يعيش الاقتصاد العالمى واحدة من أصعب الفترات التى مرّت به منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008م، وذلك بسبب تفشى فيروس «كورونا» المستجد فى أغلب دول العالم، ما أدى إلى انهيار معظم أسواق الأسهم، وتراجعت حركة الإنتاج وتعطلت السياحة وتراجع سعر النفط بنحو 50% من قيمته. هذا السيناريو الخطير، يهدد الاقتصاد العالمى بالدخول فى مرحلة الكساد، تشبه كثيرًا ما حدث فيما يُسمى بالكساد العظيم الذى ضرب العالم خلال الثلاثينيات من القرن الماضى، ما تسبب فى نهاية المطاف فى قيام الحرب العالمية الثانية.
فى البداية، لا بُدّ أن نعرف أولًا الفرْق ما بين الكساد والركود الاقتصادى، ويوصف الركود بأنه تراجع كبير فى النشاط الاقتصادى الوطنى يستمر لأشهُر، وأقرب مثال له ما شهدته الأسواق عقب الأزمة المالية فى عام 2008م، أمّا الكساد فهو عبارة عن كارثة اقتصادية حادة ينخفض خلالها الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بنسبة لا تقل عن 10 %.
والكساد أشد بكثير من الركود، وآثاره من الممكن أن تستمر لسنوات، وهو بمثابة الكابوس بالنسبة للأعمال التجارية والمصرفية وأنشطة التصنيع، ويُعد الكساد العظيم أشهَر مثال على ذلك.
الانهيار الشامل
يعتقد معظم الاقتصاديين حول العالم، أن الحكومات الغربية لم تعالج الأزمة المالية العالمية التى اندلعت فى عام 2008م، بشكل جذرى وصحيح، وأنها اتبعت سياسة المسكنات عن طريق طبع البنوك المركزية للنقود دون غطاء إنتاجى «سياسة التيسير الكمّى»، وهو ما جعل الاقتصاد العالمى مهددًا بالانهيار بمجرد انفجار أى أزمة.
ويبدو أن فيروس «كورونا»، عَجّل بهذا الانفجار الذى من المنتظر أن تكون له آثار دراماتيكية على النظام الاقتصادى والمالى خلال الفترة المقبلة، لكن العجيب فى الأمْر أنه قبل الكشف عن هذا الفيروس الخطير كانت الأسواق العالمية تتأهب لذلك السيناريو، دون الإعلان عن أى أزمة تواجه الاقتصاد.
قبل ظهور الفيروس خَفّض البنك المركزى الأوروبى سعر الفائدة على القروض، وبدأ فى برنامج جديد لضخ «التسهيلات الكمّية» QE المتمثلة فى اليورو بلا غطاء، فى نوفمبر الماضى، وسياسة التسهيلات الكمية هى السياسة نفسها التى اتبعها المركزى الأوروبى لإنقاذ البنوك الأوروبية عقب نشوب الأزمة المالية العالمية.
واعتبر المحلل السياسى والاقتصادى الروسى ألكسندر نازاروف، اتباع المركزى الأوروبى لهذه السياسة بمثابة دخول للعالم إلى المرحلة ما قبل الأخيرة من الانهيار الاقتصادى الكبير.
التيسير الكمّى
وقال نازاروف، «يعمّ الكساد دولًا أوروبية أكثر فأكثر، وأصبحنا نرى على نحو أكثر وضوحًا ملامح التباطؤ فى النمو الاقتصادى فى الصين، وعلى صعيد آخر يضغط الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، بقوة وتركيز وبشكل علنى على البنك المركزى الأمريكى لخفض سعر الفائدة، والبدء فى سياسة «التسهيلات الكميّة» QE، السياسة المالية التى سوف تضخ أموالًا بلا غطاء فى الاقتصاد.
وتجدر الإشارة أن البنك الفيدرالى الأمريكى قام بالفعل بخفض سعر الفائدة بداية هذا الشهر، بعدما قرر خفض سعر فائدة الأموال الاتحادية القياسى بمقدار نصف نقطة مئوية إلى نطاق من 1.00 % إلى 1.25 %، وذلك بدعوَى حماية الاقتصاد الأمريكى من تداعيات فيروس «كورونا».
وأوضح المحلل السياسى الروسى، أن الجميع يفهم أن ارتفاع وزيادة ضخ أموال غير مغطاة بالبضائع سوف يؤدى حتمًا إلى زعزعة استقرار أسعار العملات، وانهيار عملات الدول الفائزة ب«سباق طبع العملات»، بما فى ذلك الدولار واليورو.
وتساءل: ما الذى يمكن أن يعنيه كل هذا بالنسبة للمواطن العربى أو الروسى أو الأرجنتينى العادى، ممن يدّخرون أموالهم بالدولار أو باليورو؟ وإذا كانت البنوك المركزية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا تعتزم إضعاف عملاتها، ألا يكون الأوان قد آن للتخلص من الدولار واليورو؟.. قائلًا: «نعم، لا بُدّ من التخلص منهما، لكننى لا أظن أن ذلك يجب أن يحدث الآن».
