مع بدايات عام 2000م ظهرت جدليّة سياسيّة وهى من يأتى بمَن؟ هل الدولة القوية هى التى تأتى بالديمقراطية أمْ تصنع الديمقراطية دولة قوية؟.. وتم تصدير المعنَى إلى الشرق الأوسط وتحديدًا إلى الدول العربية وتوظيفه لخدمة هدف محدد، وهو إسقاط الدولة الوطنية وإعادة تشكيل منطقة مشوشة الهويّة مبعثرة المصير بائسة الحال، وحينها ظهرت مصطلحات سياسيّة غربيّة مرجعها نظريات سياسيّة دخلت حيز التنفيذ بدأت ب«صدام الحضارات» ثم «الفوضَى الخلّاقة» وصولًا إلى «الشرق الأوسط الجديد». وفى هذه الفترة تعامَل الذهنُ العربى الجمعى بخفة مع الأطروحات التى تلقى إليه، وتبع ذلك عدم اكتراثٌ بتحوُّل هذه الأفكار إلى أجندة سياسيّة غربيّة جادة تجاه الدول العربية.. إلى أن طال حطامُ الفوضى الجميعَ، فلا ديمقراطية حُققت ولا دول بقت.. باستثناء مصر التى حمَاها جيشُها.. والتى قدّمت الدرسَ بأن الدولة القوية أولًا، وأن الدولة القوية وحدَها هى القادرة على المُضىّ نحو «التحوُّل» الديمقراطى وإعادة البناء السياسى ولو من نقطة الصفر. وعلينا دائمًا أن نستحضر ما جرَى على أرض مصر لنفهم جيدًا أبعاد المَشهد الراهن.. بمعنى أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ وإلى أين نتجه؟ وظنّى أن الإجابة على هذه الأسئلة تطيح بالوسواس السياسى، الذى تحوَّل لدى البعض إلى وسواس قهرى بعدما ترك عقله إلى السوشيال ميديا، التى تقذف فى ذهنه ما تريد.. لا سيما ونحن نستعد للمَرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب ومعها يظهر الحديث عن المال السياسى وطبيعة دور رجال الأعمال، وهى منطقة تشكل فوبيا لدى البعض، ويعمد إلى تغذيتها تيارٌ سياسى بعينه محمّلًا بعُقَد قديمة تجاوزَها الزمنُ.. وكذلك نميمة القوائم الانتخابية، فضلًا عن كيان تنسيقية شباب الأحزاب الذى يعلن عن نفسه بقوة خلال هذه الانتخابات، وهل نحن أمام إعادة إنتاج تنظيم طليعى جديد؟ وخلط المصطلحات بين مفهوم حزب الأغلبية والحزب الحاكم.. والسؤال الأهم ويستحق الكثير من التفكير قبل الإجابة عليه، وهو: هل تتحمل مصرُ وجودَ ثلث مُعَطل فى البرلمان؟.. وجميعها أسئلة من داخل المقرَّر الانتخابى إذا جازَ التعبيرُ. وهى تستدعى فى الإجابة عليها من وجهة نظرى الكثيرَ من الاجتهاد من أجل إدراك الصورة شاملة.. بفهم عميق.. بدلًا من دوّامات التشكيك التى لا تؤدى إلى شىء إلّا إرباك الرأى العام فى دولة لا تمتلك رفاهية الفشل.. وتعمل وفق تخطيط معلن هدفه التحديث الشامل فى كل بقعة على أرض هذا البلد، وفى الوقت نفسه يواجه أمنها القومى تحديات مهولة على جميع الاتجاهات. واقعيّا وإذا عُدنا إلى المَشهد السياسى داخل مصر مع بداية الألفية.. لم تكن القاهرة بمَعزل عمّا يُدَبَّر لإقليمها.. إذْ بدأ تغييرُ الجلد السياسى للنُّخَب المصرية.. انتهت النُّخَب القديمة التى كانت تجيد التفرقة بين المعارضة الوطنية والعمالة الأجنبية وتعرف حق المَعرفة متى تكون لحظة الاصطفاف الوطنى ولحظة الخلاف السياسى. وتم استبدالها بأدوات بشريّة ارتدت ثيابَ النُّخَب.. مجموعات اقتحمت العمل العام من باب العمل الحقوقى وليس العمل السياسى الحزبى.. وإذْ بأهل الأحزاب ينتقلون إلى العمل الحقوقى!.. لماذا ؟