كشفت الحلقة الأولى من الدراسة عن أصالة فكرة «الدولة المدنية» فى المكون الحضارى المصرى.. وأنَّ الإشكالية الكبرى التى تسعى تيارات «الإسلام السياسى» لتوظيفها فى مواجهة «مدنية الدولة» هى استخدام الدين؛ لفرض نماذج مختلفة للحُكم الدينى، فى سياق فرض وصاية (دينية/ سياسية) على شعوب المنطقة. وبيَّنت الدراسة أنَّ الحكم الدينى المستند إلى فهم بشرى لمبادئ الدين يرتكز على عقلية عقائدية، تتميز بالإطلاق والشمولية.. ولا تقبل التعددية أو تداول السُّلطة.. وتكرس لفكر إنسانى يُسخر الدين لغايات سياسية.. إذ تسعى الحركات الإسلامية- بالأساس- لفرض نموذج مستعار من الماضى السحيق على الواقع المعاصر، رُغم تمايزه واختلافه وبنيته المغايرة.
وفى هذا السياق- أى فى سياق فرض النموذج الماضوى- يتم استخدام الدين لإثارة السخط المجتمعى ضد «نظم الحكم» القائمة، عبر تصدير صورة ذهنية مفادها «انحلال المجتمع»، وفقدانه للإرادة الوطنية تجاه القوى الخارجية أو الحريات المدنية.
روزاليوسف
1 الدولة المدنية والدولة العلمانية
يمكن تعريف «الدولة العلمانية» بأنها الدولة التى تنتقل فيها سلطات الحكم والإدارة والتشريع والعلم والتعليم من المؤسسات والمحافل الدينية إلى الهيئات المدنية، التى تحاول بدورها تنظيم شئون المجتمع وفقًا للأساليب العلمية بما يكفل توفير الرفاهية للمجتمع بأكمله فى وطن يمكن للناس أن يلتقوا فيه كمواطنين من دون أى اعتبار للفروق فى العنصر أو العقيدة. هنا يجب التأكيد على أن الدولة العلماينة هى النموذج المقابل للدولة الدينية بمفهومها الكنسى تحديدًا، وليست نموذجًا مضادًا للدين والتدين.
لقد سعت التيارات الإسلامية الأصولية (الرجعية) إلى تكريس «صورة ذهنية» سيئة السمعة للعلمانية، وربطها بمناقضة الإسلام ومصادمته، الأمر الذى دفع إلى استخدام مصطلح «الدولة المدنية الحديثة»، ثم حاولت نفس التيارات المصادمة بين الإسلام و«الدولة المدينة»؛ لفرض نموذج لحكم دينى يستند لولاية الفقيه أو المرشد، ومن خلال الادعاء بوجود نموذج تاريخى واضح للدولة الإسلامية يصلح لكل زمان ومكان.
2 الدولة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة العلمانية
السؤال الذى يطرح نفسه هل عرفت الدولة الإسلامية فصلاً بين الدولة والدين؟
فإذا كانت الإجابة أن الدولة الإسلامية لم تعرف أى شكل من أشكال الفصل بين الدين والدولة، هذا يعنى أنه لا يوجد فروق بين جميع الدول الإسلامية التى عرفها التاريخ منذ دولة النبوة، حتى وقتنا الحالى،كما يعنى أنه لا توجد فروق بين «دولة النبوة» و«الدولة الأموية» أو العباسية.. وهذا لا يتفق مع المنطق ومع واقع التاريخ.
إن اختلاف الدين عن الدولة يتمثل فى أمور واضحة، فالدين باعتباره حالة إيمانية وأخلاقية ذات بعد غيبى يعبر فى جوهره عن علاقة مغلقة بين الفرد وربه، فى حين أنَّ الدولة تعبر عن مؤسسة سياسية (دنيوية) معنية بإدارة شئون الحياة وضبط عملية التدافع أو الصراع بين مكونات الجماعة.. كما أن الدين يختلف عن المتدين كما يختلف النص عن التطبيق وفقًا لاختلاف القراءة والتفسير.. ومن الضرورى التأكيد على أن فهم الدين أو النص يخضع لقدرات المتدين وصفاته وظروفه البشرية من ذكاء وخيال ومصالح وميول وأهواء وإكراهات ومخاوف وتحالفات وطموحات، فيبقى المعنى الوحيد للنص لدى المتدين هو المعنى البشرى الذى تتحدد معالمه فى لحظة زمنية معينة وفى إطار ظروف بعينها.
