الإبداع يُولد من رحم المعاناة، هكذا كان حال أول فرقة مسرحية للصم بمدينة المحلة التى تأسست فى 16يونيو الماضى، ونواتها 11 شابّا وفتاة من ذوى الهمم، وأطلقوا عليها اسم فرقة «المدينة»؛ حيث نبعت فكرتها من وحى التجارب والمواقف اليومية التى تمُر بها هذه الفئة والمشاكل والمعوقات التى تواجههم فى المجتمع، ومحاولة تغيير النظرة الخاطئة فى الأذهان عنهم ومحاربة تنمُّر بعض الفئات على الصم. عَقَد الفريق المؤسّس ل«المدينة» 9 اجتماعات ناقشوا خلالها المشاكل التى تواجههم فى المجتمع، من أجل معالجتها مسرحيّا، تحدّثوا عن أحلامهم وطموحاتهم وتطلعاتهم للمستقبل، منهم من يتمنى الحصول على وظيفة حكومية، ومن يحلم بالسفر، وثالث يطمح فى التعلُّم وإجادة القراءة والكتابة، وأن يجد الاهتمام فى المدرسة.
بداية الفكرة
منذ 14 عامًا فى أحد أيام رمضان، كان ينتظر «رامز عباس»- 35 عامًا- سماع أذان المغرب لكنه لم يسمع شيئًا، اصطحبه والدُه إلى الطبيب ليقوم بتغيير السماعة الخاصة به، وهنا اكتشف أنه فقد سمعَه، اجتهد الشاب الثلاثينى فى إتقان لغة الشفاة حتى بات أصم متكلمًا يجيد التواصل مع الجميع دون الحاجة إلى لغة الإشارة: «من خلال المبادرة هنتحدث عن قوة صم المحلة وحبهم للتعبير عن أحلامهم من خلال المسرح، الفكرة عُرضت من تامر صلاح- المدير الفنى الحالى للفرقة- فى شهر أبريل، وتم عرضها على مسئولى وزارة الثقافة بالمحلة وقالوا «بعد انتهاء كورونا هنفذها».
فى 12يونيو الماضى، عُقد الاجتماع الأول مع الصم، وتم تشكيل المجلس الاتحادى لذوى الهمم، وتولى «يوسف مسعد» رئاسة المجلس، و«مجدى أبو الفتوح»- نائب رئيس مجلس ومدينة المحلة الكبرى- وبات يُعقد اجتماع كل أسبوع لعرض المشاكل الخاصة بالصم: «فى اللقاء الثانى تواجد المخرج سيد الحسينى وتحوّل النقاش لتأسيس فرقة خاصة وأبدَى رغبته فى العمل مع فئة الصم من زمان، ولكن لم تسنح الفرصة، والمدير الفنى للفرقة وصاحب الفكرة تامر صلاح، والمدير المالى والإدارى أحمد الصعيدى، «وقفوا معايا لحد ما الفرقة اتعملت».
كان ل«رامز» اجتهادات كثيرة فى عالم ذوى الهمم، فهو صاحب فكرة مبادرة صوتنها الإلكترونية لذوى الإعاقة وشريك بها فى المحلة الكبرى، وأحد مؤسّسى مبادرة عالم موازرى للفنون المعاصرة التابعة لشركة بايت إكس للإنتاج الفنى بالقاهرة، ومؤسّس مبادرة الفرصة الثانية للدعم النفسى والتأهيل الأسرى بمصر وتعتنى بالصم، وأحد مؤسّسى المجلس القومى لشئون الإعاقة، وتم تقديم المسودة للدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء الأسبق، وعضو مؤسّس برابطة صم مصر التى تحولت للاتحاد النوعى لجمعيات الصم وضعاف السمع، وأحد مؤسّسى المجلس الاتحادى لذوى الهمم وصاحب الفكرة.
يضيف: «ناقشنا النص الأول للفرقة يتحدث عن الهوية المصرية، يحلم إن ذوى الإعاقة يتطوروا ويتعلموا أكتر، وعلى المستوى الشخصى بحلم أكمّل تعليمى وآخد منصب فى مجال الصحافة وأسافر برّا وأكمّل تعليمى فى مجال الصحافة والإعلام».
11 شابّا وفتاة
توالت الاجتماعات واستقر مؤسّسو الفرقة على تسميتها فرقة «المدينة»، بعدما اقترحه «رامز عباس»، ويرجع سبب التسمية إلى المهندس «مجدى أبو الفتوح»- نائب رئيس مجلس المدينة- الذى قام بدعمهم منذ اللحظة الأولى، وتتألف الفرقة من 11 شابّا وفتاة من فئة الصم، جلسوا سويّا وبدأ كلّ منهم يتحدث عن حياته.
يقول «علاء خالد»: «أنا بشتغل على مكنة فى مصنع بعد ما بخلص بروّح البيت، بقعد ألِفّ حوالين نفسى مش ببقى لاقى حاجة أعملها، الصم بيتجمعوا وبيقولولى نروح المسرح وندرب عشان نحضر لعروض نناقش من خلالها مشاكلنا، واتحمست للفكرة وشاركت معاهم»، يلتقط منه أطراف الحديث «أسامة محسن» قائلًا: «أنا شغال فى مصنع خياطة، زمان أوى كنت ف المسرح وبحب اتفرج، دلوقت اتعملت فرقة مسرحية جديدة وفرحان بيها وبقول لكل الصم ألف مبرك وأنا بحبكم جدّا».
