أن ترحل بجسدك وتظل كلماتك حاضرة بقوة حتى بعد رحيلك هو حلم يراود كل صاحب قلم، وغاية المُنى بالنسبة لأى شاعر غنائى، خط كلمات أغانيه بمشاعره ووجدانه، وأطلق لها العنان؛ لتحلق وتسافر عبر الأزمان، فتجد مستقرّها فى نفوس العاشقين والمحبين، وإذا كان البعض يصف الشاعر الغنائى «حسين السيد» الذى رحل منذ 37 عامًا بأنه (شاعر الروح)، بينما يطلق عليه آخرون لقب (فارس الكلمة)؛ فإن كل هذه الأوصاف تتضاءل أمام كونه شاعرًا كتب لنفسه الخلود، فامتلك زمام الكلمات، واستطاع بقدرة مدهشة أن يطوّعها فى كل المجالات، فكتب للأم (ست الحبايب) التى لا يمكن لأن يمر عيدٌ لها دون سماعها، وداعب مشاعر الأطفال عبر الأجيال ب (ذهب الليل) و(ماما زمانها جاية)، واستطاع أن يصف مشاعر الأنثى التى ذاقت مرارة الحب من طرف واحد فى (ساكن قصادى) بصدق شديد، وكأنه استوطن داخل قلبها ليشعر بما تشعر هى به، وصَنع ثنائيّا مدهشًا بينه وبين «عبدالوهاب»، وتسابق للحصول على كلماته كلٌّ من عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، بينما غنت له ليلى مراد، ووردة، ونجاة، وصباح أحلى الأغنيات؛ ليساهم بعطائه عبر أكثر من أربعين عامًا فى إثراء التراث الغنائى.. وفى حوارنا مع ابنته د. «حامدة» نُحيى ذكرى ميلاده ال104، التى توافق الخامس عشر من مارس، وإلى نص الحوار.. فى البداية.. حدثينا عن طفولة «حسين السيد»، وكيف أثرت على تنمية موهبته؟
- والدى من مواليد طنطا لأب مصرى وأم تركية، وكان الابن الأوسط بين أختين، وتمتع بحنان ودلال كبير من والدته، على عكس والده الذى كان يعامله بنوع من الشدة، وكان له خال صاحب (تكية) تقام فيها ليالى الذِّكر والإنشاد الدينى، فكانت تستهويه هذه المناسبات ويستعذب موسيقاها، ولعلها أولى عوامل تكوين الحس الفنى عنده، وبعد انتقال الأسرة من طنطا إلى القاهرة أدخله والده مدرسة (الفرير) الفرنسية على مضض، فقد كان لديه تخوُّف أن يكون للتعليم الفرنسى تأثيرٌ على شخصيته، وبالتالى استمر فى معاملته الشديدة له حتى إنه كان يعاقبه بأن يجعله يغلق كفيه على بيض مسلوق ساخن!! وظلت أصابع أبى تحمل آثار هذا العقاب طول العمر!.
لكن كيف نمّى بداخله كل هذه البلاغة فى اللغة رُغم تعليمه الفرنسى؟!
- لأنه كان لديه انجذاب للغة العربية وشغف للقراءة فى الأدب العربى بدأ مبكرًا جدّا إلى جانب الثقافة الفرنسية، ورُغم أن والده كان يرى فى القراءة مضيعة للوقت وانصرافًا عن الدراسة كانت والدته تشجعه، وتعطيه النقود لشراء الكتب بشرط ألّا يؤثر ذلك على دراسته، وكان يستعطفها لتعطيه النقود التى يحتاجها بأبيات شِعْر، فكان يقول لها:
ست الحبايب يا أم حسين
جرى لى حادث من ساعتين
والمنفلوطى راح منى
عايز مساعدة كده بقرشين
أروح أجيب بيهم كتابين
الرافعى أصله مجننى
إذن فوالداته هى كلمة السّرّ فى تنمية موهبته، أليس كذلك؟
- بالطبع، بالإضافة إلى تشجيع مُدرس العربى بمَدرسة الفرير الأستاذ «مرجان» الذى توسم فيه الموهبة ورآه مختلفًا عن أقرانه، وشجعه على أن يكون محدد الهدف، وأن يعرف حلمه.
ورُغم كل هذه الموهبة والتشجيع؛ فإنه التحق بكلية التجارة ولم يُكمل دراسته بها.. فلماذا سلك طريقًا يباعد بينه وبين تحقيق حلمه؟!
