«لقد دعتنى الظروف الحسنة والسيئة كما تدعو غيرى من المصريين إلى مشاركة بعض الأصدقاء من الأقباط فيما يلم بهم من الخير والشر وحضور بعض حفلاتهم الدينية فى الكنائس وفى الفنادق وفى الدور، فلست أدرى كيف أصف هذا الألم الذى يثيره فى نفسى الاستماع إلى صلواتهم يتلونها فى لغة عربية محطمة أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة الدين مهما يكن، ولا تلائم ما ينبغى للمصريين جميعًا من الثقافة اللغوية، لقد عجزت عن مقاومة هذا الضيق فصارحت به بعض كبار الأقباط وألححت عليهم وجوب العناية بالترجمة الصحيحة النقية لكتبهم المقدسة إلى العربية، فليست اللغة العربية لغة المسلمين فقط ولكنها لغة الذين يتكلمونها مهما تختلف أديانهم». السطور السابقة فقرة من كتاب مستقبل الثقافة فى مصر لعميد الأدب العربى طه حسين والذى صدر عام 1938، قرأها الباحث المرموق والمحامى المعروف نبيل منير حبيب وانفعل بها، وأثارت لديه تساؤلات على رأسها، متى اندثرت اللغة القبطية؟ وكيف؟ ولماذا؟ وهل يمكن إعادة إحيائها مرة أخرى؟، وهل يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بأسلوب جميل ورصين وعبارات رشيقة وجذابة تناسب العصر الحالى وتلائم الجيل الجديد وتحافظ على المفاهيم الدينية الصحيحة؟، شغلت الإجابات عن هذه الأسئلة نبيل منير وظل عدة سنوات يبحث وراءها حتى خرج بدراسة عميقة ودقيقة حصل من خلالها على الماجستير من البيت الانطاكى للدراسات اللاهوتية بجامعة بنسلفانيا بأمريكا وطبعها مؤخرًا فى كتاب من إصدار دار نشر «جذور»، تحت عنوان «تعريب صلوات الكنيسة القبطية فى القرن الثالث عشر.. أولاد العسال»، وتتبع نبيل فى الدراسة تاريخ اللغة القبطية ومتى ظهرت؟، وهو يرجعها إلى الهيروغليفية، ويقول هى الحلقة الأخيرة من حلقات اللغة المصرية القديمة التى تكلم بها وكتبها قدماء المصريين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، ويشرح أن اللغة المصرية مرت بعدة مراحل، الأولى المصرية القديمة وهى لغة الأسر الفرعونية من الأولى إلى الثامنة ونجدها فى نصوص الأهرام، والمرحلة الثانية المصرية المتوسطة واسُتعملت من الأسرة التاسعة حتى الثامنة عشرة، والثالثة المصرية الحديثة وامتدت حتى الأسرة الرابعة والعشرين، وبعدها اللغة الديموطيقية والتى اسُتخدمت فى الكتب والوثائق منذ الأسرة الخامسة والعشرين إلى آخر عصر الرومان، وأخيرًا القبطية، ويستطرد «إن الكتابة بالخط القبطى ظهرت بدخول اليونانيين البطالمة مصر واستخدم المصريون الأبجدية اليونانية مع إضافة سبعة حروف من اللغة الديموطيقية»، ولكن متى تم تعريب اللغة القبطية وبالأدق تعريب مصر؟ يعتمد المؤلف فى الإجابة عن هذا السؤال على عشرات الكتب التى أرخت للفتح العربى الإسلامى لمصر سواء من المؤرخين المسلمين أو الأقباط، وكذلك بعض الدراسات الحديثة، ويصل نبيل من خلال هذه المؤلفات إلى أسباب تحول اللسان القبطى إلى العربية، حيث يُجمع كتاب التاريخ القبطى والإسلامى أن أول ضربة مباشرة واجهتها اللغة القبطية كانت عام 706 ميلادية حينما قرر الوالى الأموى عبد الملك بن مروان والى مصر إحلال العربية مكان القبطية فى الدواوين حيث كانت من قبل يتم تدوين الشئون الإدارية بالقبطية وتُترجم المراسلات إلى العربية، وقد أدى هذا القرار إلى سحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام القبطية لأن بموجبه أجُبر عشرات الموظفين فى الدولة على تعلم العربية لكى يحافظوا على مواقعهم الوظيفية، ولكن أكبر الضربات جاءت عندما أمر الحاكم بأمر الله بمنع التحدث بالقبطية فى الطرقات والاقتصار على اللغة العربية فقط وزاد من الأمر إقدام السلطات على قطع لسان كل من يضبط متحدثًا بالقبطية، كما زاد عدد المصريين الداخلين للإسلام هربًا من الجزية وطمعًا فى المكانة، ولكن متى تم تعريب الصلوات؟ يجيب نبيل فى دراسته «يذكر التاريخ أن البابا غبريال بن تربك البطريرك السبعون أصدر قرارًا بالسماح بقراءة الإنجيل والمواعظ باللغة العربية بعد تلاوتها بالقبطية، وكان الدافع الرئيسى أنه كثر غير القادرين على متابعة الصلاة باللغة القبطية داخل الكنائس، وكانت نتيجة ذلك الجهل بالأمور الدينية»، ويستطرد نبيل: بالطبع اختلف الأقباط حول القرار بين مؤيد ومعارض والرأى الأول يرى أن المُصلى يجب أن يفهم الشعائر الدينية فهمًا صحيحًا لكى يمارسها بشكل سليم، أما الرأى المعارض فقد اعتبر أنصاره أن العربية لغة دنس ولا يصح استعمالها فى صلوات الكنيسة، ويعترض نبيل على كلمة دنس ويقول لا توجد لغة مقدسة ولا دنسة بالمسيحية، فاللغات ما هى إلا رموز يتعامل بها البشر، وعمومًا فقد ادى قرار البابا غبريال إلى أن تصبح القبطية فى حكم اللغات الميتة فى رأى البعض، ولكن الحقيقة أن اللغة القبطية لم تمت بفضل جهود عدد من الشخصيات قاموا ببعض الإجراءات لإبقائها على قيد الحياة وعلى رأسهم البابا كيرلس الرابع الذى كان يعاقب الكاهن الذى يصلى فى الهيكل بغير اللغة القبطية، وجعل دراستها إجبارية فى مدارس الأقباط، وينتهى نبيل منير إلى عدة توصيات فهو يطالب الأزهر والكنيسة بدراسة كتب التراث، وحصر وحذف المغالطات والمصطلحات الموجودة فيها والدافعة للتعصب، ومحاولة كتابة تاريخ محايد بنظرة علمية تعالج الاحتقان الطائفى، كما أوصى بتشكيل لجنة متخصصة فى تعريب اللاهوت وإعادة كتابة الكتب الطقسية بلغة عربية صحيحة تليق بالكنيسة وصلواتها، واستغلال وجود أقسام للغة والأدب القبطى ببعض الجامعات المصرية فى إصدار كتب عن تاريخ اللغة القبطية بشكل علمى، وإصدار قاموس قبطى عربى مع تحديث بعض المصطلحات لتواكب العصر، وأخيرًا يطالب بتدريس اللغة القبطية كلغة ثانية فى المدارس مثلها مثل اللغات الأجنبية الأخرى، وهى توصية من الصعب تطبيقها فى ظل عدم وجود كوادر كافية لتدريسها فى كل المدارس، ولكن يمكن تدريسها مع الهيروغليفية فى أقسام اللغات والتاريخ وفى كلية الآثار وزيادة أقسام القبطيات بالجامعات المختلفة، ولا ننسى أنه يجب الاهتمام باللغة العربية وتحديث طرق تدريسها وتحبيبها للطلاب والدارسين فهى كما قال طه حسين «ليست لغة المسلمين فقط ولكنها لغة الذين يتكلمونها مهما تختلف أديانهم».