3 سمات الدولة العلمانية
إن فصل الدين عن الدولة- رُغم كونه أساسيًا فى مبدأ علمانية الدولة- فإنه ليس العنصر الوحيد من عناصر علمانية الدولة.. ونشير هنا إلى عدد من أهم سمات علمانية الدولة المتمثلة فى فصل المؤسسات الدينية عن هيكلية الدولة ومنع الكيانات السياسية الدينية من استثمار صلاحياتها السلطوية ونفوذها لتكريس ونشر أيديولوجيا محددة، وفرضها على أجهزة الدولة المختلفة، وكذا الالتزام بالحياة تجاه المكونات الاجتماعية المختلفة وإشاعة مبدأ التكافؤ والمساواة بين تلك المكونات.. هذا بالإضافة إلى تحرير المجتمع من قيود الفكر الواحد وإلغاء الاستخدام التعسفى للتعاليم الدينية أو الأيديولوجية، وتأمين التعايش السلمى لمختلف الأيديولوجيات.. وبالشكل الذى يحول دون التمييز على أساس دينى أو طائفى.
4 الفرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية
لقد تعرض مصطلح الدولة العلمانية لحملات تشويه فكرى تعمدت ربطه بالدولة المدنية على يد أنصار التسلط الدينى،بهدف فرض نماذج دينية تراثية وتصديرها كأنظمة تصلح للحكم.
وبعد ما تبنت بعض الأنظمة الغربية نماذج علمانية صريحة بالنص على ذلك صراحة فى دساتيرها أو بإغفال تحديد دين الدولة فى الدستور، وما ارتبط بتلك الأنظمة من ممارسات بعضها غير أخلاقى أو مخالف لتعاليم الدين، سعت التيارات الأصولة المتطرفة لربط ذات المفاهيم بالدولة المدنية، وتكريس صورة ذهنية لها كنظام حكم معادٍ للدين.
إن القراءة التاريخية للمحاولات المستمرة لدعاة الحكم الدينى لاستخدام الدين كأداة للتسلط تستوجب التعامل مع مفهوم العلمانية والمدنية باعتبارهما فلسفة فى الحكم تسعى للحفاظ على وحدة الدولة مهما تعددت أديان المواطنين ومرجعياتهم الثقافية؛ لضمان وظيفة الدولة الأساسية المتمثلة فى رعاية مصالح المواطنين الدنيوية.
هنا يبرز النموذج المصرى للدولة المدنية التى سعت عبر الدساتير المختلفة إلى إنقاذ الدين من تلاعب السلطة به واستخدامه لأغراضها ولتبرير سياساتها.
إن «الحكم الدينى» يفرز «التدين الشكلى» ويهدد وحدة الدولة والتعايش السلمى بين مواطنيها، وسلبهم حرياتهم باسم الدين.. والحديث هنا بصدد النموذج المدنى للدولة المصرية بحسبانه نموذجًا متفردًا يحدد دين الدولة ثم يمنع استخدامه أداة للتسلط والفرقة.
5 الدولة المدنية فى الإسلام
لقد أصبحت الدولة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنسانى، ومنشأ ضرورتها يتمثل فى تحملها مسئولية حفظ الأمن والنظام العام وتمكين الإنسان من العمران، ولما كانت الدولة إطارًا مؤسسيًا لتنظيم وعى وقواعد سلوك المجتمع بما يحقق المصلحة العامة ويحمى الحق فى الخصوصية وحرية التملك المضبوطة بالقواعد الشرعية، فإن المقصد الرئيسى لنشأة الدولة وضرورة وجودها يتطابق تمامًا مع مقاصد الشريعة وأهدافها جملة وتفصيلاً بما فى ذلك تحقيق المصلحة، والارتباط بها (وجودًا وعدمًا).