- لم يكن أمامه حُرية اختيار الكلية؛ لأن والده قد رسم له طريقه فى مجال التجارة ولم يكن يجرؤ أن يخالفه، فقد كان جدى متعهد توريد الأغذية للجيش المصرى، وظل يقوم بهذه المهمة سنوات طويلة، وعندما توفى كان والدى فى السنة الثانية بكلية التجارة، واضطر الوالد لأن يترك دراسته ليتولى إدارة تجارة والده، واستمر فى مهمته حتى نهاية الخمسينيات حينما أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارًا بطرح توريد أغذية الجيش المصرى فى مناقصة عامة وألا تُسند لشخص واحد. وتسبب القرار فى إفلاس والدى، فقد دفع كل أمواله للتجار الذين كان يتعامل معهم وخسر مبالغ طائلة، وتسبب هذا القرار- أيضًا- فى تحويل مسار حياته؛ ليتفرغ بعدها لكتابة الأغانى وتصبح مهنته بعد أن كانت هواية يمارسها إلى جانب عمله فى التجارة لمدة 15 سنة.
وكيف حدث هذا التحوُّل؟
- حدث بسبب مسابقة للوجوه الجديدة ل فيلم (يوم سعيد) بطولة محمد عبدالوهاب، وإخراج محمد كريم، وقد كان والدى قد قرّر حينها أن يتخذ من التمثيل وسيلة لبلوغ حلمه، وقد أهّلته وسامته لأن يحصل على دور فى الفيلم، لكن قبل رحيله، سمع حوارًا بين الموسيقار محمد عبدالوهاب والمخرج محمد كريم حول موقف فى الفيلم لم يستقرّا بعد على كلمات الأغنية التى ستصاحبه، فنادَى والدى على الفنان عبدالوارث عسر وعرض عليه أن يكتب أغنية المَشهد، ورُغم عدم اقتناعه، أخذه لعبدالوهاب الذى قص عليه فكرة المَشهد (حبيب يركب الحنطور ومتعجل جدّا لأن يصل لمحبوبته)، وأردف قائلًا (عايز كلمات تعبر عن كده وكمان تنفع تتلحن على دقة حدوة الحصان)، فكانت أغنية (اجرى اجرى..ودّينى قوام وصّلنى) التى كانت باكورة تعاونه مع عبدالوهاب؛ حيث حدثت توأمه فنية بينه وبين الموسيقار العظيم، فسارا معًا مشوارًا فنيّا تجاوز الأربعين عامًا، غنّى فيها له عبدالوهاب نحو 90 أغنية أشهَرها (حكيم عيون، لا مش أنا اللى أبكى، بفكر فى اللى ناسينى) بالإضافة إلى عشرات الأغانى الوطنية، كما لحن له نحو 120 أغنية، تغنت بها أصوات أخرى مثل (توبة) و(شغَلونى) لعبدالحليم، (شكل تانى) لنجاة، و(بعمرى كله حبيتك) لوردة، والأهم أنهما التقيا سويّا فى روح الفكاهة، فقد كانت بينهما (كيميا) عالية، فمن يصدق أن شخص بقيمة عبدالوهاب يلحن كلمات مثل (أبجد هوز) و(عينى بترف) لليلى مراد، أو اسكتشات مثل (أنا واد خطير) و(حظرتنا عظمتنا) لفؤاد المهندس لولا أن من كتبها هو حسين السيد.
لكن هذه التوأمة جعلت نُقاد عصره يلقبوه ب(الشاعر الملاكى لعبدالوهاب).. هل أغضبه هذا اللقب؟
- لم يغضبه على الإطلاق، مبدئيّا لأنه لم يكن كذلك بشكل فعلى، فقد تعاون مع غيره من الفنانين، والملحنين، فقد لحن له السنباطى، والموجى، ومنير مراد، وبليغ حمدى، وكون أن 80 % من أغانى عبدالوهاب كانت من كلمات حسين السيد فهو دليل على مدى اقتناعه به كشاع، فقد كان يقول عنه (حسين السيد له أذن تغنى وهو يكتب)، وقد سُئل عبدالوهاب عن لقب (الشاعر الملاكى) فقال (شرف لا أدّعيه وتهمة لا أنفيها).
تقولين إنه تعاون مع كل فنانى عصره، ومع ذلك لم تجمعه أغنية واحدة بأم كلثوم، فما السبب؟!
