شهد عصر الأسرة الرابعة الفرعونية الذى سُمى بعصر بناة الأهرامات وجود عدد من سيدات القصر الملكى ممن كان لهن دور بارز؛ سواء على مستوى الأحداث داخل القصر أو فى دهاليز عالم السياسة، وقد جسَّدت التماثيل التى عُثِر عليها وضع ومكانة المرأة فى المجتمع المصرى قديمًا إذ كانت تقف إلى جانب زوجها الملك كتفًا بكتف فيما تطوق جسده بذراعها فى مشهد يعكس قدرًا كبيرًا جدًا من التناغم والتفاهم والحنان الذى يغلِّف العلاقة الأسرية.. فى السطور التالية نسلط الضوء على ثلاث من ملكات الأسرة الرابعة اللائى كن مثار الكثير من الجدل؛ سواء أثناء حياتهن أو بعد موتهن.
الملكة حتب حرس الأولى تحتل الملكة حتب حرس الأولى مكانة فريدة بين ملكات الأسرة الرابعة وعصر بناة الأهرام. ومثلما كانت حياتها مثيرة لم يزل موتها واختفاء جثتها، وتعدد الروايات حول مكان دفنها لغزًا غامضًا.. اسم الملكة الجميلة يعنى «الرضا عليها» وهو اسم لم يزل مستخدمًا فى مصرنا المعاصرة. وحملت اسمها ملكة أخرى من الأسرة نفسها، هى الملكة حتب حرس الثانية. وكانت زوجة للملك جدف رع وأرملة أخيه كاوعب. لعبت الملكة دورًا كبيرًا فى نقل الحكم بشكل سلس من والدها الملك حوني، آخر ملوك الأسرة الثالثة باعتبارها الوريثة الشرعية، إلى زوجها الملك سنفرو العظيم، مؤسس الأسرة الرابعة، ووالد الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر بالجيزة، العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا السبع فى العالم القديم، وأشهر وأهم أثر على وجه الأرض قاطبة. ولعل من بين أكثر القصص إثارة الخاصة بالملكة حتب حرس الأولى وآثارها الجميلة هو اكتشاف مقبرتها ذات الأثاث الجنائزى المبهر، وتعددت الآراء حول مقبرتها واختفاء جسدها، فمن أشهر الآراء فى هذا الشأن أن الملك سنفرو، بنى مقبرة لزوجته الملكة الجميلة فى منطقة دهشور فى الجيزة، بالقرب من هرميه المعروفين: الهرم الأحمر والهرم المنحني. غير أن اللصوص تمكنوا من التسلل إليها فسرقوا محتوياتها، وعندما وصل الأمر إلى البلاط، لم يتم إخطار الملك، أو تم إخباره بما حدث وأن جسد الملكة سليم لم يمس. فقرر نقله إلى مقبرة جديدة بالقرب من هرمه بالجيزة. ولاكتشاف هذه المقبرة الجديدة بالجيزة قصة مثيرة. ففى مارس من العام 1925، كان الأمريكى آلان رو، مساعد عالم الآثار الأمريكى الأشهر جورج رايزنر، يقوم بالتصوير إلى الشرق من الهرم الأكبر غاص حامل الكاميرا فى حفرة، وكان جورج رايزنر فى أمريكا -آنذاك. فتتبع رو هذه الحفرة إلى أن توصل لفوهة بئر بعمق يصل إلى نحو 27 مترًا قاده إلى مدخل المقبرة الجانبى الذى كان مغلقًا بأحجار من الحجر الجيرى وكانت مغطاة بطبقة من الملاط لحماية المقبرة من السرقة. ووجد الأثاث الجنائزى الخاص بتلك الملكة مكدسًا داخل هذه المقبرة. وكان هناك أيضًا تابوت مغلق من الألباستر، وصندوق مغلق من الألباستر لحفظ بعض أحشاء الملكة المتوفاة، وكمية ضخمة من الفخار. وتم العمل على إخلاء محتويات المقبرة لمدة عامين. وعند فتح التابوت، كانت المفاجأة أنه وُجد فارغًا. يذكر أن هناك ثلاثة أهرام صغيرة إلى الشرق من الهرم الأكبر، يخص الهرم الشمالى منها الملكة حتب حرس الأولى. وقد سرقت محتويات هذه الأهرام الصغيرة فى العصور القديمة، فيما عدا بعض الأثاث الجنائزى الذى يخص الملكة حتب حرس الأولى، ويعتقد أنه تم نقل أثاث الملكة وربما رفاتها، إلى هرمها وتم ترك الأثاث الباقى فى هذه البئر التى لم يتم استكمالها، أو أنه تم دفن الملكة فى هرمها وتمت سرقة جثتها، ويبقى الأمر لغزًا إلى الآن.