إن القول بوجود دولة دينية فى الإسلام يتنافى مع منطق الواقع الذى يؤكد أنَّ الإسلام لم يحدد شكلاً خاصًا للدولة بل تعامل معها باعتبارها كيانًا خاضعًا لظروف الزمان والمكان وتحولات المرحلة وملتزمًا بالإطار الأنسب للوفاء بالقيم والمبادئ والوظائف الأساسية.
الجوهر هنا.. أن تكون الدولة قادرة على الوفاء بوظائفها والتزاماتها فى إطار القيم والمبادئ الأساسية التى تحتضنها والتى تعمل على تنفيذها وتحقيقها فى الواقع الخارجى.. وبعدما أصبحت الدولة ضرورة سياسية وحضارية، وكل وظائفها وأدوارها ومسئولياتها لا تخرج عن نطاق خدمة المجتمع والأمة من موقع المسئولية والسلطة، فإنه لا يمكن القول بوجود دول (دينية ثيوقراطية) فى الإسلام، الذى لم يحدد أساسًا شكلاً محددًا للدولة أو السلطة التى أصبحت تستمد مشروعية بقائها واستمرارها من قدرتها على الوفاء بحاجات الناس وتطلعاتهم المتعددة. 6 عدم تحديد شكل الدولة أو السلطة فى الإسلام
رغم تعدد الكتابات والمؤلفات والأبحاث والتحليلات التى لا حصر لها حول تاريخ الدولة الإسلامية؛ فإن أيًا منها لم يتمكن من توصيف ثابت لشكل الدولة الإسلامية عبر عصورها المختلفة، ولم تضع تلك المحاولات شكلاً محددًا لطبيعة السلطة فى الدولة الإسلامية، ليس قصورًا فى مضمونها وإنما لأن الإسلام أساسًا لم يحدد شكلاً خاصًا للدولة أو السلطة، بل وضع إطارًا عامًا لقيمها ومبادئها التى ينبغى أن تسود وتتحكم فى مؤسساتها.
إن القول بعكس ذلك يصطدم مع القراءة الصحيحة المنطقية لتاريخ الدولة الإسلامية التى شهدت عصورًا من النهضة والازدهار، كما شهدت عصورًا من الجمود والتخلف والضلال، فلا يستقيم القول هنا أن الدولة الإسلامية فى مراحلها المختلفة قد استندت إلى نموذج دينى فى الحكم والسلطة مستمد من قواعد دينية وتشريعات سماوية يفترض ثباتها وصحتها على الدوام لكونها مستمدة من الأوامر الربانية التى لا يمكن الطعن فيها، ونحن بصدد الرصد التاريخى لأسباب تخلف الدولة الإسلامية فى بعض مراحلها.
7 الدولة المدنية تجسيد لقيم الإسلام الكبرى
لمّا كانت الدولة ضرورة اجتماع إنسانى،فإن هذا الاجتماع تحكمه قواعد سلوك متجددة تقدر بظروفها ومقاديرها، كما أن وعى هذا الاجتماع يتغير.. وبالتالى تتغير الدولة فى الشكل والأداء والدور تبعًا للتغيرات الحاصلة فى بنيان المجتمع.. وعلى ذلك فإن شكل الدولة لا يمكن أن يكون ثابتًا أو محددًا سلفًا بل خاضع لظروف الزمان والمكان وتحولات المرحلة، فالمطلوب دينيا ليس شكل الدولة، بل أن تكون مؤسساتها حاضنة للمبادئ والقيم الأساسية.
