يتوقّع كثيرون أن تعمل إدارة بايدن على تغيير طريقة تعاطى أمريكا تجاه الصين، معتبرين أنها قد تتبنى استراتيجية تعامل مرنة بخلاف الاستراتيجية التى اتبعها دونالد ترامب - الرئيس المنتهية ولايته - طوال فترة حكمه والتى شهدت حربًا تجارية شرسة، أدت إلى تأزم وتدهور العلاقات إلى مستوى لم تشهده البلدان منذ عام 1979. على الناحية الأخرى، فإن بكين لديها قلق تجاه الرئيس الجديد الذى سيسكن البيت الأبيض خلال الفترة المقبلة، والذى تراه قد لا يقل معاداة للصين، وقد تكون هناك مخططات صارمة بين البلدين فى المستقبل، فبكين باتت على دراية أنها أصبحت هدفًا لأى إدارة أمريكية لا سيما بعد زيادة رغبة الصين فى توسيع نفوذها العالمى، وتتوقع بكين أن يمارس بايدن مزيداً من الضغوط عليها فى مجال حقوق الإنسان. ولذلك يرى خبراء صينيون أنه حتى وإن كان بايدن يتمتع بخبرة سياسية واسعة، وفى نظرهم أكثر عقلانية من ترامب، بما يبشر بحدوث انفراجة قريبة فى العلاقات، لكن تظل طبيعة العلاقة التنافسية بين البلدين كما هى، ومن هذا المنطلق يعتقد الخبراء أنه على الصين أن تكون متفائلة ومتشائمة فى الوقت ذاته، أى أن تتوقع كل شىء بعلاقتها مع الولاياتالمتحدة، لاسيما أن برنامج الحزب الديموقراطى 2020، كشف أن الديموقراطيين سوف يكونون أكثر وضوحًا وقوة واتساقا فى التعامل مع الملف الصينى، لأن لديهم مخاوف عميقة تجاه بكين تتعلق بالمجال الاقتصادى والأمنى وحقوق الإنسان. ففى حال أراد بايدن اتخاذ مواقف أكثر تساهلاً من الصين، لن تكون هذه المقاربة مناسبة من الناحية السياسية، نظرًا لسجل ترامب فى هذا الملف، وعوامل أخرى، من أهمها اعتقاد صانعى السياسة فى واشنطن فى الوقت الراهن بأن المشاكل التى تواجهها الولاياتالمتحدة مع الصين، ترجع إلى حد كبير لسوء سلوك الصين وسياسات الرئيس الصينى شى جين بينج. وقد صرح «جاك ساليفان» مستشار الأمن القومى للرئيس بايدن بأن العلاقات الاقتصادية المتشعبة لبكين مع الكثير من الدول حول العالم كانت دائما ملاذا أمنا لها هربا من التضييق الأمريكى عليها.. فى إشارة إلى حديث بايدن الدائم عن استعادة علاقات بلاده مع الحلفاء القدامى خاصة فى أوروبا. ورغم ذلك، تشير التوقعات إلى أن سياسة بايدن تجاه الصين لن تكون مثل سياسة الرئيس ترامب، والذى اتبع سياسة متشددة تجاه بكين وأبرزها توجيه ترامب ضربة مدمرة لشركة التكنولوجيا الصينية العملاقة هواوى، بحرمانها من الوصول إلى تكنولوجيا ومنتجات أمريكية تعتمد عليها هواوى فى صناعتها، وهو القرار الذى كان له أضرار على الشركات الأمريكية مثل: إنتل وكوالكوم وجوجل والتى تعتبر هواوى عميلًا رئيسيًا لها. كما تتوقع بكين أن تسعى إدارة بايدن بالتعاون مع كل من الاتحاد الأوروبى وبريطانيا واليابان وأستراليا والهند للضغط عليها، وإثارة المشاكل فى بحر الصين الجنوبى وتايوان وهونغ كونغ والتبت وشينجيانغ.. ولهذه الأسباب نجحت الصين مؤخرًا فى إقناع 14 دولة من دول آسيا والمحيط الهادئ على رأسها اليابانوكوريا الجنوبية وأستراليا (حلفاء واشنطن البارزين)، بالتوقيع على أكبر اتفاقية تجارة إقليمية فى العالم، وهى اتفاقية التجارة الحرة الشاملة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وهو ما اعتبره كثيرون نصرًا تكتيكيًا مهمًا للصين فى نزاعها التجارى مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. من جانبهم، يصف مسئولون وخبراء اقتصاديون هذه الاتفاقية بأنها اتفاقية تجارية إقليمية ضخمة غير مسبوقة وتستهدف ملء الفراغ التجارى الأمريكى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ويرون أنه إلى جانب كون هذه الاتفاقية ستكون قوة دفع اقتصادية لدفع النمو الإقليمى والعالمى فى حقبة ما بعد وباء «كوفيد19-»، فهى من ناحية أخرى، سوف تزيد من النفوذ التجارى والسياسى لبكين فى تلك المنطقة ، وهذا فى حد ذاته تحدٍ كبير للإدارة الأمريكية الجديدة. وتغطى الاتفاقية التى تضم 15 دولة فى آسيا والمحيط الهادئ: (10 دول آسيان - إندونيسيا وتايلاند وسنغافورة وماليزيا والفلبين وفيتنام وبورما وكمبوديا ولاوس وبروناى، بالإضافة إلى الصينواليابانوكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا)، سوقًا يبلغ تعداد سكانها 2.2 مليار شخص، أى ما يمثل نحو 30 % من سكان العالم، مع ناتج محلى إجمالى مجمع يبلغ 26.2 تريليون دولار أمريكى، أى حوالى 30 % من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، ويمثل قرابة 28 % من التجارة العالمية (استنادًا إلى أرقام 2019)، وفقًا لبيان مشترك صدر فى قمة الاتفاقية التى عقدت فى وقت سابق. هذا ويؤكد الخبراء الاقتصاديون أن الاتفاقية ترسل إشارة واضحة بأن التكامل الاقتصادى الإقليمى فى آسيا لايزال قويًا وحيويًا رغم تصاعد الحمائية والأحادية، فى إشارة واضحة لمواجهة النفوذ الأمريكى. ويعتبرون أن هذه هى المرة الأولى التى تنضم فيها الصين إلى اتفاقية متعددة الأطراف، يصفها المحللون بأنها أكبر اتفاقية تجارية فى التاريخ لأنها تضم أكبر كتلة تجارية فى العالم.. نظرًا لأن ال15 دولة المنضمين للاتفاقية يشكلون ما يقرب من ثلث سكان العالم، ومن أهم بنودها إلغاء 90 % على الأقل من التعريفات الجمركية فى التجارة بين الدول الأعضاء المنضمين للاتفاقية، إذ ينص الاتفاق على خفض الرسوم الجمركية وفتح تجارة الخدمات ضمن التكتل، كما تغطى الاتفاقية كل شىء من التجارة والخدمات والاستثمار والتجارة الإلكترونية والاتصالات وحقوق النشر، وتهدف إلى كسر الحواجز التجارية وتعزيز الاستثمار لمساعدة الاقتصادات الناشئة فى اللحاق بركب باقى العالم. وبالإضافة لكونها تعد نصرًا جيوسياسيًا مهمًا لبكين، تعتبر الاتفاقية أيضًا تعزيزًا لعلاقات بكين الاقتصادية مع حلفاء واشنطن البارزين مثل: (اليابان، كوريا الجنوبية، وأستراليا)، مستغلة الفراغ الاقتصادى الأمريكى، حيث بموجبها ستعتمد تلك الدول على سلاسل التوريد الصينية، ومن الناحية الاقتصادية فإن الاتفاقية الجديدة من المتوقع أن تضيف 200 مليار دولار سنويًا إلى الاقتصاد العالمى، سيكون لبكين نصيب الأسد منها نظرًا لكونها المسيطر الأكبر على هذه الاتفاقية ومحركها الرئيسى. وإلى جانب المكاسب السياسية والاقتصادية التى ستحققها الصين، فإن الانقسام الحالى الذى يشهده النظام السياسى الأمريكى من المتوقع أن يعيق جهود الولاياتالمتحدة لإطلاق سياسات طموحة ضد صعودها أو حتى محاولات احتوائها، لا سيما أن الصين اليوم مختلفة، كما أنه من المرجح أن تكون أولويات بايدن داخلية إلى حد كبير، أى إصلاح الاقتصاد الأمريكى ومواجهة أزمة وباء كورونا، ولن تكون مواجهة الصين لها أولوية قصوى. 15 16 17