الملكة خع مرر نبتى الثانية ثانى الملكات فى الأسرة الرابعة هى الملكة خع مرر نبتى الثانية، وهى ابنة الملك خفرع، صاحب الهرم الثانى بالجيزة، والملكة خع مرر نبتى الأولى، وهى أيضًا زوجة الملك منكاورع، صاحب الهرم الثالث بهضبة أهرام الجيزة. ويعنى اسمها «شروق المحب للسيدتين (وهما الربتان نخبت وواجيت الممثلتان لمصر العليا والسفلى)». مرت ولاية العرش ببعض التوتر بعد رحيل الملك خفرع، غير أن الحكم وصل إلى ابنه الملك منكاورع من زوجته خع مرر نبتى الأولى. والملك منكاورع هو صاحب الهرم الثالث فى هضبة الجيزة، ومن المعروف أنه من المعبد الجنائزى ومعبد الوادى الخاصين بالملك منكاورع بهضبة الجيزة قد حصلنا على مجموعة غير مسبوقة من التماثيل المصنوعة من الأحجار الصلبة. وتنوعت مجموعات هذه التماثيل ما بين تماثيل فردية، وتماثيل زوجية، والعديد من الأعمال الفنية غير المكتملة بشكل جزئي. وهناك تماثيل تُصوِّر الملك منكاورع منفردًا، وتماثيل أخرى تمثل الملك مع إحدى زوجاته غير المذكورة الاسم، وتماثيل ثلاثية تصور الملك واقفًا بين ربة الحب والجمال ورمز الأمومة والميلاد الملكي، الإلهة حتحور، وإحدى الإلهات الممثلة لأحد الأقاليم حيث كانت تُعبد الربة حتحور. ومن أهم آثار هذه الملكة، تمثالها العلامة الفنية الكبرى والأشهر والموجود فى متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطن فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان قد اكتشف هذا التمثال الجميل عالم الآثار الأمريكى الأشهر جورج رايزنر عام 1910، ويمثل التمثال الملك منكاورع وزوجته الجميلة خع مرر نبتى واقفين على قاعدة غير مرتفعة. واللافت للنظر فى هذا التمثال المعبر عن روح مصر القديمة وتقدير واحترام المرأة هو وقوف الملكة إلى جوار زوجها الملك فى حجم مقارب لحجم الملك كتفًا بكتف. وتطوق الملكة جسد زوجها الملك بذارعها الأيمن، وتضع يدها اليمنى أسفل صدره، وتلامس بيدها اليسرى ذراعه الأيسر فى حنان وحب واضحين. ويمثل التمثال بورتريهًا حضاريًا معاصرًا يعبر عن قمة الحب والتراحم والحنان والتواصل بين الرجل والمرأة فى المجتمع المصرى القديم. ومن المرجح أنه تم دفن الملكة خع مرر نبتى الثانية فى أحد الأهرامات الجانبية الخاصة بالملكات زوجات الملك منكاورع والموجودة إلى الجنوب من هرم الملك منكاورع فى أقصى الجزء الجنوبى من هضبة أهرام الجيزة العريقة. وهو الهرم الشرقى من أهرامات الملكات، الأكثر اكتمالاً بينها. تلك هى قصة الملكة خع مرر نبتى الثانية التى تعد من أبرز الملكات فى عصر الأسرة الرابعة. لقد كانت ذات مكانة وحظوة كبيرة لدى زوجها الملك منكاورع كما يظهر من تمثالهما الجماعى الذى يظهر أروع مظاهر الحب والتراحم والتكامل والتواصل بين الرجل والمرأة فى مصر القديمة.
الملكة خنت كاوس الأولى من المرجح أن الملكة خنت كاوس الأولى قد تكون حكمت مصر فى نهاية عصر الأسرة الرابعة. وقد تعد الملكة الحاكمة الثانية بعد الملكة ميريت نيت، التى حكمت غالبًا مصر فى عصر الأسرة الأولى نيابة عن طفلها الصغير. ويعنى اسم الملكة خنت كاوس الأولى «مقدمة أرواحها».. والملكة خنت كاوس الأولى هي، أغلب الظن، ابنة الملك منكاورع، صاحب الهرم الثالث بهضبة الجيزة. وكانت ربما زوجة للملك شبسسكاف من عصر الأسرة الرابعة، ثم زوجة للملك أوسر كاف، وأمًا للملك ساحورع وللملك نفر إير كارع كاكاى من ملوك الأسرة اللاحقة، الأسرة الخامسة. وهناك من يعتقد أن الملك ساحورع، من ملوك الأسرة الخامسة، كان ابنًا للملك أوسر كاف من زوجته الملكة حتب نفر إس. وربما كانت الملكة خنت كاوس الأولى أمًا ووصية على ابنها الملك جدف بتاح (الذى ذكره المؤرخ مانيتون السمنودى فى قوائم ملوك مصر) من