- حتى عام 64م لم يكن قد حدث تعاون بين أم كلثوم وعبدالوهاب، فقد كان هناك معسكران، وكل معسكر له فريقه الذى يتعاون معه، حتى تعاونا فى (أنت عمرى) بطلب من «عبدالناصر»، لكن أم كلثوم أيضًا لم تكن تسمح بأن يأتى عبدالوهاب بفريقه معه حتى لا ينسب نجاح الأغنية لهم، حتى جاءت أغنية (شكل تانى) التى دندنها أمامها عبدالوهاب فأعجبتها وطلبت زيادة كوبليه حتى تغنيها، لكن الصحف حينها صورت الموقف بأن أم كلثوم ستسطو على أغنية لحسين السيد كان من المفترض أن تغنيها نجاة فتراجعت عن الفكرة، وبعدها بفترة كانت ستغنى (فى يوم وليلة) التى غنتها وردة، لكنها طالبت والدى بإجراء تعديلات على الكلمات لم يجدها مبررة، فرفض، وأعطى الأغنية لوردة، لكن الجميل أن أم كلثوم سُئلت فى الإذاعة عن الأغنية التى غناها غيرها وكانت تتمناها فقالت (إله الكون) التى غناها رياض السنباطى من كلمات حسين السيد.
لبعض الأغنيات التى كتبها والدك قصص، وخلفيات.. هل تذكرين قصص بعض هذه الأغنيات؟
- بالطبع، فهناك أغنية (توبة) لعبدالحليم، كتبت حينما كان يباشر بناء عمارة كان يمتلكها فى شارع شريف، وكان معه عبدالوهاب، وأخذ يشكو له مما يفعله المقاول، وعندما قال له عبدالوهاب (عقبال ما تبنى عمارة ثانية) فرَدَّ عليه قائلًا (توبة)، فقال له (دى مطلع أغنية..اكتبها)، أمّا أغنية (ماما زمنها جاية) فكتبت بسبب أخى حسام؛ حيث كان يبكى كثيرًا عندما تكون والدتى فى عملها، وكان والدى يغنيها له، أمّا أغنية (الراجل ده هيجننى) لصباح فكتبت لأنه ذواق جيد للطعام، لذلك تشعرين عند سماعها بأنك أمام (منيو) مفتوح لأشهَى الأكلات، وحتى دوره فى فيلم (رسالة من امرأة مجهولة) مع لبنى عبدالعزيز وفريد الأطرش فله خلفية تتعلق بأغنية، فقد كان مقررًا أن يكتب أغنية لفريد يغنيها فى الفيلم، لكن المنتج رمسيس نجيب وجد أنه لا مكان لها، فحزن والدى جدّا لأنهم تراجعوا عن اتفاقهم، فمنحه رمسيس دورًا فى الفيلم ل(يطيب خاطره).
وهل كان يشارك فى طهو الطعام فى المنزل؟
- كانت عليه مهام محددة، مثل (ساندوتشات) المَدرسة، فكان يُعدها كل صباح، ويغلفها بورق الزبدة، ويكتب عليها أسماءنا، بل يكتب أيضًا وصفًا لها بطريقته الجميلة، وفى رمضان، كان الشتاء قارسًا، فكان يُحضر لنا السحور إلى السرير، فقد كان له لمسات كأب لا تشبه أحدًا.
وما مدى صحة ما يُشاع حول أغنية (ست الحبايب) أنه كتبها خصيصًا لوالدته ليستبدلها بهدية عيد الأم التى نسى أن يشتريها لها؟
- هذه الرواية ليست حقيقية تمامًا رُغم طرافتها، فما حدث أن فكرة عيد الأم ظهرت لأول مرّة فى الستينيات، وتحمَّسَ لها وزير الثقافة وقتها د. «ثروت عكاشة»، واقترح على «عبدالوهاب» أن يلحن أغنية عن تلك المناسبة، وتحمس «عبدالوهاب» واتصل بحسين السيد يطلب منه كتابة كلمات عن الأم.. وفى ظرف 48 ساعة كان والدى قد كتب الأغنية ولحنها عبدالوهاب، وغنتها فايزة أحمد، لتصبح منذ ذلك الوقت أشهَر أغنية عن الأم.
وماذا عن علاقته بوالدتك، وهل كان يُسمعها كلمات الأغنيات ويطلب رأيها؟
- والدتى د.«نعيمة عيد» كانت زميلة مَدرسة لأخته الصغرى «هدى» وجارة بالشارع نفسه، وقصة زواجهما سابقة لعصرها، فبعد أن تم كَتْبُ الكتاب بينهما فى أواخر الأربعينيات حصلت الوالدة على منحة دراسية للتفوق من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية للحصول على درجة الماجستير من جامعة لندن، فوافق على سفر زوجته لمدة سنتين تحصل فيهما على الماجستير وتعود لإتمام الزواج، لكنها استمرت فى مشوارها العلمى بعد عودتها حتى تحصل على الدكتوراه فى مجال التربية وعلم النفس، وتُعَين أستاذًا بجامعة عين شمس، وقد أثمر هذا الزواج عن ثلاثة أبناء هم «حسام» و«حاكم» - وكلاهما طبيب فم وأسنان- وأنا وقد تخصصت فى التحاليل الطبية، وقد كانت علاقته بها راقية، وجميلة، وكان يأخذ رأيها فى أغانيه، ويأخذ رأينا نحن أيضًا عندما كبرنا.