؛ لأنه أصبح مُربحًا أكثر.. الأمْرُ ليس سرّا فى مذكراته المنشورة بعنوان «شهادتى» تحدّث وزيرُ الخارجية الأسبق والأمين العام الحالى لجامعة الدول العربية السيد «أحمد أبوالغيط» عن قيام إدارة بوش الابن باقتطاع مَبلغ من المعونة الأمريكية وتخصيصه للمجتمع المدنى فى مصر، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل حضرت منظمات لها سوابق فى الخراب لتعمل هنا على الأرض المصرية، مثل منظمات فريدوم هاوس والمعهد الجمهورى والمعهد الديمقراطى وهيومان رايتس واتش.. وخلقت من أجلهم وسائل إعلامية جعلت من أخبار المجتمع المدنى المزيف خبرَ صفحة أولى، بل إن أحد الإصدارات الصحفية قام ببناء شخصيته على هذا المنهج منذ عام 2004م ومع اختفاء نخبته العميلة يعانى من الارتباك وبلا هوية صحفية واضحة إلى يومنا هذا!. وجاء الحصادُ فى يناير 2011م، وكان الهدفُ إسقاط الدولة المصرية، وهو الهدفُ الذى تدرّبوا عليه سنوات وخرجت بعض الكيانات الغربية لتتباهَى بأنها قامت بتدريب النشطاء فى مصر وفى دول أوروبا الشرقية على «التغيير»، وهو المصطلح المُنَمّق للعمالة فى أبلغ صورها، وبعضهم خرج ليُعلن بفخر أنه دمّر وحرَق وخرَّب.. هذا ليس حديثًا افتراضيّا، ولكنه واقعٌ أبشع من كابوس مَرّ علينا وعشناه جميعًا.. والكل يتذكر مَشاهد يوم 28 يناير 2011م، وفى هذا اليوم الأسود كان أكثر المتفائلين يقول إن مصر لن تعود إلى ما كانت عليه من استقرار قبل عشرين عامًا. ومع يناير 2011م كان التخلص من أكبر كيان سياسى فى مصر وهو «الحزب الوطنى» وريث «الاتحاد الاشتراكى» الكيان السياسى الوحيد بعد ثورة يوليو 1952م. ومع التخلص من الحزب الوطنى الكيان والأمانات المنتشرة فى كل رُبوع الجمهورية تم قطع أداة الاتصال الجماهيرى للدولة فى عام 2011م، وهو هدفٌ عمدت إليه جماعة الإخوان الإرهابية لتكون بلا منافس على الأرض وتركت للنُّخَب المُراهقة الفوضى الحزبية، وليكن هناك حزب لكل مواطن، وقسَّمت التركة فى الشارع على تيارات الإسلام السياسى لضمان دخول مصر فى عتمة تمتد لعقود. وجاءت ثورة يونيو العظيمة وتحرّرنا من الإخوان وانتصر لإرادتنا البطل «عبدالفتاح السيسى»، ثم استجاب للنداء وتحمَّل المسئولية رئيسًا منتخبًا لمصر بشعبية استثنائية، وقرَّر الرئيسُ منذ اللحظة الأولى تحديثَ مصر والمُضى قدُمًا نحو تحقيق حلم مصر العظمَى التى تستوعب عصرَها وقادرة على مواجهته مَهما كانت التضحيات أو الأعباء.. وبدا واضحًا منذ اللحظة الأولى أن الرئيسَ يريد أن يكون الشعبُ المصرى كله كتلة واحدة فى معركة (البناء والبقاء)، وحفظ النسيج الوطنى للأمّة المصرية دون تفرقة على أساس دينى أو عِرقى، مع إعلاء قيمة المرأة فى الحضور المصرى، والانتباه إلى ذوى الاحتياجات الخاصة، وإعادة صياغة علاقة الدولة مع الشباب وأن يتم تأهيلهم ودفْعهم إلى دولاب عمل الدولة فى مواقع قيادية؛ لأن مصرَ أولَى بشبابها. هذه المعطياتُ كلها بإرثها التاريخى وواقعها وطموحها المستقبلى يمكن القول إنها حاضرة فى عملية إعادة البناء السياسى والحزبى والنخبوى فى مصر.. وأكرِّر هنا مصطلح «البناء من نقطة الصفر»؛ لأنها حقيقة علينا إدراكها.. بمعنى أنه يجب أن تكون هناك أداة اتصال حزبية بالجماهير تقوم بعمل مجتمعى يحتاجه الشارع الذى لا يمكن تركه لفراغ يكون مدخلًا مجددًا للإخوان ومَن على شاكلتهم. وفى خضمّ هذه العملية يجب أن يكون هناك حزبٌ قادرٌ على تشكيل الأغلبية البرلمانية أو صُنعها من خلال ائتلاف حتى ولو لم يكن حزبًا حاكمًا؛ لأنه إذا لم يحدث ذلك فهذا يعنى ترك مصير مصر وهى بلد فى مرحلة إعادة بناء حزبى فى يد ثلث البرلمان المعطل.. وهو ما يعنى أيضًا تعريضَ مصر لواقع سياسى مَرير وتغييرات حكومية متعاقبة، وقد يصل الأمرُ لفراغ حكومى.. وهى أمورٌ يتجنب البعض الحديثَ عنها لنواجه واقعنا السياسى والحزبى بوضوح.. والواقع يقول إن مصرَ لا تتحمل الثلث المُعطل فى البرلمان.. ونموذج لبنان هو الأكثر حضورًا فى هذه الجزئية، رُغْمَ اختلاف التركيبة المجتمعية بين مصر ولبنان.. وأنه لولا وجود أغلبية برلمانية مؤيدة للمشروع الوطنى المصرى فى البرلمان المنقضى لكان هناك ثمنا باهظا فى