أما «محمد محيى الدين» فيقول: «بشتغل حلاق وبعد ما بخلص شغلى ببقى قاعد زهقان، الصم قالولى فى مسرح جديد وهنشتغل فيه وافقت وانضميت ليهم ومبسوط جدّا معاهم»، يعمل «محمد وجيه» فى مصنع للخياطة، وهو أحد أعضاء الفرقة أيضًا: «بعد ما بخلص شغلى بجتمع مع صحابى الصم، قالولى فى مسرح جديد وأفكار جديدة انضميت معاهم واتدربت كتير، وهكمّل معاهم إن شاء الله».
«محمود رضا»، يعمل ترزيّا، ويؤكد أن لديه وقت فراغ كبيرًا بعدما ينتهى من عمله لكنه لم يكن يعرف كيف يستثمره، إلى أن اهتدى إلى فرقة المدينة وانضم إليها، يقول: «بشتغل ترزى على مكنة، بروح البيت ببقى زهقان ومتضايق بقى عاوز أعمل حاجة وأفكار جديدة كنت فرحان ومبسوط لما عرفت إن فى فرقة مسرحية جديدة، واتدربت كتير وشايف إنى واحدة واحدة هبقى كويس ومستوايا هيعلى، دلوقت حياتى اتغيرت وبقيت بخلص شغل وبروح المسرح وبسافر معاهم وحياتى بقيت أحسن ومبسوط زيادة».
أبدى «جمال ياسر» استياءه من المدرسة التى يدرس بها؛ حيث إنه لا يتعلم شيئًا ويعتبر نفسه شخصًا أُميّا: «أبويا عنده فرن عيش، بروح المدرسة، معنديش ثقافة ولا معلومات، أنا بعتبر إنسان أمّى، لإن فى المدرسة معندهمش أى تعليم لينا، ومش بيعلمونا وبياخدوا فلوس وخلاص، نفسى أشتغل فى شركة حكومية أو أسافر ويبقى ليّا تفكير خاص بيّا وحاجة أبدع فيها لأنى زهقت من قاعدة البيت وكان أبويا وأمى تعبوا وصعبوا عليا ونفسى أكون حاجة فى المستقبل».
التمثيل الصامت
تولت «أميرة أيمن»- 22 عامًا- مهمة مساعدة مخرج الفرقة «سيد الحسينى» الذى يعمل بالهيئة العامة لقصور الثقافة، تخرجت فى كلية التجارة، جامعة المنوفية واتجهت لعالم الإخراج من خلال حضور البروفات الخاصة بالتمثيل فى الجامعة، كما كانت دائمة التردد على قصر الثقافة، إضافة إلى شغفها بالقراءة عن أسُس الإخراج المسرحى: «دى أول حاجة بشارك فيها فى الإخراج وبطبق كل اللى قرأته فى الكتب إضافة لتواجدى مع المخرج الكبير سيد الحسينى وعشان اشتغلت معاه فى قصر الثقافة وشافنى موهوبة خدنى مساعدة ليه فى الفرقة».
تولت الفتاة العشرينية مهمة كتابة النص المسرحى الخاص بالفرقة، مؤكدة أنها نالت إعجاب جميع أعضاء الفرقة: «اختارنا نتعامل معاهم لأنها تجربة جديدة همّا زيّنا وناس تستحق التقدير ولازم ياخدوا فرصتهم، مش عشان همّا ضعاف سمع نقتل طموحاتهم، لازم نديهم حقهم فى المجتمع، وهمّا ليهم الحق إننا نحترمهم والموضوع إنسانى قبل أى حاجة».
يتواصل مخرج الفرقة ومساعدته مع الأعضاء من خلال «رامز»، وهو الأصم الناطق الوحيد بينهم ويجيد لغة الشفاة وأيضًا «علاء قنديل» وهو من ضعاف السمع: «كل يوم بتعلم منهم لغة الإشارة، وكنت متطوعة فى جمعية رسالة، كنت دايمًا بحضر دروس للصم وكنت بشارك فى الأنشطة». مشيرة إلى أن فئة الصم لديهم قدرة على الإبداع لاسيما فى التمثيل الصامت: «هيقدروا يوصلوا مشاعرهم وأحاسيسهم فى المشهد من خلال التمثيل الصامت، وهمّا أكتر ناس هتقدر تعمل ده لإنهم بيتعاملوا فى حياتهم من خلال إشاراتهم وتعبيرات وشوشهم، وعلى طول صامتين وهيقدروا يعملوا ده بسرعة ودى الحاجة المميزة فيهم».
توضح «أميرة» أنهم يواجهون تنمُّرًا من قِبَل المجتمع، وهذا ما تحاول أن تناقشه من خلال النص المسرحى الذى تقوم بكتابته: «اتكلمت معاهم عن حياتهم والمواقف اللى بيقابلوها وقدرت أخدها وأصيغها فى النص المسرحى عشان أوصّل للمجتمع إن ده مينفعش يحصل، الصم بيكملوا حياتنا وجزء من المجمتمع، همّا ناس موهوبة وعندهم إبداع وطاقة وعندهم قدرات أحسن مننا، وهى تجربة فريدة ورؤية خاصة من ناحية الكتابة والإخراج».