إن البحث فى تاريخ الدولة الإسلامية لا يمكن أن يفرز وصفة دينية للدولة، بل نجد مجموعة من القيم والمبادئ التى يجب أن تسود وتتحكم فى مؤسسات الدولة كالعدالة والحرية والمساواة والعقد الاجتماعى المستند إلى حرية الاختيار ورضا الجماعة، وليس من المعقول أن يبنى الإسلام نظامه السياسى بعيدًا عن مقتضيات الحرية والشورى والعدالة.
8 لا دولة دينية فى الإسلام
يقول جمال حمدان: «إن أغلب الفرق الدينية والشيع والطوائف التى تكاثرت فجأة فى صدر الإسلام وما بعده بدأت أصلا كتحزبات وتحيزات سياسية وكصراعات على السلطة والحكم، وفى العصر الحديث ظل الدين أداة ميسورة للسياسة تستغله القوة لتشريع وجودها غير الشرعى،أو لتبرير مظالمها وابتزازاتها مرة أخرى،فمنذ البداية استغل الاستعمار الدينى التركى الخلافة مطية وواجهة للشرعية، وباسم الدين نجح فى فرض استعماره الغاشم على المسلمين.. وعلى أساس الدين ونظام الله الذى ابتدعه لم ينجح إلا فى أن يفاقم مشكلة الطائفية ويبلوvرها فى العالم العربى».
كما توصل إلى أن: «مشكلة الطائفية مهما بدت قديمة فى العالم العربى،فإنها لم تنفصل فى أى مرحلة من مراحلها عن الاستعمار، فهو الذى غذاها – إن لم يكن خلقها – وهو الذى اتخذ منها أداة سياسية يدعم بها وجوده».
إن من يدرس الحياة الدينية من منظور علم الاجتماع بدلا من التحليل الفقهى للنصوص المجردة قد يتوصل إلى أن الواقع الطائفى هو الأكثر رسوخًا من الواقع الدينى فى المشرق العربى ومناطق عربية أخرى.
نميز هنا بين مفهوم الدين الذى يشير فى الأساس إلى العقيدة والمفاهيم والمبادئ والتعاليم أو المعتقدات، والطائفية التى تشير إلى التنظيم الاجتماعى الذى تسلكه أو تعتمده جماعة دينية مما يحدد هويتها وولاءاتها والقوى الفاعلة فيها.
وقد يبتدع الإنسان هويات أسطورية فى محاولة لتخليه عن هويته المجتمعية الموضوعية، إن المسيحى اللبنانى الذى يدعى أنه أقرب إلى المسيحى الأوروبى،هو من النوع الذى يبتدع غافلاً هوية وهمية فيما يتخلى عن هويته المجتمعية الحقيقية، كذلك تماماً «المصرى المسلم» الذى يشعر متوهمًا إن «المسلم الإندونيسى» أقرب إليه من القبطى المصرى االذى يشاطره المصير الواحد، فهو ايضا يتنكر لهويته المجتمعية التى هى ألصق الهويات بواقعه المعيشى.
9 الدولة الدينية.. نموذج عربى فى الأصل
الدولة الدينية هى الدولة التى يكون فيها الحاكم ذا طبيعة آلهة أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله تعالى حسب ما عرف بنظرية الحق الإلهى، ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم فى منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، ولا يعترض أحد على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد عليه حقوق أو التزامات بل عليهم الخضوع التام لإرادة الحاكم، حيث لا حق لهم فى مقاومته أو الاعتراض عليه.
وتكون الدولة دينية بهذا المعنى الغربى إذا كان حاكمها أو حكامها يزعمون أنهم يصدرون كل ما يقولون أو يفعلون عن وحى من الله، ولذلك لا يمكن مناقشتهم أو محاسبتهم، هذا هو المعنى الأساسى للحكم الثيروقراطى،ولو لم يكن الحاكم رجل دين بالمعنى المعروف.. إلا أن الواقع فى الدولة المصرية كان يؤشر تماما إلى أن الهوية المدنية، بامتداد التاريخ، كان مكونًا أساسيًًا فى بناء الدولة.