أواخر ملوك الأسرة الرابعة الذى ربما حكم فترة قصيرة بين سنتين إلى تسع سنوات، فضلاً عن كونها أمًا للملك نفر إير كارع كاكاى من ملوك الأسرة الخامسة. ومن المرجح أنها حكمت مصر فضلاً عن وصايتها على حكم ابنها. وتزوجها أوسر كاف بعد وفاة زوجها كى يضمن الوصول إلى عرش مصر وتأسيس أسرة جديدة هى الأسرة الخامسة؛ لذا كانت الملكة خنت كاوس هى همزة الوصل بين الأسرة الرابعة والأسرة الخامسة. ونالت هذه الملكة قداسة وتوقيرًا واحترامًا كبيرين فى عصر الأسرة الخامسة؛ لدرجة أنه سُميت إحدى ملكات هذه الأسرة باسمها، وعرفت باسم «خنت كاوس الثانية»، زوجة ابنها الملك نفر إير كارع كاكاي، ثم ابنتهما، أغلب الظن، «خنت كاوس الثالثة». ومن الجدير بالذكر أن هناك بردية مصرية قديمة تدعى بردية «وستكار» محفوظة فى متحف برلين - وجاء اسمها نسبة للمغامر البريطانى هنرى وستكار الذى اكتشف البردية أثناء إحدى رحلاته إلى مصر – وتسرد نصوص هذه البردية «قصة خوفو والسحرة» أو «قصة بلاط الملك خوفو»، ذلك العمل الأدبى الشهير الذى استخدم أحداثه كاتبنا الأكبر الأستاذ نجيب محفوظ فى تشييد البناء الروائى فى روايته الفرعونية المعروفة «عبث الأقدار». وتتناول تلك البردية نهاية حكم الأسرة الرابعة وتبشر بحكم ملوك الشمس القادمين من صلب إله الشمس رع، وأعنى ملوك الأسرة الخامسة، كنوع من أنواع الدعاية السياسية لأسرة لم تكن يجرى فى عروقها الدم الملكي، فادعت انتسابها لإله الشمس رع حتى تضفى على حكمها الشرعية. وفى هذا العمل الأدبى الخيالي، يمكن اعتبار الملكة خنت كاوس الأولى هى السيدة رودجدت التى أنجبت أول ثلاثة ملوك من عصر الأسرة الخامسة وهم الملك أوسر كاف، والملك ساحورع، والملك نفر إير كارع كاكاى كما يذكر ذلك العمل الأدبى المدهش. وبنت الملكة خنت كاوس الأولى مقبرة كبيرة بالقرب من المجموعة الهرمية لأبيها الملك منكاورع. وكان يعتقد أن مقبرة هذه الملكة هى «الهرم الرابع» غير المكتمل بهضبة الجيزة؛ بل إن الأثرى الكبير الدكتور سليم حسن، الذى قام بالحفائر فى مقبرتها عام 1932، أطلق عليها «الهرم الرابع» بالجيزة. غير أن الحقيقة أن مقبرتها الضخمة عبارة عن مقبرة على شكل مصطبة كبيرة تتكون من مدرجين فقط، وهى منحوتة فى الصخر الطبيعى لهضبة الجيزة. وتم استكمال هذه المقبرة فى عصر الأسرة الخامسة نتيجة الصلة القوية للملكة خنت كاوس الأولى بملوك هذه الأسرة التى ربما تزوجت من أول ملوكها وحكم بعده اثنان من أبنائها. وفضلاً عن المقبرة نفسها، فإنه توجد عناصر معمارية أخرى ضمن هذه المجموعة الجنائزية مثل معبد للوادى وطريق صاعد ومقصورة وحفرة المركب (غالبًا لمركبين) والمدينة المخصصة للقائمين على خدمة المقبرة وإقامة الشعائر الجنائزية على روح الملكة ومخازن الغلال وخزان المياه. وتم نهب مقبرتها واستخدامها فى عصور لاحقة. ورغم أنه تم تصوير الملكة ترتدى زيًا نسائيًا داخل مقبرتها بالجيزة، فقد تم تمثيلها فى هيئة رجالية تمامًا مثلها مثل الملوك، فنراها جالسة على العرش، وتضع لحية مستعارة والصل الملكى (ثعبان الكوبرا) وتمسك فى يدها الصولجان الملكى كدلالة على حكمها للبلاد.
ونجد أن هذه الملكة حملت ألقاب «أم الملك»، و«أم ملكى مصر العليا والسفلي»، أو ربما «ملكة مصر العليا والسفلى وأم ملك مصر العليا والسفلى». ومن الملاحظ أنه لم يُكتب اسم الملك خنت كاوس الأولى داخل الخرطوش الملكى (شكل بيضاوى تنقش داخله أسماء الملوك) كعادة الملوك المتوجين والحاكمين فى مصر القديمة. غير أنه من المرجح أنها حكمت البلاد نيابة عن ابنها بشكل مؤقت، ما استوجب مكافأتها بالسماح لها ببناء هذه المقبرة الضخمة مع أسلافها وأهلها من ملوك مصر العظام، ملوك الأسرة الرابعة فى الجيزة.