انتظارنا. الأمرُ الثانى.. وهو ما يتعلق بالمال السياسى، وهو المصطلح المستخدَم عند دخول رجال أعمال إلى العمل السياسى الحزبى والبرلمانى، وهذه النقطة تحتاج إلى قدر من التفصيل؛ لأن البناءَ فيها أيضًا من نقطة الصفر، وهو بناءٌ يحتاج إلى التعامُل مع رواسب ماضٍ بعيد وأمس قريب، وكذلك يتعامَل بواقعية ويؤسّس لمستقبل صحّى يصل فى نهاية المطاف إلى مفهوم الرأسمالية الوطنية التى تُعد سَندًا لأى تنمية حقيقية؛ خصوصًا بَعد نجاح مرحلة الإصلاح الاقتصادى ودخولنا فى مرحلة الإصلاح الهيكلى. نظرة المجتمع الخاطئة لدور الرأسمالية الوطنية يتمثل إرثها القديم فى مرحلة الستينيات وعمليات التأميم، وهى نظرة يغذيها تيار سياسى بعينه، أمّا الأمس القريب فيتمثل فى الحال السياسى المصرى فى الفترة بين 2005م حتى 2011م عندما شكّل رجال الأعمال حلقة ضغط واضحة على صناعة القرار. وظنّى أن الزمنَ قد تبدّل كثيرًا عن مفاهيم الإرث القديم، أمّا الأمس القريب فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تكراره فى المرحلة السياسيّة الراهنة، وهذا ما يتعلق بفوبيا رجال الأعمال والعمل السياسى. أمّا الواقع فيتلخص فى الإجابة على سؤال واضح.. إذا لم يدخل رجال الأعمال مَن سيقوم بالتبرُّع للأحزاب وفْق المعايير القانونية؟ هل المطلوبُ أن تقوم الدولة بتمويل الأحزاب بخلاف أنه أمْرٌ غير قانونى فهو أيضًا غير مقبول أن تموّل الأحزاب من أموال دافعى الضرائب.. ولا توجد دولة فى العالم تفعل ذلك.. ولا يوجد عقل أو منطق يستوعب ذلك.. ولهذا العمل الحزبى والبرلمانى دائمًا ما يكون قريبًا من دوائر المال والأعمال. ثم نأتى إلى حديث القوائم الانتخابية، أو بمعنى أدق نميمة القوائم إذا جازَ التعبيرُ.. معروفٌ أن انتخابات النواب ستجرَى تحت نظام انتخابى مختلط يجمع ما بين نظام الفردى والقائمة.. وتتنافس ثمانى قوائم على أصوات الناخبين.. ولعل القائمة الوطنية هى أكثر القوائم التى طالها الجدل لاسيما على مواقع التواصُل الاجتماعى مع أن التدقيق فى تكوين هذه القائمة يحمل رسائل مهمة، إذْ تتكون من أحزاب «مستقبل وطن، الوفد، حماة الوطن، مصر الحديثة، المصرى الديمقراطى، الشعب الجمهورى، بالإضافة إلى أحزاب «التجمع، إرادة جيل، حزب الحُرّيّة المصرى، العدل، المؤتمر، الإصلاح والتنمية»، وتنسيقية شباب الأحزاب. داخل هذه القائمة أحزابٌ معارضة بشكل صريح، مثال ذلك حزب العدل، ولكن وجوده فى القائمة ضَمَن له البقاءَ على قيد الحياة. أمّا تنسيقية شباب الأحزاب فهى منتج سياسى جدير بالانتباه يضم بين جنباته تيارات وأفكارًا مختلفة واحتفظت بالتنوع واستفادت من ثرائه وتشبيه التنسيقية بالتنظيم الطليعى يُعَد تشبيهًا فى غير موضعه، وقياسًا يفتقد أدوات المقارنة إلا فى عنصر «الشباب»، لكن فيما يخص الأفكار والتوجهات فهناك بَوْنٌ شاسعٌ بينهما. تنسيقية شباب الأحزاب أعلن تأسيسها فى أبريل 2018م، عَقب دعوة الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لتنمية الحياة السياسيّة، ودشنت التنسيقية لتكون مَنصة حوارية بين الشباب من مختلف التيارات السياسيّة المنصهرة فى 26 حزبًا سياسيّا. ويُعَرّفون أنفسَهم بأنهم جيل جديد من الشباب السياسى يُعَد جزءًا من نسيج المجتمع المصرى يدرك مسئولياته تجاه وطنه ويرغب فى المُضى قدُمًا وترتيب الصفوف وعيًا بقضايا الوطن. وقد يفاجَأ البعض أن التنسيقية قد تشكل فى جزء منها صوتًا معارضًا فى البرلمان المقبل.. ولكن معارضة مصرية وطنية ليست ممولة ولا تتبع سفارات بعينها. والصورة برمّتها تعكسُ أهمية ومحورية انتخابات مجلس النواب المقبلة وإدراك الهدف العام على كونها جزءًا من عملية إعادة البناء الشامل الذى تقوم به مصرُ.