10مقومات مدنية الدولة المصرية تاريخيا
باعتباره مؤسس الدولة المصرية الحديثة وبعد قضائه على المماليك فى مصر كانت الحركة الوهابية قد حققت نجاحا فى تجاوزاتها إلى بعض أنحاء الحجاز واليمن وعسير وأطراف العراق والشام واستولى الوهابيون على مكة والطائف والمدينةالمنورة حتى بدا خطرها واضحا على المشرق العربى والعالم الإسلامى كله فوقع اختيار الدولة العثمانية على محمد على للقضاء على الوهابية بعد ما تأكدت أنها أمام مجموعات إجرامية متطرفة تمتلك قدرات عسكرية، فخرج محمد على بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتال والقضاء على الوهابيين، وغادر مصر على رأس جيش نزل فى جدة ثم غادرها إلى مكة وهاجم معاقل الوهابيين الذين لم يتمكنوا من مواجهة الجيش المصرى وتداعت الجبهة الوهابية ثم واصل إبراهيم باشا القتال إلى أن قضى على الحركة الوهابية تمامًا.
ولم يقتصر دور محمد على على القضاء على الوهابية فقط بل أرسل البعثات إلى إيطاليا وإنجلترا وفرنسا خلال الفترة من «1874-1813»، لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والملاحة وتعلم الهندسة والميكانيكا وأصول الرى والصرف، ثقم أرسل البعثات إلى النمسا وإنجلترا لدراسة القانون والسياسة، وبدأ محمد على فى بناء المدارس العالية فى الفترة منذ 1816 إلى 1893، لخدمة أهداف التنمية الاقتصادية والعسكرية والطب والصيدلة والمحاسبة والفنون.
ثم جاء الإمام محمد عبده الذى أعلن رفضه للسلطة الدينية ونادى بالسلطة المدنية الإسلامية، وذهب إلى أن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم على الناس بالفساد أو الصلاح كما كان يفعل البارونات فى أوروبا، وإنما الحاكم الإسلامى سلطته مدنية وليس وسيطا بين الله وعباده.. فكان بذلك من أبرز دعاة الإصلاح ولم يجد فى الحركة الوهابية ضالته لما تتسم به من بداوة.. وفى الوقت نفسه رفض الانسلاخ عن ثقافة وتراث المجتمع المصرى،الإسلامى،والارتماء فى أحضان الثقافة الأوروبية، وإنما سلك طريقا ثالثا بعيدا عن التقليد والانقياد هو طريق الإصلاح والتجديد الدينى الذى يزيل عن الفكر غيوم الأوهام والخرافات وضيق الأفق والجمود.. داعيا إلى إعمال العقل.
وفى ظل تمكن الاستعمار التركى والمملوكى من نشر التخللف على كل مناحى المجتمع المصرى وفصلها عن إيقاع العصر وعن تاريخها وتراثها، نجد رفاعة الطهطاوى يظهر معبرًا عن شخصية مصر وخصائص أصالتها، بعدما أتيحت له رحلة إلى باريس كإمام لأول بعثة مصرية إلى فرنسا، ليعود منها داعيًا إلى امتزاج الثقافات وإلى التفاعل الحضارى ضاربًا الأفكار السلفية، ثم اسس مدرسة الترجمة وانطلق يترجم تاريخ قدماء المصريين، والقانون المدنى الفرنسى، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب قدماء الفلاسفة فى الإغريق، والعقد الاجتماعى أو كتاب روح القانون.. كما أسس أول صحيفة مصرية «الوقائع المصرية» ثم أول مجلة مصرية (روضة المدارس 1870).. وأعلن إيمانه بالعقل المستند إلى الإيمان بالله.. ونادى بحرية العقيدة.. ودعا إلى الفصل بين السلطات وتعليم المرأة، ليبدأ فى وضع منظومة فكرية تنويرية عصرية ومدنية ترتكز على إحياء فكرة الوطن (مصر).