وكيف كانت علاقته بالرؤساء؟
- رُغم أن «عبدالناصر» تسبب فى خسارته فى بداية حياته؛ فإن هذا الموقف لم يؤثر على علاقتهما، فقد منحه (وسام العلوم والفنون) من الطبقة الأولى، وكان والدى أول من ابتدع كلمة «ناصر» فى الأغنيات، فالجميع كان يطلق عليه «جمال»، أمّا علاقته بالسادات فكانت وطيدة جدّا؛ لأن «السادات» كان لديه حس فنى، وكان أحيانًا يُرسل السيارة لوالدى، ويطلب منه أن يحضر ليُسمعه آخر أغنياته، والحقيقة أننى لم أرَ أبى يبكى سوى فى ثلاثة مَشاهد، هى «يوم التنحى، ويوم وفاة عبدالناصر، ويوم وفاة السادات».
تقولين عن والدك إنه «إحسان عبدالقدوس» الشعر.. فما السبب؟
- لأن «إحسان» هو أكثر من فهم مشاعر المرأة وجسَّدها فى رواية، وأبى فعل الأمْرَ نفسَه فى الأغنية، فيكفى طريقة وصفه لمشاعر الفتاة فى (ساكن قصادى)، كما نجح فى نقل مشاعر الفتاة المتيمة فى أغنية «الدوامة» لصباح، حين قال (امشى فى السكة أشوف نفسى كده حلوة وروحى عجبانى، وأتمنى أقابله لو صُدفة ويشوف تسريحتى وفستانى)، وغيرها من النماذج التى برع من خلالها فى تصوير مشاعر المرأة كما يجب.
هل تذكرين المَشهد الأخير فى حياته؟
- بالطبع، فلم يكن والدى يشكو من أى عارض سوى بعض آلام المرارة المتكررة، وفى يوم السبت 25 فبراير 1983م كان موجودًا بمكتبه بوسط البلد كالعادة يفكر ويؤلف، وكان معه صديقه الببغاء (كوكو) فهو يحبه كما كان يحب القطط والعصافير، واتفقتُ معه يومها أن أذهب له بصحبة زوجى لنأخذه إلى الطبيب، وفى السادسة مساءً كنا أمام باب المكتب بلا مجيب، رُغم أن النور كان مضاءً كما وضح من زجاج (شرّاعة) الباب، ظن زوجى أن والدى نسى موعدنا وخرج، لكننى عندما سمعت الببغاء يتكلم، أيقنت أن شرًّا ألمَّ بوالدى؛ لأن الببغاء عادة لا يتكلم وهو وحيد، فكان القرار بكسر(الشرّاعة) فوجدته ممددًا أمام الباب، غائبًا عن الوعى، فقد باغتته جلطة دماغية بينما قلمه الحبر مفتوح على مكتبه ، ورحل بعدها بيومين.
منذ سنوات تقولين إنك بصدد إصدار كتاب عن والدك، لكن لم يحدث.. ما سبب التأجيل؟
- انتهيتُ من الكتاب، وهو حاليًا تحت الطبع، وسيصدر على جزئين بعنوان (عاشق الروح)، الجزء الأول سيحتوى على الأغانى العاطفية، والدينية، بينما سيكون الجزء الثانى مخصصًا للأغانى الوطنية، والشعبية، وأغانى الأسرة، وأغانى الأفلام، وقد تأخر صدوره لأسباب أهمها أن إنتاج والدى غزير جدّا وصل لنحو ألف أغنية، لم أستطع بالطبع ضمها جميعًا داخل الكتاب، لكن يكفى أن أقول لك إننى بذلتُ مجهودًا كبيرًا لكى أجمع بعض الأغنيات التى كنتُ لا أمتلك لها سوى اسم فقط، وقد ساعدنى فى ذلك محبو الحفاظ على التراث على الإنترنت، وسأظل أبحث عن تراث والدى غير المعلوم، ومنها على سبيل المثال أغنيات الفوازير التى كتبها ل(ثلاثى أضواء المسرح) التى كانت بها أفكار مثل الفتاة التى تبحث عن عريس، والأمثال الشعبية، وأبطال من التاريخ، وغيرهم، وكلها أفكار قُدمت بعد ذلك، ونُسبت لغيره، رُغم أنه أول من قدّمها، ففى تراث والدى أعمال رائعة نسيناها، وأعمال لا نعرفها، وأعمال مظلومة رُغم جمالها.