منذ أيام وتنهش الحرب أرجاء السودان مخلفة دماء العديد من الضحايا والمصابين وأيضًا المفقودين، ونزوح الملايين من أبناء الشعب الشقيق لتنفتح بوابة أخرى من الصراع داخل الوطن العربى بعد بزوغ أمل الرجوع إلى وحدة الشرق الأوسط وإزالة الخلافات بين الأشقاء آخرها سوريا. ومع التعمق فى رؤية المشهد من الداخل السودانى، نستطيع أن نرى ثمة أسبابًا عديدة تقف فى خلفية انفجار هذه الحرب، وعندما تقع المعارك فجأة لتقوض الواقع السياسى، تنفجر كثير من علامات الاستفهام لتطرح أسئلة جوهرية حيال جدواها، وأسبابها، ومآلاتها، وعلاقتها بسياق الحرب فى التاريخ السياسى للسودان وواقعه وأيضًا مستقبله. على مدار أكثر من نصف قرن تواجه السودان العديد من الانقسامات الداخلية، والتى كان من ضمنها انفصال الجنوب عن الشمال إلا أن هذه المرة الحرب مختلفة وتداعياتها ربما تكون كارثية، فوفق خبراء لن تتوقف الحرب عند الخرطوم فحسب فإقليم دارفور ربما يكون الضحية القادمة.. وربما لن يكون الضحية الأخيرة للأراضى السودانية. فرقاء الموقف أزمة الحرب السودانية لم تبدأ فى القريب، إلا أن البعد التاريخى لها يجعلها تسبق تاريخ اندلاعها بعشرة أعوام، عندما كان خط الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان على نفس خط ميليشيات «الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إلا أن الثانى بدأ التمرد على قوات بلاده وبدأ يسعى إلى تصدير خطابات مفادها أنه يحاول الحفاظ على «الانتقال الديمقراطى للبلاد» وهو الأمر الذى لم يوضح أبعاده خاصة وأن الجيش السودانى كان على شفا اتفاق مع فريق المعارضة السياسية «قوى الحرية والتغيير» بعد انطلاق أعمال لجنة صياغة الدستور الانتقالى فى السودان، بداية الشهر الجارى، ضمن المرحلة النهائية للعملية السياسية، وسط تأكيد «قوى الحرية والتغيير» توفر الإرادة اللازمة للوصول لاتفاق شامل «فى أقرب وقت». ووفق تقرير لموقع AXios «أكسيوس» الاستخباراتى الأمريكى أوضح أن البرهان كان يعمل على دمج ميليشيات الدعم السريع ضمن قوات الجيش النظامية على مدار عامين، وهو الأمر الذى رفضه حميدتى أو بمعنى أدق طلب مهلة 10 سنوات للانضمام، وبالتالى كان رد البرهان إما الانضمام أو ترك الساحة للعمل على استقرار البلاد. ووفق تقرير المركز الأمريكى، فإن هذا الصراع كان متوقعًا مع وجود قوات نظامية للسودان وأيضًا ميليشيات مسلحة ترفض الدخول فى النسيج النظامى للدولة، فعلى الرغم من أنه وفق القانون السودانى الصادر عام 2017، تعتبر ميليشيات الدعم السريع مساندة وداعمة للجيش السودانى إلا أنه مع تغيرات المشهد السياسى كان يجب التوجه إلى وحدة الصف بين شركاء الوطن. كما كشف «أكسيوس» أن الولاياتالمتحدة عملت على الضغط على البرهان لتسليم السلطة للمدنيين وكان هدف واشنطن فى الضغط لتحويل السودان لحكم مدنى هو «الاعتراف رسميا بإسرائيل كدولة»، وبعد اندلاع الخلاف بين حميدتى والبرهان عرضت واشنطن حينها مقترحًا لتشكيل سلطة مدنية على أن يتم وضع مسئولية وزارة الدفاع فى يد البرهان.. ولحميدتى حق الفيتو على أى قرار يتخذه البرهان وله حق الاعتراض ونقض قرارات وزير الدفاع مباشرة، وبعد موافقة الطرفين على هذه المبادرة ضربت خلافات أخرى بين البرهان وحميدتى داخل الاجتماعات الداخلية وبدأت تخرج إلى العامة وإلى كافة المنصات الإعلامية حينها. ثم بدأ البرهان يحذر من تحركات ميليشيات الدعم السريع، وبدأت التحذيرات من تحركاتها فى العاصمة الخرطوم، وبعض المدن المجاورة حتى جاء ضرب مطار مروى وانفجار الوضع فى السودان. تضارب القوى وعلى مدار الأيام الماضية بدأت ميليشيات الدعم