كان الشيخ ياسين رشدى (1932-2010)واحدا من إرهاصات ظاهرة الدعاة الجدد، أو لعله أولهم وأكبرهم سنا، وهو مثلهم ليس ابناً للمؤسسة الدينية الرسمية، فقد تخرج في الكلية البحرية في نفس العام الذي قامت فيه ثورة يوليو 1952، وقد قضى شطرا من حياته ضابطا بحريا قبل أن يخرج من الخدمة في عام 1965 وهو العام نفسه الذى شهد القبض على عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بتهمة تأسيس تنظيم يهدف لاغتيال رئيس الجمهورية وقلب نظام الحكم وتفجير القناطر الخيرية. ورغم الغموض الذي أحاط بياسين رشدى هذه الفترة من حياته فإنه صارح جمهوره في نوبة هجاء عارمة للستينيات أنه تعرض فيها لتجربة اعتقال تزامنت مع تغييره لوظيفته وتحوله إلى قبطان بحرى، يمكن القول إن ياسين رشدي كان من أولئك الذين اتهموا بالتعاطف مع أفكار الإخوان المسلمين ولو من بعيد وأن هذا الاتهام لم يقده إلى المحاكمة الفعلية، أو قضاء مدة عقوبة فى السجن وأنه في خطبه المختلفة بعد أن أضحى داعية شهيرا في الإسكندرية كان حريصا على تأكيد استقلاله عن كل الجماعات الموجودة على الساحة وقتها، وعلى إخبار جمهوره أن الإسلام لا يعرف الجماعات، بحسب بيانات سيرته الذاتية فقد عرف رشدى طريقه نحو الالتزام الدينى في العام 1962، من خلال التلمذة على شيخه محمد الأمير، ونفهم من هذا أنه بدأ رحلة التزامه وهو على أبواب الثلاثين من عمره، وإنه لم يبدأ رحلته مع الخطابة وإعطاء الدروس إلا بعد أن أجازه شيخه لهذه، والإجازة من الشيخ هى طريقة تعليم تقليدية عرفها العالم الإسلامي كله قبل أن تتطور جامعاته الدينية لتصبح مؤسسات حديثة، ويمكن وصفها بأنها نوع من أنواع التعليم الأهلي غير الرسمي عبر العلاقة بين الشيخ والتلميذ، والحقيقة أن الشيخ ياسين رشدي لم يبدأ رحلته كخطيب لمسجد المواساة الشهير في الإسكندرية إلا فى عام 1983 بعد عامين من تولى الرئيس مبارك لحكم مصر، وبعد فترة طويلة قضاها رشدى كقبطان بحري في شركات النقل الحكومية ثم كوكيل لوزارة النقل، وهي رحلة أنهاها بالاستقالة والتفرغ للعمل كرئيس لمجلس إدارة مسجد المواساة السكندري الشهير والذي حمل اسم جمعية خيرية أهلية أسسها محمد فهمي عبد المجيد عام 1930 بهدف إنشاء مستشفى خيري يعالج المرضى بالمجان.. ضمن تغييرات كثيرة آلت الجمعية للشيخ ياسين رشدي الذي ضاعف مساحة المسجد عدة مرات، وحوله إلى مسجد مكيف الهواء للمرة الأولى في مصر تقريبا، فضلا عن إضافة وحدة لتسجيلات الفيديو والكاسيت من أجل تسجيل الدروس وهو ما كان أمرا بالغ التطور وقتها، ويشى بمسحة أرستقراطية أضفاها ياسين رشدى على المسجد، كان رشدي بشكل أول داعية مصرى يتشابه بشكل واضح مع نمط الوعظ البروتستانتيّ في عدة نواح، فهو يرتدي زيا إفرنجيا يشبه زي الجمهور لا زي أبناء المؤسسة الدينية الرسمية، وهو يتحدث لغة الجمهور العامية البسيطة، وهو ذو ثقافة دينية ذاتية اكتسبها بنفسه وليس عبر الدراسة في الأزهر، وهو يدير مؤسسة خيرية تجمع بين العمل الديني والعمل الاجتماعي الخيري.. وهي كلها صفات للوعظ البروتستانتيّ تؤكدها صدفة أن المستشفي الذى بنته الجمعية الخيرية التي آلت إليه إدارته بعد نصف قرن بنى علي نمط مستشفي مسيحي ألماني يحمل اسم (مارتن لوثر) وأن المهندس الذي بنى المستشفي الألماني هو نفسه الذي بنى مستشفى المواساة المصرى، بغض النظر عن هذه المصادفة فيمكن القول أن ياسين رشدي كان يحمل