اللواتى وضعن أطفالهن فى ظروف استثنائية يمكن أن تؤثر بالسلب على الطاقة النفسية للأم ما يجعلها لا تقوى على مراعاة جنينها وتفقد إحساسها بالأمومة، بحسب استشارى الطب النفسى.
وحللت الطبيبة النفسية حالة كل سيدة من نساء غزة اللواتى صمدن رغم مرارة الآلام التى لحقت بهن وأسرهن، فالبداية كانت مع الطبيبة الفلسطينية غادة أبوعيدة، التى اختبرها القدر فى ابنتها فلذة كبدها، التى لمحت عيناها ملامحها على حمالة المصابين: «حالتها مؤلمة ومرعبة ولكن من خلال رعايتها للمرضى تتناسى آلامها من خلال الإحساس بالمسئولية والعطاء والرضا عن الذات، وهو ما تتبعه للتغلب على الأعراض، فليس لديها وقت للتأمل والتفكير فيما حدث معها، وهى طريقة وجدتها بذاتها للتغلب على الفقد وحالات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، ولكنها ما زالت وسط الحرب، وحين تزول تلك الغمة عن أهل غزة، ستتلقى الرعاية النفسية بشكل منتظم حسب حالتها، سواء عن طريق الأدوية أو جلسات التعافى من قبل الأطباء النفسيين».
انتقلت الطبيبة النفسية للحالة الثانية وهى والدة الطفل «يوسف أبوشعر كيرلى»، التى تعيش بين مرارة الفقد ومواساة أطفالها الذين لفظ شقيقهم الأصغر أنفاسه الأخيرة أمام أعينهم، التى تحتاج للتعافى مما تمر ومرت به لسنوات عدة بعد انتهاء الحرب، فهى بحاجة لمساندة ورعاية نفسية: «لا تستطيع التعافى أثناء الضغط النفسى فى ظل الحرب، تحاول تخطى الأزمات ورعاية أطفالها، وبعد استقرار الحياة فى غزة، ستتيح لها الفرصة فى تلقى العلاج من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، الأم تعافر للبقاء وتصارع نوبات حزنها وانكسارها».
«وجدت دعاء السلوى فى رعاية الآخرين»، هكذا وصفت «حماد» الحالة التى أصبحت عليها الطبيبة العشرينية بعدما انقلبت حياتها رأساً على عقب، وهى تعيش فى المخيمات هى وأسرتها، بعد قصف منزلها، ووصفتها بأنها تعاملت مع الصدمة بالمكابرة ومحاولة تخطى الصراع النفسى الذى يدور بداخلها، فلم تقبع داخل آلامها بل حولت محنتها لمنحة فى مساعدة الآخرين: «هى فى مرحلة الكفاح والمواجهة ولكن هناك مرحلة ستمر بها من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق ولكن ربما يضمد جراحها عمل الخير الذى قامت به فتشعر بالتحسن والجزاء».
وصفت «حماد» حالة الطبيبة الفلسطينية بالمرعبة والمؤلمة، فرغم مرارة الفقد التى تعيشها «غادة»، بعد استشهاد عدد من أسرتها، وكادت ابنتها تلحق بهم، فإنها تؤدى واجبها المهنى على أكمل وجه، إذ تتناسى أحزانها وتعمل على إسعاف وتضميد جراح المرضى، فى شجاعة وثبات، مختتمة حديثها ل«الوطن»: «لديها إحساس بالعطاء وهذه الطريقة التى اتبعتها لمواساة ذاتها، فهى ليس لديها وقت للتعبير عن الحزن والتفكير فيما حدث معها، كونها ما زالت وسط الحرب، فليس هناك مجال للاستقرار النفسى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.