فى العمل على «بروبجندا» إعلامية حول قواتها التى تقدر بنحو 100 ألف عنصر، لكن وفق قاعدة «ميليتارى بالانس بلاس» للبيانات العسكرية، والمعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية («آى آى أس أس»)، يقدّر عدد قوات الدعم السريع 40 ألفا فقط إلا أن بعض التقارير الإخبارية تقدر عدد الميليشيا ب100 ألف. أما عتادها فيتشكل بالأساس من سيارات رباعية الدفع تحمل أسلحة متنوعة منها مضادات طائرات ومدافع. ويقدر عدد هذه السيارات بنحو 10 آلاف. ويعطى هذا السلاح الخفيف قوات الدعم السريع مرونة فى الحركة، خصوصا فى المواجهات داخل المدن. أما الجيش السودانى، فهو يصنف بأنه من أقوى جيوش القرن الأفريقى ويتكون من 250 ألف جندى منهم 100 ألف من القوات العاملة، و50 ألفا من قوات الاحتياط، تملك القوات الجوية السودانية 191 طائرة منها 45 مقاتلة و37 طائرة هجومية و25 طائرة شحن، ويعد الطيران من أهم نقط قوة الجيش فى مواجهته مع قوات الدعم السريع. كما يمتلك الجيش السودانى 10 طائرات مسيرة تم استيرادها من الصين عام 2015 و2017 بطراز CH3، CH وتعتبر هذه الطائرات من أكثر الأسلحة التى ألحقت دمارًا بقوة الميليشيات المسلحة. كما يملك الجيش السودانى 170 دبابة ونحو 7 آلاف مركبة عسكرية و379 مدفعا، وهذه الأسلحة الثقيلة تصب أيضا فى مصلحة الجيش. سيناريو التقسيم وفق خبراء عسكريين فإن حرب العاصمة الخرطوم لن تقف عند هذا الحد، خاصة وأن النزاع القائم تحول إلى حرب شوارع كر وفر داخل الأزقة والمناطق العامرة بالسكان، ومن المتوقع أن تتحول الحرب إلى المناطق النائية والريف وفق تقرير معهد «ستراتفور» الأمريكى، إلا أن هذه الحرب لها تبعاتها ففى حال عدم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين فإن الاتجاه سيمتد إلى إقليم دارفور لينقسم بشكل نهائى عن البلاد، ويمكن ألا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب بل بسبب الاختلافات العرقية والقبلية للسودان قد يتسع سياق الصراع إلى انفصال ما هو أكبر من إقليم واحد. وإذا كانت حرب الجنوب فى ظل حكم نظام «الإخوان» قد انتهت إلى الانفصال الذى كان نتيجة حتمية لنهاية الانقسام على تأويل الهوية الوطنية للدولة، فإن انعكاسات حرب دارفور التى تناسلت عنها مجموعات قتالية محترفة كانت مؤشرًا خطرًا على خروج منظومة الحرب عن إطار العقلنة السياسية، مما أسس لموازين قوى شبه عسكرية مع تطاول أمد الحرب فى دارفور كرست وجودها المستقل عبر تقديم خدمات عسكرية لنقل خبرات الحرب من خلال سلطة المركز كقوات موازية للجيش الوطنى، الأمر الذى أدى إلى تأسيس قوات الدعم السريع عام 2013 برعاية جيش النظام الإخوانى ذاته. وتبقى حرب الشوارع هى طوق النجاة لحميدتى للانفلات بطول أمد هذه الحرب، فوفق الباحث فى معهد «ريفت فالي» على فرجى أن ميليشيات الدعم السريع «تريد إطالة أمد النزاع» من أجل استنزاف القدرات القتالية وخاصة الجوية للجيش ونزع سلاح أساسى من يد الطرف المقابل، ألا وهو السيطرة على الأجواء، وهو الأمر الذى يراهن عليه حميدتى خاصة بعد تأكيد أنباء هروبه من العاصمة الخرطوم بعد فشله فى السيطرة على مقار المؤسسات العسكرية أو المطارات الرئيسية، وهو الذى لم يكن يتوقعه قائد الميليشيات السودانى، فتحول أمله إلى الصمود من خلال توجيه بعض الدعم العسكرى والمادى من قوى إقليمية أو دولية أخرى، لذلك كان حرصه على تأكيد نشر أنباء عن أمان كافة البعثات الدبلوماسية فى مناطق سيطرته لتكون ورقة رابحة يستطيع بها أن يجذب دعم أى من القوى الخارجية لتقوية موقفه فى الحرب، التى أجمع الخبراء أنها حرب كلا الطرفين فيها خاسر. 2 3