أيضا بعض الملامح التقليدية في خطابه والتي اختفت من خطاب الأجيال التالية من الدعاة الجدد، ولعل أهم هذه الملامح نزوعه للحديث العام في السياسة من وقت لآخر وهو يتشابه في هذا مع مشاهير الدعاة في السبعينيات مثل الشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ محمد الغزالي، حيث يوجه اللوم للشعوب والحكومات على تخلف المسلمين وضعفهم وعدم تحكمهم فى أمورهم، ويطالبهم بالنهضة والاتحاد ومواجهة الغرب، وهو خطاب عام، غير تفصيلي، لا يناقش قضية بعينها، ولا يوجه اتهاما لمسئول بعينه، وله جذور بعيدة فى خطاب جمال الدين الأفغانى (1838-1897)، والذي انتقلت الطبعة السلفية منه عبر رشيد رضا (1865-1835) لجماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا (1906-1948) ومنه إلى عدد كبير من الدعاة وغير الدعاة الذين تأثروا بأفكار الجماعة.. وإلى جانب النزوع للخوض في السياسة وتوجيه اللوم للحكام والشعوب معا على تقصيرهم كان ياسين رشدي يتسم بذلك الأسلوب الآمر والتهكمي الذي يجلس فيه الداعية على مقعد أعلى بكثير من مقعد المتلقي، ويوجه له اللوم دائما إما على تقصيره في أمور الدين، أو علي عدم فهمه، أو على إساءته لفهم ما قاله الشيخ فى درس سابق، أو على إساءته الظن بالشيخ عبر الاستفسار عن أمر ما فى سلوكه الشخصي، وقد كان المناخ مهيئا لكي يعبر الشيخ عن كل هذه الانفعالات والأداءات المختلفة عبر فقرة أسبوعية امتدت لسنوات طويلة كان الشيخ فيها يتلقي أسئلة مختلفة من الجمهور.. يسهم في إلقائها مذيع محترف ذو صوت مميز.. وقد أفرجت إدارة المسجد عن هذه اللقاءات الكثيرة وإتاحتها عبر قناتها على يوتيوب بعد ما يزيد على اثني عشر عاما على رحيل الشيخ الذى رحل في صمت عام 2010.. بعد فترة اعتزال طويلة لزم فيها بيته وامتدت لاثني عشر عاما كاملة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال على يد شخص عرفته الصحف بأنه (فني ميكانيكا) سدد طعنة بمطواة للشيخ في ظروف شابها الكتمان، نتج عنها قرار الداعية الشهير بالاعتزال وتصميمه على ألا تقام له جنازة ولا عزاء بعد وفاته وهو ما حدث بالفعل.. كان ظهور ياسين رشدي إحدى علامات ما يمكن تسميته بتدين البرجوازية المصرية، وإقبال الشرائح العليا من الطبقة الوسطى المصرية على ما كان يعرف ب(الالتزام الديني )كبديل لمشروع الحداثة الفاشل، وكامتداد لصعود التيارات الدينية في مصر، والذي بدأ منذ السبعينيات واستمر حتى سقوط الإخوان المسلمين في يونيو 2013، لتتخذ ظاهرة التدين أشكالاً أخرى في حياة المصريين، كان ياسين رشدي نفسه واحدا من أولئك البرجوازيين الذين عادوا إلى الدين، كان مسئولا سابقا ورجل أعمال ثرياً، وكان حريصا إلى الإشارة إلى أن كل أنشطته في الدعوة هي بمثابة تطوع لا يقصد منه سوى وجه الله تعالي، كان الرجل حريصا على أن يتسم مظهره ومسجده أيضا بمسحة أرستقراطية تجتذب هذه الطبقة التي حملت المشروع الحداثي في مصر على أكتافها منذ عهد محمد علي وحتى عهد جمال عبدالناصر، ولم يكن حرجا في توجيه اللوم للفقراء الذين لا يهتمون بنظافتهم الشخصية بنوع من أنواع الفجاجة والقسوة أحيانا.. وقد فعل شيئا من هذا مع مصلٍ أرسل يسأله عن فحوى الحديث النبوي الشريف (ساووا الصفوف وسدوا الفرج) بضم الفاء، وهو توجيه نبوي للمسلمين بأن تتلاصق أقدامهم في الصلاة بحيث لا يكون هناك فراغ بين قدم كل مصل والمصلي الذي يليه، ينتج