وظهر بعد ذلك قاسم أمين الذى دعا صراحة لتحرير المرأة قاصدًا تخليصها من الجهل والاستبداد، ونادى إلى إعادة النظر فى فهم الشريعة الإسلامية ونصوصها المتصلة بالنساء، ساعيًا إلى إظهار براءة الدين الإسلامى من الحالة المزرية التى ترزح تحت كابوسها المرأة المصرية، ومتنكرا لأن يكون الإسلام سببًا لانحطاط المرأة فى المجتمع المصرى.. واستند قاسم أمين إلى المكانة التى منحتها الشريعة الإسلامية للمرأة مستشهدا بأمثلة من حياة المسلمين الأوائل وبطائفة عظيمة من الأحاديث التى روت عن عائشة وأم سلمة وغيرهما من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة، ودور المرأة المسلمة فى خدمة العلم وجودة الشعر، وشدد على تعليم المرأة وتربيتها باعتبار أن صلاح حال الأمة يتوقف على تربية المرأة.. وألح على ضرورة بناء التكوين الاجتماعى على أسس العلوم والفكر والملاءمة بين احتياجات المجتمع وروح العصر، مشددًا على أن العلم هو الأداة الوحيدة التى يرتفع بها شأن الإنسان، لينفى عن الإسلام كونه سببًَا فى انحطاط المسلمين بل الجهل الذى أصابهم.
وتعدد النماذج التنويرية فى التاريخ المصرى وصولا إلى طه حسين الذى رأى أن مستقبل مصر مرهون بالتعليم الحديث.. وأنه لن توجد مصر حديثة إلا بتعليم حديث يعم نفعه على أبناء الوطن جميعا، وظل يحلم بتحقيق عدالة توزيع المعرفة فى بلده، ولذا فما إن أتيح له أن يصبح وزيرا للتعليم فى آخر حكومة للوفد بقيادة النحاس باشا حتى قرر مجانية التعليم بوصفها حقا لكل مواطن، وبقدر ما كان يدافع عن حقوق الفقراء فى حياة كريمة كان يدافع عن حقهم أيضًا فى أن يتمتعوا بثمار الآداب والفنون.
وكان يرى فى ذلك حقا أصيلا لهم بوصفهم مواطنين من حقهم أن ينالوا من التعليم ومن مناهج الثقافة ما يعمق فى أنفسهم معانى الانتماء الوطنى والقومى والإنسانى.
واستمر على نهج أستاذه «محمد عبده» مؤمنا بأن التعليم هو قاطرة التقدم، وأنه لا نهضة ولا تحديث ولا حتى دولة مدنية أو ديمقراطية أو حرية إلا بالتعليم.. ومنذ أن كان طالبا صغيرا فى الأزهر لم يقبل من أساتذته إلا ما يقنعه عقليا.. وتميز بعقل استثنائى يضع كل شيء موضوع المساءلة ولا يقبل أى شىء إلا بدليل عقلى بحق واحد من طائفة المستنيرين الذين شيدوا دعائم الفكر المصرى الحديث.
ومن طه حسين إلى فرج فودة الذى أصر طوال حياته على الإسلام كان ولايزال وسيظل دين العقل.. داعيا صريحا لحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، وجواز الاجتهاد، وأشار إلى أن قاعدة «لا اجتهاد مع النص» تخالف واقع التاريخ الإسلامى.. خصوصا سيرة الخليفة «عمر بن الخطاب» الذى لم يعرف له فرج فودة نظيرا كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ الإسلامى كله، ضاربا أمثلة لاجتهادات عمر التى خالف فيها النصوص كتعطيل حد السرقة عام المجاعة، وإبطاله سهم المؤلفة قلوبهم، وقتل الجماعة بالواحد وعدم تقسيم الأرض على الفاتحين.. وفى كتابه النذير يقول فرج فودة متحدثا عن جماعات الإسلام السياسى المتطرفة : «سيزدادون عتوا وستزداد الكثرة لهم عداء وكرها، ولن يستمر البسطاء بعيدا عن المعركة، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقا، وضد كل من يهوى الظلم وسعيد للإظلام، سيصرخون ضد العناء، وسنغير الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب لها الشعب، سيصرخون ضد التمثيل، وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون وسيملأون الدنيا صراخا، وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستتضاعف، وستنفجر قنابلهم وتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليا حيث يحتقرهم الجميع ويرفضهم الجميع ويطاردهم الجميع.