وأكد أن أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية تعود إلى أن الغرب على مدَى عقود مضت وانضم إليه مؤخرًا عددٌ من الدول النامية يستهلكون بضائع وخدمات كثيرة للغاية باستخدام القروض، وهى قروض تقدر قيمة أغلبيتها بالدولار أو باليورو. وفى الدول العربية، وكثير من الدول حول العالم؛ فإن البنوك عادة ما تحصل على هذه القروض بالدولار أو باليورو من بنوك أمريكية وأوروبية بنسب فائدة منخفضة، ثم تعيد بيعها للمواطنين والشركات بالعملة المحلية بنسب فائدة أعلى.
وسيلجأ الجميع بأموالهم نحو الدول والمرافئ والأسهم الآمنة، وإذا كانت عملات الدولار واليورو والجنيه الاسترلينى والفرانك السويسرى والين اليابانى لاتزال عملات آمنة حتى الآن؛ فإن تلك العملات سوف تقفز إلى مستويات قياسية، بينما ستهوى عملات دول أخرى إلى القاع.
انهيار العولمة
وأكد: إنه باختصار؛ فإن انهيار العولمة سوف يصبح أكثر وضوحًا، وأكثر عشوائية وخروجًا عن السيطرة. وعقب انهيار التجارة العالمية، ستأتى مرحلة انخفاض الناتج المحلى الإجمالى لمعظم دول العالم؛ حيث ستبدأ مرحلة التضخم الهائل، التى ستقضى على ما تبقى من الصناعات الوطنية. وفى تلك اللحظة سوف يصبح الدولار واليورو أوراقًا ملونة لا قيمة لها، ولكن الدول النامية سوف تكون فى وضع مأساوى أكثر صعوبة.
أسواق الأسهم
لا يَشك أحدٌ فى أن أى انهيار للاقتصاد العالمى، لا بُدّ أن يمر أولًا بانهيار أسواق الأسهم، نظرًا لأنها الأسواق الأكثر هشاشة فى تلك الحلقة، وقد فقدت جميع الأسواق العالمية خلال الأسابيع الماضية تريليونات الدولارات، وكانت الأسهم الأوروبية ضمن أكبر الأسواق من حيث الخسارة؛ حيث تكبدت خسائر بنحو ثلاثة تريليونات دولار من قيمتها منذ أوقد الانتشار السريع لفيروس «كورونا» فى أنحاء العالم شرارة عمليات بيع فى فبراير؛ حيث بدا مرجحًا أن يعطل تفشيه النشاط الاقتصادى فى شتى بقاع العالم.
أطلق المتعاملون مع البورصات العالمية على يوم الاثنين الماضى، اسم «الاثنين الأسود»؛ بسبب الخسائر الضخمة التى منيت بها الأسواق العالمية، وتجاوزت خسائر المؤشرات المالية الرئيسية فى الولاياتالمتحدة فى هذا اليوم فقط نحو 7 فى المئة، فى حين بلغت خسائر الأسهم الرئيسية فى بورصة لندن نحو 8 فى المئة، وهبطت أسعار الأسهم أكثر من 5 فى المئة فى طوكيو، و7.3 % فى سيدنى، ما أدى إلى فقدان مئات المليارات من الدولارات من قيمة الشركات، مع تضاعف الخسائر على مدى أسابيع.
وسجّلت أسواق المال فى دول الخليج خسائر كبرى هى الأخرى، إذ هبط المؤشر العام بأكثر من 9 فى المئة، بينما تراجعت قيمة سهم شركة أرامكو أكبر شركة فى العالم، بنسبة 10 فى المئة، وهو مستوى قياسى، لتبلغ 27 ريالًا، وخسرت أرامكو، الأحد والاثنين، أكثر من 320 مليار دولار من قيمتها، التى باتت تتراوح عند 1.4تريليون دولار.
وتراجعت بورصة الكويت بنسبة 10 فى المئة، ما اضطر السُّلطات المالية إلى وقف التعاملات فيها ليومَين متتاليين، بينما سجّل مؤشر سوق دبى انخفاضًا بنحو 9 فى المئة، وانخفض مؤشر سوق أبوظبى متراجعًا بنسبة 8 فى المئة.
أمّا البورصة المصرية فقد تراجع رأس المال السوقى ليصل لنحو 595 مليار جنيه، لتصل خسائر البورصة بسبب «كورونا» أكثر من 100 مليار جنيه حتى الآن.
حرب النفط
لم تكن خسائرالبورصات العالمية، هى الكارثة الاقتصادية الوحيدة التى خلفها فيروس «كورونا» حتى الآن؛ حيث اندلعت حرب نفط جديدة بين روسيا والسعودية، بعدما فشل البَلدان فى اتفاق على تمديد خفض الإنتاج، ما أدى إلى انهيار أسعار الخام فى السوق العالمية، لتخسر نحو 50% من قيمتها.
والمتابع لتصريحات مسئولى النفط فى البَلدين، يتوقع أن تمتد هذه الحرب لفترة، وهو ما يهدد بمزيد من الهبوط لهذه السلعة الاستراتيجية، التى تُعَد العمود الفقرى فى بنية التجارة العالمية.
أخيرًا، نحن أمام موجة من الكساد الاقتصادى العالمى، من المتوقع ألّا تنتهى دون إحداث تغيرات عميقة على بنية هذا الاقتصاد، التى كانت قد اختلت فى العقود السابقة، نتيجة الممارسات غير المجدية من الحكومات الغربية المتعاقبة، ويبدو أن العالم بات لزامًا عليه التوقف لوضع أسُس جديدة، مثلما حدث عقب الحرب العالمية الثانية.