عن هذا التوجيه تلاصق الأجساد والأقدام فى كل مسجد تقام فيه الصلاة.. بشكل عام كانت ثمة إحساس يسيطر على الشيخ ياسين رشدي بأن ثمة من يتعمد وضع أسئلة محرجة له.. أو أن السؤال الموجه له ليس خالصا لوجه الله تعالي.. وقد تعامل مع هذا السؤال بهذه العقلية.. وربما كان سبب هذا أنه لا يحرص على توجيه المصلين بأن (يساووا الصفوف ويسدو الفرج ).. ورغم استفزازه من السؤال إلا أنه لم ينكر صحة الحديث النبوي، لكنه انطلق فى وصلة لوم طويلة لصاحب السؤال وللمسلمين جميعا متسائلا عن قضايا المسلمين الكبرى وعن معنى مساواة الصفوف؟ وهل هو مقتصر فقط على صفوف المسلمين في المسجد؟ وهل أدى كل مسلم ما عليه من عمل ولم يبق إلا قضية مساواة الصفوف في المسجد، وبتفصيل أكثر انطلق الداعية مخاطبا شخصا غائبا هو صاحب السؤال (ثم افرض أنك جربان يا أخي؟ أو أنك لا تستحم ..لماذا تلتصق بجارك فى الصلاة وتضايقه يا أخى ؟!). كشك الأنيق في عام 1991 حصل الشيخ ياسين رشدي على نوط الامتياز فى يوم تكريم الدعاة، وفي نفس العام استضافته المذيعة كريمان حمزة في سلسلة طويلة من الحلقات ساهمت في ذيوع شهرته، وهو نفس ما فعلته مع دعاة آخرين مثل عمر عبدالكافي وعمرو خالد ساهمت في تقديمهم للرأي العام في وقت كان فيه التليفزيون المصري يحتكر البث ويمثل الظهور فيه طريقا وحيدا للشهرة والذيوع.. كانت كريمان حمزة (1942-2023) أول مذيعة ترتدي الحجاب عام 1970، وقد تزامن ارتداؤها الحجاب مع تولي الرئيس السادات الحكم وتوجهه لإتاحة مساحة كبيرة للإسلاميين في المجتمع المصري، ولعل هذا التحول قد طمأن كريمان إلى أن ارتداءها الحجاب لن يمنعها من الظهور على الشاشة وهو ما حدث بالفعل، أتيحت لها الفرصة لتقديم عدد من البرامج الدينية للأطفال والكبار وكانت قد تزوجت من عضو فى جماعة الإخوان المسلمين قبل أن تنفصل عنه وتتزوج من آخر، وبشكل عام كان لديها اعتقاد أنها لا بد أن تخدم قضية الإسلام كما تفهمها من خلال برامجها، وكانت طريقتها هي استضافة الدعاة الذين مروا بجماعة الإخوان المسلمين وتأثروا بأفكارها، سواء استمروا في عضوية الجماعة أم لا.. وهكذا بدأت منذ السبعينيات فى استضافة دعاة مثل يوسف القرضاوي، ثم محمد الغزالي، ومن الجيل الجديد قدمت ياسين رشدي، وعمر عبد لكافي، ثم عمرو خالد في بداياته.. وهكذا وفي إطار هذا الدور الذي رسمته لنفسها نال الشيخ ياسين رشدي نصيبه من الشهرة علي يديها بعد أن كانت شهرته تقتصر على مدينة الإسكندرية فقط.. لم يكن الشيخ ياسين رشدي معارضا إذن، لكنه بكل تأكيد لم يكن حكوميا.. كان مع غيره من الدعاة قد دخل الثمانينيات بقوة دفع الصفقة مع الإسلاميين في السبعينيات خاصة أنه لم يتمرد تمردا معلنا فى نهايات عصر السادات كما فعل غيره، وبشكل عام كانت سياسات النصف الأول من سنوات حكم مبارك امتدادا للسبعينيات بنبرة أهدأ وأداء أكثر تبلدا وجمودا، وهكذا كان ياسين رشدي إسلاميا معارضا للدولة ولكنه جزء منها أيضا.. كان أقرب لصيغة انتقالية بين أداء دعاة السبعينيات الصاخب لحدود الابتذال كما فى حالة الشيخ كشك مثلا، وبين أداء دعاة الألفية الثانية المهذب والناعم، والذي يراهن على أسلمة الطبقات المتحكمة من أسفل وبهدوء وبحس إصلاحي يراهن على تزيين النخب المالية والسياسة الجديدة في مطلع الألفية.. هذه الصيغة الانتقالية كانت تفرض على ياسين رشدى أن تتلبسه روح الشيخ الغاضب عبد الحميد