ويواصل فرج فودة فى كتابه «قبل السقوط» قائلا: «إن هناك فرقا كبيرا بين الإسلام الدين، والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثانى لا يعتبر الكفر، بالأول أو الخروج عليه، وأنك فى الثانى سوف تجد كثيرا يقال أو يعترض عليه، حتى فى أعظم أزمنته، بينما أنت فى الأول لا تجد إلا ما تنحنى له تقديسًا وإجلالًا وإيمانا خالصا وأنه إذا جاز أن يُقال هذا عن عهد الخلفاء الراشدين، فإنه يجوز أن يقال ما هو أكثر وأكثر، حين تتصدى بالتحليل والنقد بعصور لاحقة ارتفعت فيها رايات الحكم الدينى، وادعى أصحابها أنها وجه الإسلام الصحيح، وأنهم الحافظون للكتاب والمحافظون عليه، والتابعون للسنة والمتابعون لها، وهم بالرغم من ذلك يستحلون القتل فى غير حق، والظلم بلا داع، ويدخلون على المؤانسة أبوابا لو سمع بها الصدر الأول فى الإسلام لعجز عن أن يدخلها فى باب من أبواب الجاهلية، أنت هنا تملك أن تفصل بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، حفاظا على الأول، حيث تستنكر أن يكون الثانى نموذجا للاتباع، أو حيث يعجزك أن تجد صلة واضحة بين هذا وذاك.
فالأول رسالة والثانى دنيا.. وقد أنزل الله فى الرسالة ما ينظم شئون الدنيا فى أبواب، وترك أبوابا من دون أن يفرط فى الكتاب من شيء، وإنما يسع برحمته ويترك لهم أمورا تختلف باختلاف الأزمنة، لا يترك لهم فيها إلا قواعد عامة إن اتسع أفقهم أخذوا من غيرهم وتأقلموا مع زمانهم من دون الخروج على صحيح الدين أو الكفر به وإن ضاق أفقهم أحالوها ملكا عضودا سندهم فيه فقهاء يجدون بكل شر مخرجا ولكل خروج عن الدين تأصلا»..
وإذا واصلنا عرض النماذج التى تؤصل لمدنية الدولة المصرية باعتبارها أساسا لطبيعة الدولة (تاريخا وحاضرا) سنذهب لعرض آلاف النماذج التنويرية التى لا تنتهى. المصادر:
- «الإسلام والدولة المدنية» د. عبدالمعطى بيومى (دار الهلال).
- «السمات الجوهرية للدولة العلمانية»، د. فلاح إسماعيل (الجامعة الروسية للصداقة)
- «الإسلام والدولة المدنية»، د. محمد محفوظ (مركز آفاق للدراسات والبحوث)
- «الإسلام المعاصر والديمقراطية»، د. رضوان السيد (مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد).
- «العالم الإسلامى المعاصر» د. جمال حمدان (دار الهلال).
- «الدولة الدينية والدولة المدنية»، د. إبراهيم خليل عليان (جامعة القدس المفتوحة)
- «تأثير المناخ السياسى على كتابة التاريخ»، د. عاصم الدسوقى (دراسة).
- عبقرى الإصلاح والتعليم: الإمام «محمد عبده»، عباس محمود العقاد (الهيئة المصرية للكتاب)
- «تحرير المرأة وعلمنة المجتمع عند قاسم أمين»، حسين سعد (الحوار المتمدن)
- «الحقيقة الغئابة»، د. فرح فودة (دار الفكر للدراسات)
- «طه حسين والدولة المدنية» (مقال) د. جابر عصفور (الأهرام الرقمى /2013)