كشك أحيانا، أو أن يتمثل نوبات غضب أستاذه الشيخ متولى الشعراوي أحيانا.. ففي بعض المرات وبسبب رغبته في مساندة الشيخ الشعراوي ضد الهجوم عليه أطلق رشدي الأنيق والمهذب مدفعيته الثقيلة ضد ثورة يوليو، وضد قائدها جمال عبد الناصر، وضد عقد الستينيات كله، ليظهر وجها متماهيا مع جماعة الإخوان وخطابها لأقصى درجة وكاشفاً عن اعتقاله مع أعضاء الجماعة في -965دون أن يصرح بانتمائه لها.. كانت ضجة كبيرة قد تفجرت عام 1989عقب ظهور الشيخ الشعراوي في برنامج (من الألف إلى الياء) بصحبة المذيع طارق حبيب، واعترافه الشهير بأنه سجد لله شكرا حين سمع بخبر هزيمة مصر في عام 1967 وتبريره لهذا الإحساس الذي أحس به، وقد أثارت الحلقة ضجة كبيرة وكثيرا من النقد من كتاب وصحفيين لما قاله الشعراوي.. على اعتبار أن من ماتوا فى المعركة هم ضباط وجنود مصريون، لا يجوز لمصري أن يبدي الفرح في مقتلهم، وقد كان هجوم الصحافة على الشيخ الشعراوى موضوعا لخطبة ياسين رشدى الذى تابع الأمر من الإسكندرية وقرر أن يشن هجوما قاسيا على الصحافة سواء الحكومية أو الحزبية، حيث اتهم الصحفيين إنهم لا يجرؤون على مهاجمة الراقصة سهير زكي ولا المطرب سيد مكاوي ولا المطربة شريفة فاضل التي وصفها متهكما ب(أم البطل) إشارة لأغنية سجلت فيها واقعة استشهاد نجلها فى سيناء، و يمضي رشدي قائلا إن الصحافة لا تستطيع أن تهاجم بار (مانولي) أو شارع عماد الدين.. وأن الصحفيين اليوم هما أنفسهم شعراء الأمس، الذين قال فيهم الله (والشعراء يتبعهم الغاوون).. وأنهم مأجورون يمدحون كل حاكم ثم يهيلون عليه التراب، وأنهم فعلوا ذلك مع عبد الناصر والسادات بينما يسجدون الآن لمبارك ويعلم الله ماذا سيقولون عنه في الغد؟ يرى ياسين رشدي أن الصحفيين -جميعا -من المنافقين وأنهم (إذا أعطوا رضوا وإذا منعوا غضبوا ) وأن ذلك ينطبق عليهم جميعا سواء الذين يكتبون في الدين، أو في الفن، أو في الماركسية.. ذلك أن بعضهم كان دينه هو الماركسية فى يوم من الأيام، وعندما جاء الانفتاح أصبح يغنى للانفتاح، وبدلا من تمجيد روسيا فى الستينيات أصبح بعضهم يمجد أمريكا الآن، ويخلص الشيخ من ذلك كله إلى أن الصحفيين الذين هاجموا الشيخ الشعراوي (لا يؤخذ منهم رأي، ولا حق، ولا دين) وهم (المغتابون، النمامون،وفي كل واد يهيمون)هذا عن الطرف الأول وهم الصحفيون.. أما الطرف الثاني «الشعراوي» فهو -كما يقول رشدي -ظاهرة عصره ، تحيط به عيون الحاسدين ،والحاقدين، والجاهلين بقدره من كل جانب ،ويختم رأيه قائلا بأن الشيخ الشعراوي مثل الهرم لا يدانيه أحد في شعبيته ولا تأثيره ..أما من حيث الموصوع (الفرح بسبب هزيمة مصر) فإن الشيخ رشدي يؤيد الشيخ الشعراوي تماما ويضرب مثلا بنفسه قائلا لجمهوره (لو انتصر الجيش المصري في النكسة لما كنت جالسا بينكم الآن، كان رماني في السجن، وكان زمانكم في بيوتكم لابسين طرح!! لأن كل مصر كانت لابسة طرح في عصر عبد الناصر و(اللي فتح بقه دخل السجن وأنا منهم)، ويواصل (عبد الناصر كان جبار، واللي معاه كانوا جبارين بدليل عناوين الصحف وقتها واسمع بقى.. القبض على علي صبري في مطار القاهرة بتهمة التهريب.. طيارته فيها بضايع من موسكو بالملايين.. القبض على عبد الحكيم عامر وعلى صلاح نصر وهتك الأعراض كل هذا في الأهرام.. عصر عبد الناصر (ماكانش في دين ) ثم روى الشيخ تفاصيل استبعاده من عمله الأول بسبب ما اعتبره هو تدينه. 5